..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مقالات منوعة

الفساد في سورية (1963م-2000م)... حقائق وأرقام

بشير زين العابدين

١ ٢٠١١ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 11214

الفساد في سورية (1963م-2000م)... حقائق وأرقام
hafez.jpg

شـــــارك المادة

قد لا تبدو سورية في ظل البعث وأسرة الأسد خروجاً عن القاعدة في دول العالم الثالث التي ينخرها الفساد، واستغلال ثروات البلاد، إلا أن كتاب  "الفساد في سورية" الصادر عن مركز الدراسات الإسلامية في برمنجهام في بريطانيا؛ يضعنا أمام حالة من الفساد لها خصوصية.

 

 

ويأخذ الفساد فيها بعداً طائفياً عقائدياً لا لبس فيه، حيث يحكم العلويون النصيريون سوريا بشكل مطلق منذ انقلاب حافظ الأسد سنة 1970م، وإن كان الوجود والتأثير النصيري موجودين قبل ذلك الانقلاب.
ويشير الدكتور/ بشير زين العابدين في مقدمته إلى أنه بالرغم من وجود الفساد في الفترة السابقة لحكم البعث -أي قبل سنة 1963م، وهي السنة التي بدأ بها الكتاب- إلا أن سياسة النظام في الفترة اللاحقة له قد أدّت إلى ترسيخ هذه الأمراض التي كانت لها نتائج وخيمة على التطور الاقتصادي لسورية.
أقسام الكتاب:
يقسم المؤلف الكتاب إلى سبعة فصول، يحدد الفصل الأول الجذور التاريخية لمعتقدات النصيرية، ونمط الفساد الاجتماعي الذي نشأ كنتيجة حتمية للتوغل في طريق الغلو والانحراف.
ويعنى الفصل الثاني بتطور مؤسسات الفساد التي تحكم البلاد من خلال حزب البعث والجيش وأجهزة الاستخبارات، ويتتبع الفصل الثالث مسيرة انحراف المؤسسات الاقتصادية التي أعيد توجيهها لتشكل عصب حياة السلطة الحاكمة.
ويشكل الفصلان الرابع والخامس محاولة لتحديد أبرز المسؤولين عن الجرائم الاقتصادية والإنسانية التي ارتكبت بحق الشعب السوري، ويقدم الفصلان السادس والسابع استعراضاً تاريخياً لحملات مكافحة الفساد التي شنها النظام الحاكم ضد نفسه في معارك إعلامية مصطنعة تهدف إلى تقوية الحكم محليّاً، وكسب التعاطف الدولي.
ويختتم المؤلف بحثه بنظرة متمعنة في الأسس التي قام عليها حكم بشار الأسد سنة 2000م؛ وهي الفترة التي انتهى عندها الكتاب، وتركيبته الجديدة التي نشأت على عين والده، والتي تتمثل في تكريس الهيمنة الطائفية عن طريق تبني إصلاحات شكلية تسهم في تأجيل التغيير الحقيقي الذي يشكل خطراً على النظام.
جذور الفساد:
يرجع المؤلف جذور الفساد في الحكم الحالي في سوريا إلى الفساد في عقائد النصيرية التي ينتسب إليها رئيس سوريا الحالي، وينتسب إليها معظم القادة المؤثرين ورؤساء الأجهزة العسكرية والأمنية.
ويمكن تلخيص أبرز عقائد النصيريين فيما يلي:
1- عقيدة الحلول والاتحاد، وتأليه علي بن أبي طالب.
2- تناسخ الأرواح، ونفي البعث والحساب.
3- إسقاط التكاليف الدينية، وإهمال الفرائض والامتناع عن إقامة المساجد وعمارتها.
4- التأويل الباطن للنصوص، وسرية طقوسهم وأعيادهم، واستحلالهم للمحرمات كشرب الخمر وغيره.
وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في رسائله بأنه لا تجوز مناكحتهم، ولا تباح ذبائحهم، ولا يصلى على من مات منهم. وقال في موضع آخر: "وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من أكبر الكبائر وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم، فإنهم أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم، وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة، وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين، ولا ريب أن جهاد هؤلاء من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات".
وانعزل النصيرية في بلاد الشام دينياً واجتماعياً عن المجتمع، لما لديهم من حقد وكراهية لأهل السنة، وهذه الكراهية كانت سبباً في وقوفهم مع الصليبيين ضد صلاح الدين الأيوبي، ومع التتار ضد الظاهر بيبرس، ومع الصفويين ضد العثمانيين.
وفي فترة الاستعمار الفرنسي، تحفل المستندات الفرنسية بالمراسلات مع زعماء الطائفة الذين طالبوا بالانفصال الكامل عن أهل السنة في سوريا، وتواطؤهم مع المستعمر ضد المسلمين، ففي تقرير بعثه الجنرال "غورو" للحكومة الفرنسية سنة 1919م عن تعاون النصيريين معه قال:
"وأفيدكم بهذا الصدد أن النصيريين -الذين يستيقظ حسهم الإقليمي- قد ساعدوني كثيراً في قمع الفتنة التي أثارها الشريف (فيصل) في منطقة تل كلخ، فقد تلقيت برقية تفيدني بأن 73 زعيماً نصيرياً يتحدثون باسم القبائل يطالبون بإنشاء اتحاد نصيري مستقل تحت حمايتنا المطلقة".
النشأة الاجتماعية للنصيريين:
نشأ النصيريون في قرى معزولة وفي مناطق جبلية ووعرة مما أدى إلى شعور الغالبية من أبناء الطائفة بعقده النقص والقلة المحتقرة، وغدت عقائد النصيرية بحكم العزلة والجهل إلى ما يشبه عادات المجوس، حيث يبيحون إشاعة البنات والأخوات والأمهات، ولا يصلون ولا يتطهرون ولا يصومون مثل المسلمين، وإن لهم نظرة مختلفة في المحرمات؛ مثل: أكل الميتة، ولحم الخنزير، بينما يشكل الخمر عنصراً رئيسياً في طقوسهم الدينية.
وقد كان العلويون يعيشون أوضاعاً اقتصادية سيئة دفعتهم للعمل في المهن المبتذلة، ويشير الكاتب البريطاني "باتريك سيل" وغيره إلى أنه حتى سنة 1950م كان هناك حوالي عشرة آلاف فتاة علوية يعملن كخادمات في منازل بدمشق.
وإضافة لذلك كانت المهنة الرئيسة للعلويين هي الزراعة، كما أن الكثيرين منهم انضموا إلى الجيش في الوقت الذي كان فيه أهل السنة من أبناء المدن يتجنبون هذه المهنة، وكانت النتيجة هي هيمنة العلويين على الجيش بعد فترة الانفصال.
وحيث أن هؤلاء النصيرية بلغوا هذا المستوى من الانحراف العقائدي، والانحطاط الاجتماعي والاقتصادي، وبدافع الحقد والكراهية، فقد كان من الطبيعي بالنسبة لهؤلاء النصيرية أن يسيروا بالمجتمع السوري المسلم السني إلى الهاوية، ويوقعوه في براثن الانحطاط والفساد الديني والاقتصادي والاجتماعي والفكري.
وبناء على ذلك، قامت سرايا الدفاع والوحدات الخاصة سنة 1983م بدكّ مدينة حماه، وقتل حوالي 30 ألفاً من سكانها وهدم مساجدها، وأقام النظام على أنقاض بعضها كنيسة كاثوليكية إضافة إلى معهد رياضي للبنات وبركة سباحة مختلطة، وفي نفس العام كانت القوات التابعة لرفعت أسد -شقيق رئيس الجمهورية- تجبر المسلمات على نزع حجابهن.
وفي أوائل سنة 1984م كان النصيريون يبذلون جهودهم من خلال "جمعية المرتضى" برئاسة جميل أسد -شقيق رئيس الجمهورية- لدعوة أهل القرى المجاورة للساحل السوري لمذهبهم، حيث زعموا أن هؤلاء الأهالي كانوا أصلاً نصيريين وأجبروا على اعتناق الإسلام في فترة الحكم العثماني.
مؤسسات الفساد:
وبالرغم من وجود سلطة تشريعية وتنفيذية ظاهرية في سوريا يمثلها مجلس الوزراء ومجلس الشعب، إلا أن الدلائل تشير إلى وجود سلطة حقيقية هي الحاكم الفعلي للبلاد يمثلها الجيش وحزب البعث والمخابرات.
ومن الواضح أن النظام يضع في الواجهة دائماً شخصيات سنّية تمثل الأغلبية في البلاد، بينما يستأثر النصيريون من خلف الستار بمقاليد الحكم في سوريا، بل إن بعض المهتمين بالشأن السوري يجعل حزب البعث الذي يمسك بمقاليد السلطة في سوريا منذ سنة 1963م غير مؤثر وغير فاعل، حيث السلطة بيد النصيريين الذين يسيطرون على جميع المؤسسات الفاعلة ومن ضمنها حزب البعث، وبهذا الصدد ينقل المؤلف عن ديفيد هيرست قوله:
"إن البعثيين لا يحكمون البلاد بأي حال، بل العلويون هم الحاكمون الفعليون، فهم يديرون البلاد نظرياً من خلال الحزب، ولكنهم يديرونها عملياً من خلال تضامنهم السري داخل الحزب والمؤسسات الهامة الأخرى، فخلف الواجهة نجد أن صلة القرابة بالرئيس العلوي هي أعظم الصفات لتقلد السلطة وذلك عن طريق الأواصر العائلية أو الطائفية أو العشائرية".
1- حزب البعث:
كان الحزب ومع تسلمه السلطة سنة 1963م وعاءً يضم الانتهازيين والنفعيين، حتى بلغ عدد المنتسبين له 540 ألفاً بحلول سنة 1985م، ومن أجل بسط هيمنة الحزب على المجتمع بدأت مرحلة من التنسيب غير المنظم، وأدّت هذه السياسة -التجميع- إلى تفجر الخلاف بين أعضاء الحزب وانقسامهم إلى قوميين وقطريين، واشتراكيين ثوريين ومعتدلين، كما أن سياسة التجميع هذه أدّت إلى ضم أعداد كبيرة من أبناء الطوائف النصيرية والدرزية والإسماعيلية الذين ركبوا موجة البعث. وكان من نتائج سيطرة النصيريين على حزب البعث أن فرّ عدد من مؤسسي البعث من غير النصيريين؛ مثل: ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وتبين أن الحزب قد تحول إلى جهاز تستخدمه السلطة الخفيّة من أبناء الطائفة لتحقيق المكاسب والإثراء.
2- الجيش:
تعود مشكلة الطائفية في الجيش السوري إلى الفترة 1920م-1945م، عندما قام الفرنسيون بتشكيل "جيش الشرق" الذي يتكون من وحدات عسكرية ينتمي أفرادها إلى الأقليات الدينية ليقوم أفراده بقمع المظاهرات وضرب المقاومة الشعبية.
ونظراً لهيمنة العائلات السنّيّة على العمل السياسي بعد الاستقلال فقد وجد أبناء الطوائف داخل المؤسسة العسكرية مجالاً واسعاً لتحقيق طموحاتهم وبسط نفوذهم، مما أدى إلى انقسام الجيش على أسس طائفية وتعدد الولاءات، وانتشار الفوضى التي أسهمت في هزائم 1948م و 1967م و 1973م.
وتستهلك المؤسسة العسكرية 60% من الميزانية السنوية، ويزيد تعداد الجيش عن 400 ألف عنصر، ولا تخضع حساباته لأي رقابة أو تفتيش حكومي، إنما يخضع ويرتبط مباشرة برئيس الجمهورية.
وفي ظل الدولة النصيرية يلاحظ على الجيش أمران:
الأول: تولي النصيريين معظم المناصب القيادية بحيث تزيد نسبة الضباط النصيريين في الجيش عن 90%، وكان ذلك بالتدريج عن طريق تصفية العناصر السنيّة ثم الدرزية والإسماعيلية أولاً، وفي المرحلة الثانية تأسيس فرق ينتمي أفرادها إلى الطائفة الحاكمة، كان لها فيما بعد الدور الكبير في المذابح التي ارتكبت ضد المسلمين من أبناء الشعب السوري، كما في جسر الشغور وحلب وسجن تدمر سنة 1980م، وفي مدينة حماه سنة 1982م.
الآخر: تضخم هذه المؤسسة التي صارت تمارس السيطرة على الشؤون السياسية والاقتصادية وتفرض سياساتها على الحكومات بدلاً من أن تخضع لها.
ولا يخفى حياة البذخ والثراء التي يعيشها الضباط، واستغلال مناصبهم، وابتزاز المواطنين الأمر الذي حوّل هذه المؤسسة إلى جهاز ضخم يمتص خيرات البلاد.
3- المخابرات:
إن الوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها أقلية لا تتجاوز نسبتهم 8% من المجتمع أن تحكم سيطرتها على أنظمة الحكم ومؤسسات الدولة هي تطوير أجهزة القمع، فقد تم تأسيس 12 جهازاً أمنياً مرتبطاً برئيس الجمهورية، والمناصب العليا فيها حكر على أبناء الطائفة النصيرية، حيث كان يتربع على قمتها؛ علي حيدر، ومحود الخولي، وعلي دوبا، حتى استبدلوا بآصف شوكت، وبهجت سليمان، من الجيل الجديد وكلهم من النصيريين.
وتتراوح التقديرات عن عدد الموظفين في هذه المؤسسة القمعية الرهيبة بين 200 و 300 ألف عنصر -أي بمعدل مخبر واحد لكل 60 مواطناً- يستخدمون 17 ألف سيارة، وقد استطاعت إحدى منظمات حقوق الإنسان أن تحصي أكثر من ثلاثين سجناً رئيساً تابعاً لأجهزة الاستخبارات في مدينتي دمشق وحلب فقط، بينما تتسع أروقة المخابرات في دمشق وحدها للتحقيق مع أكثر من ألف شخص في وقت واحد.
الارتزاق الدولي:
وهو جانب من جوانب الفساد في السياسة السورية، ويقضي بتحويل المواقف الرسمية والفرق العسكرية إلى مادة أوليّة يبيعها النظام لمن يدفع له.
وتشكل هذه السياسة 60% من الميزانية السنوية لسوريا، ومن الأمثلة على ذلك:
1- الجولان: حيث أدّى سقوطها في ظروف مشبوهة إلى أن تقدم الدول العربية ملياري دولار سنوياً كدعم لصمود سوريا المفترض.
2- العلاقة مع الولايات المتحدة: التي كانت تسعى لإبعاد سوريا عن الاتحاد السوفييتي، وشجعته لتبني سياسة عدائية ضد الفلسطينيين والعراق، التوجه نحو حلف سعودي مصري، وكانت المساعدات الأمريكية تتدفق على سوريا بمعدل 60-100 مليون دولار سنوياً بموجب اتفاقيات تم إبرامها في 27/2/1975م، ناهيك عن المساعدات الغربية الأخرى.
ثالثاً: الحرب العراقية-الإيرانية سنة 1980م- 1988م، حيث وقف النظام السوري في صف إيران ضد العراق على عكس بقية الدول العربية التي ساندت العراق، واستطاع بذلك الموقف الحصول على هبة نفطية سنوية مقدارها 200 مليون دولار، إضافة إلى كميات أخرى بأسعار مخفضة، وقروض بمبلغ خمسة مليارات.
رابعاً: أزمة الخليج الثانية سنة 1990م، حيث سارع حافظ أسد إلى الوقوف إلى الولايات المتحدة وتحالفها ضد العراق مستفيداً بذلك مبلغ 500 مليون دولار سنوياً ومنذ سنة 1991م، كما تعهدت الدول الخليجية بدفع ملياري دولار لسوريا جراء موقفها من هذه الحرب.
دور الجيش السوري في تجارة المخدرات:
تشير الكثير من الأدلة إلى تورط عدد من الضباط السوريين في الأجهزة الأمنية المختلفة في تجارة المخدرات؛ حيث يتم زراعة الأفيون في سهل البقاع اللبناني، ويتولى المسؤولون السوريون تسويقه لدى شبكات التجارة العالمية، ففي شهر مايو سنة 1985م قامت السلطات الإسبانية بطرد القنصل العام والمسؤول الأمني في السفارة السورية بسبب انكشاف دورهم في شحنة هيروين تم مصادرتها.
ونقلت مجلة الأكسبرس الفرنسية عن إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية (DEA) أن تجارة الأفيون وحدها قد وفرت للمسؤولين السوريين مكاسب تقدر بمليار دولار في عام 1986م، ونتج عن ذلك تضاعف إنتاج هذه المادة إلى خمسة أضعاف في المناطق التي تخضع للقوات السورية في لبنان، وصارت الأرباح التي تقدر بمئات الملايين تقتسم بين المزارعين والمنتجين والمسوّقين والقوات العسكرية السورية.
التحليل الاقتصادي لظاهرة الفساد:
تشير الدراسات الحديثة إلى وجود علاقة وطيدة بين تدهور الاقتصاد في العديد من الدول النامية وانتشار الفساد المالي والإداري، ويسعى هذا الفصل من الكتاب إلى تتبع مسيرة انحراف المؤسسات الاقتصادية التي أعيد توجيهها لتشكل عصب حياة السلطة الحاكمة.
ولعلّ بعض الأرقام عن الاقتصاد السوري تبين لنا الوضع المخيف الذي وصلت إليه الأوضاع في سوريا، فمديونية الدولة تبلغ 27 مليار دولار، واختفاء بعض المواد التموينية بات يشكل ظاهرة إضافة إلى تردي الخدمات، وتبلغ نسبة البطالة 30%، ونسبة التضخم تزيد عن 100%، بينما تنشط عصابات تهريب البضائع من لبنان وتركيا وغيرهما.
ويمكن إرجاع الخلل في السياسة الاقتصادية إلى عاملين رئيسين:
الأول: الطرح الاشتراكي العقيم الذي تبناه البعث، وقلب التركيبة الاقتصادية للقطر السوري بأساليب ثورية دون تقديم بدائل واقعية.
الآخر: سياسة حافظ أسد في بناء سلطة شمولية تتحكم بمقدرات الأمة، وتنشأ بمعزل عن المجتمع لتتمكن من تغييره دون الخضوع لأي تأثير خارجي.
ومرّت المسيرة الاقتصادية المتعثرة خلال حكم البعث والنصيريين بثلاث مراحل رئيسة:
الأولى (1963م-1970م): وفيها تم تبني سياسات التأميم وضرب القطاع الخاص. كما تم فيها تقليص ملكية الأراضي الخاصة من 800 إلى 150 دونماً من الأراضي المروية، وبحلول سنة 1966م، وضعت السلطة يدها على أغلب المنشآت الصناعية، وعملت على استبعاد رأس المال الخاص عن الصناعة، وكان من شأن هذه السياسة أن أدّت إلى ضرب القطاع الزراعي حيث هبطت المساحة المروية من 533 ألف هكتار سنة 1965م، إلى 450 ألف هكتار سنة 1970م.
الثانية (1971م-1986م): وهي مرحلة بناء سلطة شمولية ذات طابع رأسمالي على أنقاض السياسة الاشتراكية السابقة، وبدأت هذه المرحلة بانقلاب حافظ أسد في تشرين الأول من أكتوبر سنة 1970م، وهو ما اصطلح على تسميته "الحركة التصحيحية"، وقامت فلسفتها على إنشاء سلطة قوية بعيدة عن الشعب حتى تتمكن من تغييره تدريجياً من النمط الإقطاعي البرجوازي إلى النموذج الاشتراكي، وقام النظام بفتح صفوف الدولة على مصراعيها أمام الفائض البشري المتدفق من الأرياف وذلك بتوسع أجهزة القمع إلى أوسع مدى ممكن ممّا نتج عنه تحول جذري في التركيبة الاجتماعية للشعب السوري.
وتمكنت الدولة من امتصاص أكثر من1.200.000 شخص بحلول سنة 1979م في كوادر الحزب ومؤسسات القمع وفرق الجيش، لتشق المجتمع بطبقة طفيلية جديدة تتحكم في سياسات واقتصاديات القطر، وأدت هذه السياسة إلى ضرب القطاع الزراعي؛ حيث انخفضت أجور المزارعين بنسبة 19%، ممّا دفع بالغالبية من أبناء الجبل إلى الالتحاق بصفوف الجيش والمخابرات بحثاً عن المكانة والكسب السريع.
وفي المقابل انحطت مكانة المثقفين من الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات، وأصبحت رواتبهم في أسفل سلم الدخول.
والملمح الآخر في هذه المرحلة هو رأسمالية السلطة واشتراكية المجتمع، وكانت الباحثة الفرنسية "اليزابيث لونغونيس" أول من لاحظ الازدواجية في التطبيق الاشتراكي والرأسمالي بين المجتمع والسلطة، حيث يتم تجيير القطاع العام لصالح القائمين عليه، ويتم تحويل الإنتاج عن مساره الصحيح إلى العملاء في القطاع العام الخاص ليسوقوه بأسعار السوق الحرة، ونتج عن ذلك تدهور القطاع العام الحكومي، ونشوء اقتصاد "شبه خاص" مرتبط بضباط الجيش وكبار المسؤولين.
الثالثة (1987م-2000م): وقد شهدت نتائج التخبط الاقتصادي الذي انعكس بصورة جلية في انهيار قيمة الليرة السورية، وتوقف مشاريع التنمية وغير ذلك، وقد انخفضت قيمة الليرة من (6 ل. س) إلى (50 ل. س) للدولار، وارتفعت أسعار المواد الغذائية والأساسية، واختفت الكثير من المواد الضرورية والأدوية، وصارت السلطة عاجزة عن توفير العملات الصعبة للاستيراد، وفي المقابل كانت عصابات التهريب تنشط، ويزداد فرض الضرائب والأتاوات على المواطنين.
رموز الفساد:
يشير المؤلف هنا إلى المتسبب في الفساد الذي تعيشه سوريا، ويخصص له فصلين؛ هما الرابع والخامس، حيث الأول للحديث عن دور آل أسد، والآخر عن دور الجيش والمخابرات.
أولاً: آل أسد:
يجرّم القانون السوري نقد رئيس الجمهورية بأية صورة، كما عملت وسائل الإعلام على تأليه الرئيس وجعله فوق مستوى النقد والشبهات، وقد ساعد هذا الوضع الرئيس في أن يحكم حكماً مطلقاً دون رقيب أو محاسبة، فهو يهيمن على الإنفاق العسكري الذي يستهلك 60% من الميزانية السنوية دون أن تخضع هذه النفقات لرقابة الحكومة، كما أن مبيعات حقول النفط في دير الزور التي تدر أرباحاً سنوية بقيمة 3 مليارات تتبع رئيس الجمهورية ولا تدخل ضمن الميزانية السنوية، أضف لذلك أن إيرادات النظام السوري في عمليات بيع المخدرات اللبنانية كانت تزيد عن مليار دولار سنوياً حسب تقدير وكالة مكافحة المخدرات الأمريكية طوال فترة الثمانينات.
وصورة البذخ التي تمثلها قصور حافظ أسد وتماثيله وممتلكاته توضح صورة الفساد الذي يمثله رأس السلطة، فإن تكلفة قصره الذي تم إنجازه أواخر سنة 1990م تزيد عن 30 مليار ليرة.
ولئن ذكر الفساد في سوريا، يتبادر إلى الأذهان فوراً اسم "رفعت أسد" -شقيق الرئيس- الذي ارتبط اسمه بتجارة المخدرات والتهريب وفرض الأتاوات، والمشاريع الكبيرة خارج سوريا، إضافة إلى سجله السيئ وارتباطه بعدد من الجرائم المروعة في سوريا، وممارسة الاغتيالات للمعارضين خارجها خاصة في فرنسا وإسبانيا وألمانيا.
ويبرز من قائمة الفساد "د. جميل علي سليمان أسد" -شقيق الرئيس- وابنه فواز، ومن الجيل الجديد "باسل حافظ أسد"، و"فراس رفعت أسد"، و"محمد توفيق أسد"، و"مالك أسد"، و"محمد إبراهيم أسد"، و"ماهر حافظ أسد"، ولكل من هؤلاء ألف قصة وقصة في استغلال ثروات البلاد وتسخيرها لمصالحهم، وممارسة الإرهاب والتهديد.
ثانياً: الجيش والمخابرات:
سبق القول أن هذه الفئة شكلت سلطة مستقلة تمتع أعضاؤها، ومعظمهم من النصيريين بالامتيازات الكبيرة، وكان لهم الدور الكبير في رسم مسار الأحداث حتى صاروا "سلطة خفية"، وكان الضباط الكبار المتنفذون يصطدمون بالحكومة، وخاصة حكومة "عبد الرؤوف الكسم" –(سني 1980م -1987م)-، الأمر الذي جعل رئيس سوريا حافظ الأسد ينحاز إلى أعضاء المؤسسة العسكرية التي يديرها النصيريون وينقلب على رئيس وزرائه ويتهمه بالفساد.
ويبرز من هذه القائمة رفعت الأسد، وحكمت الشهابي، ومصطفى طلاس، وفؤاد عيسى، وعلي حيدر، وعلي دوبا، ومحمد نصيف، ومحمد الخولي، وشفيق فياض، وعدنان مخلوف، وإبراهيم الصافي، وعلي حبيب، وعلي أصلان، وآصف شوكت، وعدنان بدر حسن، وحسن خليل، وبهجت سليمان، وعلي حوري، وإبراهيم حويجة.
وباستثناء الشهابي وطلاس، فإن جميع الأسماء المذكورة ومن قادة الأجهزة الأمنية، هم من النصيريين الذين أصبحوا طبقة أرستقراطية بسبب ما يحصلون عليه من امتيازات وما يسخرونه من الإمكانات لخدمتهم.
وفي تفسير لنشوء البرجوازية الطائفية الجديدة برعاية حافظ الأسد، يورد المؤلف قولاً لصاحب كتاب (الأسد) باتريك سيل يقول فيه: "في سبيل حكم سوريا وتحديثها يعتقد أنه بحاجة إلى طبقة قوية ومتمولة من بين رجاله أنفسهم لتحل محل البرجوازية السورية القديمة".
وثمة تفسيراً آخراً يقول: بأن السلطة الطائفية ستتعرض بكاملها للانهيار في حالة إقصاء رموز الفساد الذين يشكلون العصب الرئيس للنظام.
حملات النظام ضد الفساد:
وينتقل د. زين العابدين في الفصلين السادس والسابع إلى تسليط الضوء على الحملات الوهمية للنظام ضد الفساد، وبيّن أنها حملات ظاهرية جاءت لذر الرماد في العيون، ولتقوية وضع النظام، وتحسين مواقعه، كما أنها استعملت كباش الفداء الذين كانوا على الدوام من العناصر غير العلوية.
الحركة التصحيحية:
وهي أول حملة في ظل حكم حافظ الأسد، رفعت شعارات جميلة في الحرية، وكرامة الإنسان، والتعبير عن الرأي، ومساهمة المواطن في الرقابة والنقد والبناء وفي حرية الصحافة؛ إلا أن هذه الشعارات لم تترجم طيلة حكم البعث والأسد إلى واقع عملي، وأطلق الأسد العنان لعصابات مخابراته الطائفية لتعتدي على أعراض المواطنين وأرواحهم وأموالهم وحرياتهم.
وانطلقت في سنة 1977م، وسنة 1979م-1980م، وسنة 1987م، وسنة 1999م-2000م حملات لمحاربة الفساد كما زعموا تحت وطأة الأوضاع المتردية سياسياً واقتصادياً.
ويضع المؤلف أسباباً خمسة لهذه الحملات المزعومة:
1- محاولة امتصاص السخط الشعبي من تردي الأحوال عن طريق تخدير المواطنين بإجراءات سطحية.
2- وضع رئيس الجمهورية وضباط الطائفة فوق مستوى الأزمة، عن طريق إلقاء المسؤولية على رئيس الحكومة والوزراء ومديري شركات القطاع العام.
3- التمهيد لمواقف دولية جديدة تحتاج إلى دعم خارجي أو كلما اضطر النظام لطلب مساعدات خارجية؛ كما في قمة بغداد سنة 1978م، وعمّان سنة 1987م.
4- استخدام هذه الحملات لتصفية المعارضين للترتيبات التي يقوم بها رئيس الجمهورية في تكريس هيمنة الجيش على الشؤون المحلية، كما هو الحال في إقصاء حكومات الأيوبي والحلبي والكسم والزعبي.
5- ترسيخ سياسة الفساد نفسها عن طريق تأصيل وراثة الطائفة للحكم بشتى الوسائل التي تلمع أبناء الرئيس وأقاربه كرموز للنزاهة ولإبرازهم كمرشحين لا يستغني عنهم المجتمع.
البدايات الخاطئة في عهد بشار:
يبدأ المؤلف بذكر قوله - تعالى -: {أفمن أسس بنيانه على تقوى الله ورضوان خير أمّن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين} [التوبة: 109].
فكيف يعقل أن هذا الشاب محدود الإمكانيات وعديم التجربة يصبح بين عشية وضحاها رائداً للتحديث وقائداً للحركة التصحيحية الثانية، ومصلحاً يقود الجمهورية في مرحلة عصيبة من تاريخها الحديث.
إن اختيار بشار حافظ الأسد رئيساً "للجمهورية الملكية "بعد وفاة والده بعد التلاعب بالدستور وتعديل المادة 83 لتناسب عمر الرئيس المرتقب، دليل على تكريس النهج الطائفي وإبقاء الحكم في الأقلية النصيرية، وبما يضمن استمرار مراكز القوى في مراكزهم.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع