..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

روسيا الشيعية.. وثورة سوريا العربية

مهنا الحبيل

٣١ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3087

روسيا الشيعية.. وثورة سوريا العربية
2001.jpeg

شـــــارك المادة

هناك جانب يبدو فنتازيا ساخرة في تصريح وزير الخارجية الروسية المتطابق مع تصريحات متعددة من الدوائر الإعلامية والسياسية الأدنى منه بذات الخطاب، وهو إعلانه للعالم رسمياً تحذيره من قيام دولة سُنية في سوريا -نصاً- بصورة غير مسبوقة، هذه الفنتازيا لـ"ستاند كوميدي" روسي يبرز بصورة جلية حينما نستذكر أن موسكو لعقود كانت عاصمة الإلحاد العالمي والبعث اليساري الأممي المتجاوز للأديان بل المحارب لها، وإن عادت إلى قيصريتها المسيحية من جديد.


لكنّ المهم جداً والذي ينبغي أن يستدعي المشهد كاملاً هو الجانب الإستراتيجي الذي عناه لافروف ومن يُخاطب ومع من يتطابق؟ وهل أعلن لافروف بالفعل كلمة السر للتواطؤ العالمي ضد سوريا؟ هذا ما سنفصله.
الكتيبة المتقدمة لروسيا وإيران:
وقد يطرح البعض أن هذا الخطاب -أي التحذير من العمق العربي السنّي- دأب عليه الدكتور هيثم مناع وفريق من هيئة التنسيق وقائمة من بعض إعلاميي ومثقفي اليسار العربي المناهض للثورة السورية وبعض الأقلام الكبيرة من أصدقاء إيران التي لا تزال تتساءل لماذا يتعاطف الناس مع ضحايا مذابح (الزعيم) الأسد ما دام قد صنّف في أقلامهم بزعيم الممانعة، وتحتج على التغطية الإعلامية لتلك المذابح، بعد أن اعتذرت سابقاً من سوريا وكأنما أسفت لذلك الاعتذار، وعادت للتوبة من إيران ورجلها الممانع، وأضحت تعزف من جديد على التشدد السُني الذي يُذبح ذووه حتى الآن بالمئات يومياً وبحراب طائفية، في ثورة وطنية تاريخية لا يزال شعارها الحرية، وشعار خصومها: اذبحوهم حتى لا يهددوا الممانعة الطائفية.
فإذن، لافروف جاء على عزف هذا الإيقاع وألقى بتأييده الضمني لحلقات قتل أجنّة حمص وانتهاك نسائها واستيطان منازلها التي جمعت في سلمها وثورتها بين الطوائف، واليوم يُهجَّر ساكنوها ويُلقى على جبال الضحايا اللوم بأنهم قتلوا احتياطاً خشية من الدولة السنية وأن يولد لها أطفال طائفيون. هي عبثية مغلفة بفلسفة كراهية تجاوزت النازية من تلك النخبة القذرة من المثقفين العرب، ومن توقيع روسيا الأخير لهم على تشريع سفك الدماء العربية في سوريا، لكنّ هذا كله لا يُمكن أن يُقرَأ على أنه السبب الرئيس والإستراتيجي لموقف روسيا، وسبب التصريح المباشر.
هنا يكمن البعد الإستراتيجي لنا في خطاب لافروف المهم في تحذيره من أي دولة تكون فيها قيادة الشعب السوري -ولو بثوب مدني- بيد سُنة سوريا، الذين ينخرط فيهم تلقائياً مسيحيوها وباقي طوائفها بحسب البعد التاريخي الوجودي الذي سنشرحه لاحقاً. لافروف هنا يُذكرنا تصريحه بآخر حكم مدني تمتعت به سوريا إبان الاستقلال، وكان عبر هذا المرجع الديمغرافي الأم الحاضن وكان مدنياً، وكان في طريقه لبناء ديمقراطية توصل الشعب لقراره المستقل.. عن من؟
مستقل عن المعسكرين الغربي والشرقي معاً. ثم تدخلت الانقلابات في سوريا لتستدرج الطائفية لاحتضان ذلك التقاطع لنموذج العسكرة العنيف ضد الشعب السوري، وعبر سلسلة من القهر والقتل حين استقر الحكم بين العسكرة والطائفية من سوريا للبنان، فخلق التقاطع الغربي الروسي هذا النظام الذي أقيم على حدود مهمة بين الشام وبين فلسطين المحتلة وبين أركان الأقطار الشامية ذاتها، وبوركت أو مُررت حركة الدعم الطائفي الإيراني الضخم التي صُبت على عسكر الطائفة المختطفة في سوريا وأنجبت "مقاومة"، لكنها مقاومة تحت الشروط والميزان التوافقي العام في إدارة الصراع.
هنا تبدو الرسالة واضحة حين يُعلن لافروف ذات المنطق الإيراني، ولكنّه يبعث الرسالة واضحة للغرب: الكيان الذي يُهدد تل أبيب هو كيان الثورة السورية، والذي بطبيعة تشكله الديمغرافي لأكثرية الشعب نشأ في محاضن سُنية كما نشأ بصورة أقل في محاضن أخرى.
لافروف الأعرق دبلوماسياً والذي أكدت تصريحاته ماكينة الإعلام الروسي، كان يُدرك أن هذه الرسالة في الأصل كانت هي المنهج العملي الذي ترتب عليه موقف الغرب الأخير، بما فيها قصة مبادرة أنان، التي تشترط على أطفال سوريا وحُماتهم إلقاء السلاح أمام جيش لا يَكفّ عن القصف وأمام الشبيحة الذين لم يتركوا حرمة أقرها الوجود الإنساني في عالم الأرض إلا نقضوها. ومن الطرائف أن أنصار النظام وحزب الله كانوا وما يزالون يهتفون له علناً في ميادين موالاة النظام: للأسد للأسد.. شبيحة للأبد.
المهم هنا الإستراتيجية التي عمل لافروف أن تُقرَّ على الأرض وأن تُطرَح أمام المسرح الغربي الكبير حتى تؤكد حرص روسيا على المشروع المطلق للقوى الغربية، وهو حماية مصالحهم وأمن إسرائيل، وبالتالي كان لسان حال لافروف يقول تلك مهمتنا جميعًا، فعلى الغرب التزامها علناً. هنا يبرز لنا بأهمية قصوى تصريح المفكر اليساري الأميركي -الذي لم يستمع لمواعظ اليسار الممانع العربي- نعوم تشومسكي، وهو قوله الصريح بأن الفيتو الروسي والصيني جاء برغبة أميركية وغربية غير معلنة، ليكفيهم صد أي عون لمساعدة الثورة السورية، وهي إستراتيجية معتمدة بكل تأكيد من تل أبيب.
مما تخشى موسكو وتل أبيب؟
هنا القراءة الشاملة للمشهد تُعطي كل المؤشرات بأن الحبكة الإيرانية الروسية المباركة باهتمام من تل أبيب قد اكتملت، وأن عواصم الغرب بالفعل أعلنت رسمياً رفضها لتسليح الضحية، وهذا الأمر صداه بارز في واشنطن وباريس وغيرهما من عواصم التأثير الغربي، في حين أن المليشيات وجسر السلاح الإيراني والسلاح الروسي لا يتوقف، والتواطؤ الغربي واضح.. فما الذي أفزع لافروف من انتصار الثورة والمذابح في أشدها؟ ولماذا يستعدي لافروف كل هذا التحذير والإنذار؟
منذ مذبحة كرم الزيتون، تواصلاً لباقي أحياء حمص مع مذابح الرستن ودوما وريف دمشق وغيرها، ثم عملية التوطين للموالين للنظام بعد التهجير والقتل العشوائي ونزوح الأطفال والنساء، كان ضجيج إعلام النظام وحلفائه في بيروت وطهران وموسكو، أن الحرب انتهت والثورة أُحبطت. فما الذي جرى على الأرض؟
هنا ما يخشاه ليس لافروف وحسب، بل تل أبيب وطهران وباقي المعسكر القلق من دولة الثورة السورية. فخلافاً لكل ذلك التكريس الإعلامي، استيقظ العالم على إصرار فريد معجز من المدنيين السوريين على الاستمرار بالثورة المدنية، وفي ذات الوقت التحم المجلس العسكري والجيش الحر في قيادة موحدة والتحمت معهم قيادات الحراك الثوري السلمي في الداخل، وفي غضون ساعات تفاجأ العالم بعمليات نوعية في محيط دمشق وبحركة انشقاق أكبر وأضخم متزايدة في أفرع الجيش والأمن السياسي، وتشكل كتائب جديدة من الجيش الحر، وإعلان غرفة عمليات خاصة بدمشق ومجلس عسكري مصغر تابع للقيادة الموحدة.. فما هي الدلالة؟
لافروف -المقرب من المشهد بحكم مشاركة القاعدة الروسية في الإستراتيجية القمعية للثورة- يُدرك تماماً أن هذا الاستمرار في تصاعد قوة الجيش الحر رغم كل الخيانات والخذلان الذي تعرض له، ومع تدفق المنشقين، تُقابله حالات قلق وفزع في هيكل النظام العسكري الذي يعيش باستمرار تحت قصف مذابحه خشية من ارتداد الأوضاع عليه، ويخشى من انشقاق من داخل صفوفه، خاصة أنه بات من المعروف أن الفرقة الرابعة لم تعد تستطيع تغطية تعقب الانشقاقات، في حين استنزفتها وحشيتها الذاتية.
وقد نشرت دلائل علمية على ذلك عبر اليوتيوب من ضمنها شهادات من الفرقة ذاتها، ومع انتشار عمليات الإعدام لمجندين حتى من غير السُنّة في القواعد العسكرية، تعززت لغة الشك وهيمنة الكابوس اليومي للعسكري التابع لأسرة الأسد.. وما مصيره هو أيضاً؟
هنا لافروف يدرك أن نظاما تُصَب عليه كل الإمكانيات، وثورة يتآمر عليها كل العالم ثم تبقى صامدة صاعدة ويتطور فعل دفاعها العسكري، هو أمر مخيف جداً لمستقبل النظام.. وكأن لسان حال الروس: لم يعد بالإمكان أكثر مما كان، فهنا الصعود ذاتي ولا يقف عند فيتو مجلس الأمن، ولذلك أطلق تصريحه لتعزيز الحصار بعد أن أفزعه صمود الثورة وصعودها، ولم يعد من بد من إعلان كلمة السر لضمان التحالف ضد الثورة وعبر استدعاء الطائفية التي اُستهلكت والثورة صامدة لم تهزم بل تتقدم.
ليست طائفية والثورة عربية:
يهمني هنا أن أستشهد بتصريح للدكتور عزمي بشارة لبعدين مهمين، الأول شخصية الدكتور عزمي بشارة لدى ذات الإرث الثقافي الذي يتبنى التشكيك الطائفي في الثورة لدعم النظام، والثاني كون أن بشارة اتخذ موقف الحياد بين الثورة والنظام، وبالتالي ليس محسوباً على مؤيدي الثورة السورية، أمّا تصريحه فهو قوله في برنامج عين على الثورة في الحديث عن خريطة سوريا الديمغرافية، إنّ السُنة ليسوا طائفة لأنهم حاضن تاريخي لعرب المنطقة بما فيهم إخوانهم من الطوائف وهم عمق الأقطار والتاريخ العربي وتاريخ الشرعية القومية والدينية معاً.
وما قاله الدكتور بشارة دقيق، ليس لأنّ السُنّة ليس لديهم تصور منهجي فكري محدد، لكن لأنهم ببساطة هم الجغرافية السياسية والتاريخية للعرب، ومنذ موقف قبيلة تغلب المسيحية مع الخليفة عُمر إلى أخوّة الشيخ حسن خالد وكمال جنبلاط في لبنان إلى تشكيلة المعارضة السورية المحتضنة بين السُنّة والطوائف، فإن كل الدلائل القطعية تشير إلى أن هذا التهديد مصطنع في أصله ولو وجدت جماعات متطرفة تَنمي نفسها للسُنّة لكنها لم ولن تُمثّل وضعيتهم المركزية الحاضنة، وإنما إسقاط الحاضنة -كما هو في مقدمة فكر بريمر وآيات طهران- هو من شرّع الفوضى الطائفية بصراعها السياسي والدموي. والعكس صحيح، أي أن قوة الثورة السورية وتماسكها كونها تنتمي لهذا التاريخ الحاضن بعروبته وإسلاميته الإنسانية، المدونة قديماً في كتب الدكتور مصطفى السباعي إلى عهد إخوان سوريا الأخير هي الضامن الطبيعي.
ولذلك؛ لافروف وكل أركان التحالف كانوا يعلمون أنّ الثورة عربية عصية على الطائفية، ولذلك فجّروا الموقف إعلامياً وسياسياً لحماية مشروع الاستبداد الخادم لكل المصالح إلا الشعب والعرب، وحين يسترد العرب شامهم فلن تخسر الطوائف بل تُجار السوق الدموي، ولذلك حرص الروس على سوقهم وليس غريباً حرصهم، لكن الغريب المثير للتساؤلات تردد الخليج العربي وتركيا من أن يفوا بما وعدوا، فالضجيج لا يغني عن العمل، وإلا فلن ينتظرهم الشعب السوري البطل.

المصدر: الجزيرة نت

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع