..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مقالات منوعة

سوريا 1982 وسوريا اليوم

أكرم البني

١٢ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2734

سوريا 1982 وسوريا اليوم
البني.jpg

شـــــارك المادة

لا تصح مقارنة الصراع الذي شهدته سوريا أواخر السبعينيات ووصل ذروة حاسمة فيما عرف بأحداث حماة 1982 بما تشهده سوريا اليوم، بل هو ضرب من الوهم ورهان خاسر الاعتقاد بأن أساليب القمع والقهر التي أثبتت فعاليتها وقتئذٍ، يمكن أن تكون فعالة أو مجدية الآن، ففي ذلك تنكر لشمولية الأزمة الراهنة وخصوصية أسبابها وإهمال ما حصل من مستجدات إقليمية وعالمية خلال ثلاثة عقود، بما هو تجاهل لنقاط الاختلاف النوعية بين سوريا 1982 وسوريا اليوم.


أولاً، جرت أحداث الماضي كما لو أنها عمليات مخططة لعب الإخوان المسلمون وطليعتهم المقاتلة دورًا رئيسًا في تنفيذها وفي فتح صراع عسكري مع السلطة بدأ في مدينة حماة وامتد بشكل محدود إلى حلب ودمشق لينتهي في حماة نفسها دون بعد جماهيري ملموس، بينما نشهد اليوم ثورة شعبية سلمية عارمة تشمل غالبية المدن والمناطق السورية، وتأتي في سياق رياح التغيير التي تهب على المنطقة، أداتها الرئيسة المظاهرات العفوية التي لم يحضر لها إراديًّا ولم تخطط لها قيادات سياسية، بل تقدمت صفوفها مجموعات شبابية حديثة التكوين لا تنتمي إلى أي حزب وليس عندها ما تخسره مع انسداد الأفق أمامها وتعاظم شعورها بالظلم وغياب العدالة، كسرت جدار الخوف وأمسكت زمام المبادرة ونالت ثقة الناس بسلوكها اليومي المثابر واستعدادها العالي للتضحية، واستعانت بفضاء المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت، لخلق مساحة من التفاعل فيما بينها لتنسيق شعاراتها وحركة الاحتجاجات والمظاهرات وسبل استمرارها.

وإذ نجحت السلطة وقتئذٍ في تصفية القوى المناهضة واعتقال أو إعدام قادتها، وتاليًا إعادة المجتمع لأجواء الخوف والرعب من خلال القمع الشديد واجتياح معظم أحياء مدينة حماة، يلاحظ اليوم أن العنف عاجز عن إخماد نار الحراك الشعبي، وهو أعجز عن إحداث تحول يقارب ما حدث في الماضي، فالقمع والقهر والتنكيل على شدته لم يعد يستطيع إخافة الناس، بل إنه يوسع مناطق الاحتجاج ويزيد عدد المتظاهرين، مظهرًا معادلة جديدة في المشهد السوري، هي أنه كلما ازداد التنكيل والتدمير، كحال حي باب عمرو وغيره، ارتفع سقف المطالب واتسعت دائرة الاحتجاجات السلمية، ولا يغير جوهرها السلمي الانشقاقات التي تتواتر في صفوف القوات النظامية وتشكيل ما يسمى الجيش السوري الحر، أو لجوء بعض الأهالي إلى السلاح دفاعًا عن النفس ولحماية المتظاهرين، كما لا ينفع هنا تكرار التصريحات الرسمية بأن الأمور بخير وأن الأزمة انتهت، فالأمور في تفاقم مستمر والأسباب السياسية للاحتجاجات الشعبية تزداد حضورًا ووضوحًا مع كل يوم جديد.

ثانياً، فيما مضى كان ثمة غياب تام لدور الإعلام في رصد ومتابعة ما يجرى، وكل من شهد خط النهاية، لا يمكنه أن ينسى كيف مرت أحداث حماة وصور الدمار الشامل وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا مرور الكرام في وسائل الإعلام، ولنقل إنها لم تحظ به سوى أسطر قليلة في بعض الصحف، وعبارات تقريرية موجزة في نشرات الأخبار، بينما تحظى أحداث اليوم بتغطية إعلامية كبيرة في ضوء التطور الكبير الذي شهده عالم الاتصالات واهتمام الثوار برصد وتوثيق ما يجري ساعة بساعة، ووضعه عبر مختلف وسائل الإعلام وخاصة الفضائيات، أمام عيون الرأي العام والمراهنة على ذلك في رفع الروح المعنوية للحراك الشعبي، وفي الضغط الأخلاقي على المنظمات الدولية والحكومات ومحاصرة حساباتها السياسية كي لا يمر هذا القمع والاضطهاد دون عقاب، وفي الطريق فضح عنف النظام وكشف هشاشة التبريرات وزيف الذرائع التي يستند إليها أهل الحكم، في حديثهم عن متآمرين ومندسين يرتبطون بأجندة خارجية، وعن عصابات مسلحة تعيث، قتلاً وتدميرًا، في العباد والبلاد!

ثالثاً، اختلاف نوعي في طريقة إدارة الأزمة، ففي أحداث الماضي حضر إلى جانب البعد الأمني، البعد السياسي وكان له قسط مهم وجلي في توجيه الصراع، حيث خاض النظام ما يشبه المعركة السياسية ضد الآخر، ولإعادة تفعيل مؤسسات الدولة كلها، من الجبهة الوطنية التقدمية إلى النقابات إلى بعض قوى المعارضة ولم يأل جهدًا في كسب الناس وطمأنتهم ليبقى رهانهم قويًّا على السلطة والدولة.

وكلنا يتذكر غزل نظام حافظ الأسد مع بعض قوى اليسار العلماني ومع الإسلام المعتدل ومبادرته لإطلاق سراح المعتقلين المحسوبين على هذه الاتجاهات، وتوسيع هامش نشاطها، والتعويل على ذلك في محاصرة الإخوان المسلمين وعزلهم شعبيًّا، كما نتذكر بعض القرارات الاقتصادية والاجتماعية كمحاسبة بعض الفاسدين وزيادة الأجور والمبادرة  للتخفيف من حضور بعض المظاهر الأمنية السلبية التي تثير التوتر والاحتقان في الشارع، ونتذكر أيضا، المؤتمرات الاستثنائية التي عقدتها بالتتابع مختلف المنظمات الشعبية والسياسية ووظفها النظام في مجرى الحدث لإشهار الوجه السياسي للصراع وتجييش هذه المنظمات وتعبئتها خلف مواقفه، والرهان عليها في تقوية مفاصل الدولة وتماسك مؤسساتها، وفي توسيع قاعدته الاجتماعية ودرجة التفافها حوله.

أما اليوم فلا يزال الخيار الأمني والعسكري سيد الموقف وثمة تصميم لدى أهل الحكم على إنكار الأسباب البنيوية السياسية والاقتصادية التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه، وإصرار على إجهاض الحراك الشعبي بالعنف والإكراه، ولا يضعف هذه الحقيقة بل يعززها ما نشهده من مناورات سياسية مفضوحة، ومن قرارات إصلاحية شكلية لا تمس جوهر السيادة، كأن المقصود التأكيد على أن ليس ثمة رغبة وإرادة في الحل السياسي، ولا طريق سوى إعادة زرع الخوف والرعب التقليدي في المجتمع، ومما يزيد الأمر تعقيدًا الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردي والبائس الذي يفوق في بؤسه ما كان قائمًا فيما مضى، حيث تدهورت الأحوال المعيشية والصحية واستشرى الفساد وزادت نسبة البطالة وبرزت قلة قليلة تستأثر بالثروة والمال العام على حساب تنمية المجتمع وضمان حاجاته الأساسية، والأهم تفكك قطاع الدولة وانهيار دوره الريادي حيث انهارت القدرة على ضمان ولاء العاملين فيه عبر رشوتهم بزيادة أجورهم وتأمين بعض مستلزمات حياتهم.

تبدو السلطة اليوم في تنكرها لأسباب ما يحصل واستهتارها بالمعالجة السياسية وامتناعها من القيام بأية تنازلات جدية، كأنها لا تمتلك الإمكانية لإدارة الأزمة سياسيا أو عاجزة عن إظهار نفسها كنخبة حاكمة تنال الثقة والاحترام من كفاءتها في تحمل المسؤولية والاهتمام بحاجات المجتمع وحقوقه، وكأن خيارها لدوام السيطرة ليس الاستجابة لمطالب الناس ومعالجة مشكلاتهم بل الاستمرار في إرهابهم وشل دورهم، وهو سوء تقدير ولنقل تضخيم للذات والاعتقاد بأن ما كرس من أدوات قمع وقهر يشكل مدماكًا راسخًا لا يمكن بأي حال زعزعته قادرًا على سحق كل من يقف في طريقه.

وبالتالي ليس غريبًا أن تفضي هذه الطريق إلى انفكاك الناس عنها وإلى انحسار قاعدتها الاجتماعية مما أكرهها على اللجوء لأشكال من التعبئة المتخلفة دون المستوى السياسي والعمومي، وأيضا لإثارة الفتن والصراعات الأهلية والرهان على ذلك في حرف الحراك الشعبي عن أهدافه السياسية، وفي تخويف الأقليات وبعض الفئات المترددة وإثارة مبالغات مغرضة عن الأثمان الباهظة التي ستدفعها في حال شيوع الفوضى أو وصول الأصولية المتطرفة إلى سدة الحكم.

رابعًا، جرت أحداث حماة عام 1982 في ظل مناخ الحرب الباردة والتوافق الدولي على حماية التوازنات الإقليمية واستقرار البلدان المصطفة مع هذا المحور أو ذاك، وإذا أضفنا الدعم الكبير الذي قدمه الاتحاد السوفياتي الحليف الإستراتيجي والاعتراف العالمي وخاصة الأميركي بدور النظام السوري الإقليمي، وأيضا المساندة العربية له ردًّا على توقيع اتفاقات كامب ديفد، نقف أمام أهم العوامل التي مكنت نظام حافظ الأسد من مراكمة عدد من أوراق النفوذ السياسية الرابحة في يديه، وتوظيفها لتعزيز سلطته الداخلية، مثل دوره السياسي والعسكري في لبنان، وتحكمه في جزء من الورقة الفلسطينية وغيرها، ومكنته تاليًا من تصفية الحركة المناهضة له دون ردود تذكر.

إن كل مطلع على معالم السياسة السورية وقتئذٍ لا يمكنه أن ينسى نهجها البراغماتي وحرصها على تجنب القطيعة مع الأطراف الفاعلة في المنطقة وإبعاد تأثيرها عن الوضع الداخلي، وبالتالي تحليها بمرونة عالية وقدرة عملية على خوض المساومات واللعب بما تملكه من أوراق، ونذكر على سبيل المثال أنها وفي عز الخلاف الخليجي الإيراني تمسكت بورقة التحالف مع طهران وبتحالفها الإستراتيجي مع الاتحاد السوفياتي من دون أن تقطع في أي لحظة شعرة معاوية مع السعودية ومع أميركا، كما أنها لم تتأخر في تأمين مصالح كل الأطراف بعد سيطرتها على لبنان، وقبلت مبدأ التفاوض مع تل أبيب من دون تنازل عن دعمها لحزب الله في معاركه وعن دعم بعض الفصائل الفلسطينية المتشددة.

أما اليوم فالأحداث تجري وقد خسر النظام السوري الكثير من أوراق قوته الإقليمية وضاقت هوامش مناوراته إلى حد لم يعهده منذ عقود، بعد رفع الغطاء العالمي عن دوره ونفوذه الإقليميين، وبعد الاحتلال الأميركي للعراق والشروط الجديدة التي كرسها في توازنات المشرق العربي، وبعد انكفاء الورقة الفلسطينية نحو الداخل وتحررها نسبيًّا من حسابات النفوذ الخارجي، وبعد إجباره على سحب قواته العسكرية من لبنان، وقبلها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار قواعد الحرب الباردة، ولا يغير من هذه الحقيقة الموقف الروسي الداعم للنظام في مجلس الأمن وغيره، فثمة فارق كبير بين دور الاتحاد السوفياتي وقتئذٍ وما تمارسه موسكو اليوم من حيث ارتباط موقفها الراهن وسياستها بمصالحها المباشرة والآنية مما يعني سهولة الخضوع للمساومة مع الغرب في أية لحظة والتوصل إلى صفقة على حساب مصالح النظام السوري ورهاناته.

وما زاد الطين بلة على النظام وفاقم أزمته، ليس فقط إصراره على التوغل في القمع العنيف وإنما أيضا الاستهزاء بكل المبادرات العربية والدولية التي دعت لوضع البلاد على سكة الحل السياسي، مما أدى إلى حالة من القطيعة مع السعودية ودول الخليج ومع أوروبا وأميركا، وتاليًا مع الجامعة العربية ومؤسسات الشرعية الدولية، لتشتد حالة العزلة والحصار حوله، وتتحول أوراق نفوذه الإقليمي من عامل لتعزيز سلطته الداخلية إلى عبء عليه.

وقد زاد الأمر وضوحًا إخفاقه في توظيف شعارات المقاومة والممانعة لتسويغ هذا العنف المفرط والمنفلت من أي عقال، وانكشاف ادعاءاته الوطنية ووظيفتها الحقيقية كسلاح لترسيخ المدماك الأمني وخنق الوضع الداخلي وحماية ما جناه الفاسدون من مكاسب وامتيازات ومغانم.

ويبقى السؤال بعد عرض الفوارق النوعية في المقدمات والوقائع بين الماضي والحاضر، وبعد أكثر من أربعة عشر شهرًا من انطلاق الثورة، وفشل الخيار الأمني والعسكري في إخماد نارها أو التخفيف من حدة الأزمة المتفاقمة، هل يفتح الإصرار على ذهنية الماضي والثقة بجدوى القمع والعنف أبواب البلاد على المجهول، وأوضح ما فيه "انفلاش" الصراعات على غير هدى، واستدراج المزيد من العزلة والحصار والتدخلات الخارجية، والأهم ما سوف يتكبده النسيج المجتمعي ومستقبل الأجيال من أضرار فادحة لا تعوض، أم لا يزال يُطلب من الشعب السوري وثورته الناهضة مزيد من التضحيات كي يأخذ قضيته بيده ويصل إلى تحطيم الطرائق الأمنية والذهنية القديمة التي أديرت بها البلاد، وأورثتنا ما نكابده من قهر وآلام وخراب وفساد!

 

المصدر : الجزيرة نت

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع