..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

الشورى والديمقراطية وسؤال المقارنة الصحيح

السنوسي محمد السنوسي

٣ ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3921

الشورى والديمقراطية وسؤال المقارنة الصحيح
_والاسلام.jpg

شـــــارك المادة

قد يتعامل البعض مع المفاهيم والأفكار والنظم باعتبارها كُتلًا مُصمتة، غير قابلة للتحليل إلى مواد أولية، ولا يناقشونها تفصيليًّا، بل يتخذون منها موقفًا حديًّا؛ فهم إما يرفضونها بالكلية، وإما يقبلونها بالكلية. وقد كان هذا هو الموقف من الحضارة الغربية عمومًا في أول عهد الاحتكاك الثقافي بها أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث وجدنا دعوة طه حسين إلى أخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها، على حد قوله، في مقابل مَن رفض تلك الحضارة جملة وتفصيلًا.

وعند النظر والتمحيص، يتبين لنا أن كلا الفريقين معه شيء من الصواب، وشيء من الخطأ كذلك! لأن الأفكار البشرية هي نتاج فكر «الإنسان» الذي هو قابل للصواب والخطأ، ولا عصمة له؛ وبالتالي، لا يُتصوَّر منه أن يكون نتاجه صوابًا دائمًا، ولا خطأً دائمًا.

ثلاثة مواقف ..

هكذا هي الحال مع «الديمقراطية» ومقارنتها بنظام الحكم الإسلامي القائم على «الشورى» باعتبارها قيمة أساسية حاكمة لما يَرِدُ بعد ذلك من تفريعات في هذا النظام.

فنحن أمام موقفين متعارضين منها، وموقف ثالث يقف بينهما:

الموقف الأول: يدعو إلى رفض الديمقراطية تمامًا، معلنًا أنه «لا سبيل إلى مزج الإسلام بالديمقراطية، ولا سبيل إلى القول بأن الإسلام نظام ديمقراطي، أو أنه يتقبل النظام الديمقراطي ويسايره، لمجرد وجود شبه عارض في بعض النقاط»[1].

أما الموقف الثاني: فيذهب إلى القول: «إن الإسلام ديمقراطي، وإن الديمقراطية إسلام»، موضحًا أنه حين يتحدث عن الديمقراطية يقصد «ذلك النظامَ السياسي الذي يجعل الحاكم في خدمة الشعب، والحرية والعدل. لا بوصفه مانحًا أو متسامحًا، بل بوصفه مدينًا بمنصبه للشعب؛ ومن ثم، فهو في مكانه ليخدمه لا ليحكمه.. [كما يقصد ذلك] النظامَ الذي يجعل الأمة مصدر السلطات.. ولكن في وضع جديد يجعل الإسلام بعقائده ومبادئه (وعاء) هذه الأمة، و(وعاء) سلطاتها»[2].

وأما الموقف الثالث: فيرى أن الديمقراطية نظام له أسس وأركان؛ منها ما هو مقبول لا يتعارض مع الإسلام ومنها ما هو مرفوض يتعارض معه، ولا يصح النظر إليها ككتلة صماء؛ إما أن نرفضها وإما أن نقبلها بالكلية[3]. كما لا يجوز أن نصف «النظام الإسلامي» بـ«الديمقراطي»، حتى وإن التقى مع الديمقراطية في كثير من مبادئها.

وهذا الموقف الثالث هو ما يميل إليه المقال؛ فالشورى تتفق مع الديمقراطية في تأكيد حق الجماهير في اختيار حكامها ونوابها وممثليها ومراقبتهم ومحاسبتهم. وفي حق الأغلبية أن تحكم، والأقلية أن تعارض وأن تسعى لتطبيق رؤيتها وأفكارها إذا أقنعت الجماهير بها. كما في تقرير الحقوق والحريات العامة.

غير أن الشورى تختلف مع الديمقراطية في السقف الذي تضعه الأخيرةُ لسيادة الأمة باعتبارها «مصدر السلطات»، وللحقوق والحريات العامة؛ فالشورى تقرر ذلك في إطار عبودية الإنسان لله سبحانه، واستخلافه إياه لعمارة الأرض، فللإنسان السلطة - أو «السيادة السياسية» - أما السيادة المطلقة - أو «السيادة القانونية» - فهي للشريعة الإسلامية وثوابتها التي لا يجوز الخروج عليها بأي حال من الأحوال.

الإسلام نظام متميز ومتمايز:

مهما يكن من مساحة الاتفاق بين الشورى والديمقراطية فلا يجوز أن نصف الإسلام بها، وهذه مسألة مهمة قد تلتبس بمسألة أخرى وهي جواز الاقتباس من النظم غير الإسلامية.

نحن إذن أمام مسألتين:

  • وصف الإسلام بالديمقراطية أو المطابقة بين الشورى والديمقراطية.
  • اقتباس الإسلام من الديمقراطية أو من غيرها.

فمع رفضنا للمسألة الأولى، إلا أن هذا لا يمنع من الاستفادة والاقتباس من غير الإسلام ما دام ذلك لا يتعارض مع ثوابته ومبادئه.

يقول د. توفيق الشاوي: «نحن نعتقد أن التكامل بينهما [الشورى والديمقراطية] واجب وضروري، وأن قولنا: إن إحداهما تختلف مع الأخرى في أصولها ومنابعها، ليس معناه عدم استفادة إحداهما من التجارب التي مرت بها النظرية الأخرى»[4].

لقد سبق للإسلام أن اقتبس من غيره، كما تدل وقائع السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي - مثل: حفر الخندق، وإنشاء الدواوين - دون حرج، ودون ذوبان في النظم الأخرى.

وأما وصف الإسلام بغيره من النظم والفلسفات الوضعية؛ فيقال: ديمقراطية الإسلام أو الإسلام الديمقراطي، اشتراكية الإسلام أو الإسلام الاشتراكي، أو نحو ذلك، فلا يجوز؛ لأن الإسلام منهج إلهي يقوم على الإيمان بالله والغيب والوحي؛ ومن ثم، فإن له نظرة متميزة ومختلفة بالضرورة عن غيره من النظم والفلسفات الوضعية المادية المبتوتة الصلة بمنهج الله وبوحي السماء، والمتخبطة في وحل الماديات.

نعم، قد يلتقي الإسلام ويتشابه مع هذه النظم في تقرير بعض الحقوق والمبادئ، لكن ذلك لا يعني أن الإسلام يتطابق معها، كما أنه لا يجعلنا نتجاهل أن الإسلام نظام متميز عن غيره ومتمايز في الوقت نفسه؛ وبالتالي، فلا يجوز إلحاق الإسلام بأيٍّ من هذه النظم.

يقول د. الريس: «الإسلام لا يتطابق مع غيره من النظم.. فليس الحاكم هو صاحب السيادة؛ لأن الإسلام ليس (أوتوقراطية). ولا رجال الدين أو الآلهة؛ لأنه ليس (ثيوقراطية). ولا القانون وحده؛ لأنه ليس (نوموقراطية). ولا الأمة وحدها؛ لأنه ليس (ديمقراطية) بهذا المعنى الضيق»[5].

سؤال المقارنة الصحيح:

إذا كانت الشورى تلتقي مع الديمقراطية في بعض المبادئ والأسس، وإذا كانت الديمقراطية كما عرفها الغرب قد سبقت إلى تقرير الآليات والوسائل التي يمكن بها الكشفُ عن إرادة الأمة، وتحقيقُ المراقبة والمساءلة لمن يتولى الحكم.. فإن السؤال «أيهما أفضل الشورى أم الديمقراطية؟» قد لا يغدو هو السؤال المناسب للجمع بين مميزات كل منهما.

يقول د. السيد عمر: «العلاقة بين الشورى والديمقراطية جوهرها هو المشاركة. وربما يتسنى بتحليل المشاركة (كمفهوم شامل متعدد الأبعاد) وتحليل مفهومَيْ الشورى والديمقراطية (كآليتين سياسيتين مرنتين في أشكالهما وأساليبهما) الخروجُ من دوامة رفض إحداهما أو الظنِ باستحالة الجمع بينهما.. وينبغي أن يكون السؤال المحوري المطروح ليس: أيهما أفضل الشورى أم الديمقراطية؟ فذلك طرح متحيز، ويتضمن مغالطة عفوية أو مقصودة. والسؤال الجدير بالبحث عن إجابة له: ما هي المرجعية والضوابط الحاكمة لكل من الشورى والديمقراطية؟ وعندها تغدو المقارنة ممكنة، والقبول والرفض واردَيْن، والبحث عن (الكلمة السواء) بين المفهومَيْن ميسرًا»[6].

وإذا كان «السؤال عن المرجعية» هو السؤال الذي يراه د. السيد عمر «جديرًا بالبحث عن إجابة له»، فإن هذا السؤال يكشف عن الخلل الجوهري في نظام الديمقراطية، كما يكشف في الوقت نفسه عن نقطة التميز الأساسية في الشورى.

ذلك لأنه إذا كانت «الديمقراطية غنية بالقواعد التنظيمية، لكنها لا تعلن التزامها بالشريعة، وبذلك تفتح البابَ لتحكم الأهواء والانحلال باسم (الليبرالية)، أو بابَ الطغيان باسم (الاشتراكية)، أو باسم (الديمقراطية) ذاتها كما هو حادث الآن في بعض النظم التي لا تتردد في تزييف إرادة الجماهير بواسطة صناديق الانتخابات المزورة، وتمكين الحكام من خداع الجماهير والسيطرة عليها بواسطة الإعلام الخاضع للإدارة الحكومية أو السيطرة الرأسمالية»[7].

ومعنى ذلك كما يقول د. الشاوي أن «هناك ثغرات في ضوابط الشورى والديمقراطية، لابد من مواجهتها:

- في الشورى: يوجد فراغ في مجال الضوابط النظامية، لا بد من مَلئِه.

- وفي الديمقراطية: فراغ في مجال الضوابط الشرعية لا يمكن تجاهله.

يجب أن نسد الفراغ التنظيمي باتباع الأساليب الديمقراطية للانتخاب، والتصويت، وحرية الرأي، في هذا المجال عند تطبيق مبدأ الشورى. وبالمثل، يمكن أن نعالج الفراغ الشرعي في النظم الديمقراطية، بالالتزام بالشريعة وعدم تجاوز مبادئها وأصولها»[8].

وبهذا تستفيد الشورى من الديمقراطية، وتستفيد الديمقراطية من الشورى، في علاقة تكاملية؛ نحو تحديد آليات منضبطة تكشف عن إرادة الأمة، وتصون اختيارها، ونحو ضبط انفلات الحرية بسقف الشريعة وضوابطها، التي هي في مصلحة الإنسان لا قيد على حريته.

اتفاق وافتراق:

وفي نقاط محددة، ذكر أحد الباحثين أن الشورى تتفق مع الديمقراطية في أمور، وتفترق في أمور أخرى.

فما تتفقان فيه:

  1. ترشيح رئيس الشعب وانتخابه من الشعب.
  2. رفض جميع أشكال الحكم المطلق، أو الاستبدادي، أو الثيوقراطي.
  3. تعددية الأحزاب، ضمن إطار الإسلام.
  4. إقرار الملكية الفردية[9].
  5. إعطاء الحريات العامة - ولاسيما السياسية - ضمن النظام العام.
  6. اختيار الشعب لممثليه في بيان الرأي.

ومما تفترقان فيه:

  1. الشورى مستمَدة من الوحي الإلهي.. بينما الديمقراطية تُستمَد من إقرار الناس؛ والناس يخطئون ويصيبون[10].
  2. الشورى تكون في سلطة الشعب، لا في سيادته[11]؛ فالسيادة في الإسلام للشرع، والسلطان للشعب في اختيار حكامه وممثليه؛ بينما تعتبر الديمقراطية السيادة والسلطان للشعب معًا.
  3. الشورى تعتمد على تكوين المواطن وفق تعاليم الدين، وهي منهج حياة لا قيمة سياسية فقط؛ بينما الديمقراطية علاقة مؤقتة للتوفيق بين مصالح الحاكم والمحكوم.
  4. الدستور والمواثيق والقوانين والتشريعات في الشورى تكون مستمدة من الشرع (القرآن والسنة) ولا تمنع الإجماع؛ بينما الديمقراطية تترك ذلك لرأي الناس دون الاعتماد على أسس ثابتة؛ باعتبار أن رأي الناس عرضة للتغير بين الحين والحين.

مفهوم الحريات في الإسلام مرتبط بالقيم العليا؛ بينما في الديمقراطية يرتبط بالقيم التي يتفق عليها المجتمع حتى لو خالفت الفطرة السوية والمنهج الرباني[12].

الخلاصة:

هكذا رأينا أن الشورى تتلاقى مع الديمقراطية في نقاط كثيرة برغم اختلاف أصولهما ومنابعهما، وأن الجمع بينهما ضروري لكلتَيْهما؛ فالشورى تستفيد من الديمقراطية آلياتها في الاختيار والمراقبة والمحاسبة، والديمقراطية تستفيد من الشورى ثوابتها والتزامها بالوحي الذي هو فوق أي التزام، حتى لو كان اختيار غالبية الجماهير؛ فإرادة الناس أو كثرتهم لا يجوز أن تُحلَّ حرامًا أو تحرِّم حلالًا.

كما اتضح لنا أن الإسلام بتحديده للقيم والغايات فقط - في كثير من النظم التي تحكم حركة الحياة - وبمرونته في الوسائل والإجراءات؛ «يملك القدرة على استيعاب الصيغة الديمقراطية، وترشيدها في اتجاه أن يكون حكم الشعب مستضيئًا بالقانون الإلهي»[13].

 

---------------------------------

[1] «مذاهب فكرية معاصرة»، محمد قطب، ص: 251، دار الشروق، ط7، 1993م.

[2] «دفاع عن الديمقراطية»، خالد محمد خالد، ص: 212، دار ثابت، ط1، 1985م.

[3] يرى راشد الغنوشي أن الديمقراطية «جهاز للحكم» يتعامل مع البيئات المختلفة؛ فكما أنتج الديمقراطية المسيحية واليهودية، بل حتى والهندية والبوذية، فيمكنه أن ينتج: الديمقراطية الإسلامية المحكومة بثوابت الإسلام. انظر: «الحريات العامة في الإسلام»، الغنوشي، 1/ 134، 135، دار الشروق، ط1، 2012م.

[4] «الشورى أعلى مراتب الديمقراطية»، د. الشاوي، ص: 151، 152، الزهراء للإعلام العربي، ط1، 1994م.

[5] «النظريات السياسية الإسلامية»، د. محمد ضياء الدين الريس، ص: 385، مكتبة دار التراث، ط7، بدون تاريخ.

[6] «نواة الشورى والديمقراطية: رؤية مفاهيمية»، د. السيد عمر، مجلة «المسلم المعاصر»، عدد: 91، ص: 146، شوال 1419هـ.

[7] «الشورى أعلى مراتب الديمقراطية»، د. توفيق الشاوي، ص: 180، مصدر سابق.

[8] المصدر نفسه، ص: 180، 181.

[9] لكن الإسلام يوازن بين حق الفرد وحق الجماعة؛ بخلاف الديمقراطية التي تنحاز للفرد، لكنها تحاول استدراك ذلك في دروسها الأخيرة بمحاولات ترسيخ «الديمقراطية الاجتماعية»... فهل تفلح؟!

[10] هنا تنبيه مهم، وهو أن هذا الفارق لا يعني عصمةَ ما تتمخض عنه ممارسةُ الشورى - فنتيجةُ الشورى اختيارٌ بشري قابل للصواب والخطأ، حتى لو كانت هذه النتيجة تعبر عن رأي الأغلبية - لكن هذا الفارق يعني أن ممارسة الشورى هي امتثال للوحي، وأن التزام الشورى لا يأتي فقط من باب المصلحة والمنفعة - كما هي الحال في الديمقراطية - إنما هي دين يتعبد به المسلم لربه سبحانه، سواء في حياته الخاصة مع زوجه وأبنائه، أو في حياته العامة في الحكم والسياسة.

كما يعني أن الشورى تلتزم بثوابت الوحي؛ بينما الديمقراطية لا ثابت فيها وهي تدور مع رغبات الناس وأهوائهم، فيما يُعرف بـ«الرأي العام» أو «إرادة الأمة»، التي هي بالأساس إرادة الأغلبية والتي يكون من السهل التلاعبُ بها عن طريق وسائل الإعلام وإغراء المال! ولذلك كانت الديمقراطية في ممارسات كثير من الدول احتكارًا للسلطة والنفوذ في أيدي طبقة أو تحالف من أصحاب المصالح، وانفصلت تلك الممارسات عن أية قيم أخلاقية، مكتفيةً بالتزام «الديمقراطية الشكلية»، أي صناديق الاقتراع المتلاعَب بها!

[11] أو بتعبير آخر: الشعب له السيادة السياسية لا السيادة القانونية، إلا في «التقنين» فقط، لا في التشريع ابتداءً؛ فالتشريع ابتداءً حقٌ لله وحده، {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (يوسف: 40)، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (الأعراف: 54).

[12] «النظام السياسي في الإسلام»، د. عبد العزيز الخياط، ص: 92، 93، دار السلام، ط1، 1999م. بتصرف يسير.

[13] «الحريات العامة في الإسلام»، راشد الغنوشي، 1/ 180، مصدر سابق.

 

 

مجلة البيان العدد: 336

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع