..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مقالات منوعة

النشرة الجوعية من حمص: الرغيف ينبض كالقلب

سلوى الوفائي

٢ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2733

النشرة الجوعية من حمص: الرغيف ينبض كالقلب
8.jpeg

شـــــارك المادة

ليس أشهى عند الحمصي من رغيف ساخن يخرج من التنور أمام ناظريه، تلتهمه العين قبل الفمّ، وتحتضنه اليد قبل الشفتان... إنّها حكاية عشق أزلي، ذاقه الصغير والكبير، وكم تسابق الصغار، في طريقهم من المدرسة إلى البيت، إلى التنور، يصطفون رتلاً متعرجاً، القويّ يحصل على نصيبه قبل الضعيف، ويشبع نفحات شوقه، أمام لهفة المنتظرين، وقد يتفنن الصغار بطلباتهم، فمرة رغيفٌ بالسمسم البلدي، ومرة بالحبّة السوداء، مرة يحلّونه بالعسل والسمن العربي، ومرة يهرعون إلى حمّصات أبوشمسو ومخللات الأبرش، وقد فات الكثيرون منهم تجربة مغطوطة الجلّبجي، بعد صلاة الفجر الحاضر في جامع سيدنا خالد بن الوليد - رضي الله عنه -.


تمضي بنا الذكريات وكأنّها قارب يمخر عباب الماضي، ثمّ يغوص في أعماقه ليستكشف أيّ درّ كامن في أحشائه، أسدلنا عليه ستارة من أهداب العيون، وحفظناه كاللؤلؤ المكنون كي لا يتجرأ صيادو اللآلئ عليه، ويوجهون سهام الغدر له، وليس أصعب على القلب من لصّ يسرق أحلامه البريئة، وأجمل محطات العمر، فكيف بحال من استيقظ ذات صباح على يد ملطخة تسرق صومعته، ودواة حبره، ولعب طفولته ومسبحة العقيق التي ورثها عن جدّه، ومشط العاج الذي داعب يوماً خصلات جدّته؟ والأهمّ من هذا تسرق رغيفه الذي ينبض كالقلب!!!
الجوع يجتاح الأرواح الخاوية على عروشها، الطاوية على الألم، ويحطّ ضيفاً ثقيلاً يلقي بظلاله على روابينا، تنداح الدموع من جفون الثكالى، لا جوعاً، بل إشفاقاً على صغار ما عاشوا أحلام الطفولة البريئة ولا داعبت أهدابهم مرابع الصبا، ومراتع نيسان، فكلّ رغيف قد أصبح قذيفة توجه إلى صدروهم، وكلّ قطرة عسل حلّ مكانها قطرة دم نازف من جرح الشهيد، واختلطت الدموع المالحة بحلاوة الشهادة لأنّ الشهادة من الشهد ترقرقت.
أيعقل أن تجوع أمّ الدنيا، ستّ الكلّ بعد أن أشبعتنا حناناً؟ أيُعقل أن تدار القدور على فتات الصخور، والأفواه فاغرة، تحاول أن تتلقف ما قد يسقط من فتات موائد أصحاب الأرانب، وحين يشتدّ الجوع آذنوا بالحرب، فالجوع كافر، والفقر كفر تعوّذ منه الرسول الأعظم -صلوات الله عليه وأفضل التسليم-... ورخّص للجائع سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يأتي رزقه أنى وجده، فما سرق من سرق ليطعم صغاره. فهل نحن ماضون في اتجاه حالة من الانفلات الأمني لا تحمد عقباها نتيجة لعام كامل من الجوع والفقر، والحاجة؟ وفوق ذلك كلّه، عام من الموت، والرعب، والألم.... يضيف على المشهد تعقيدات جمّة، ويضغط بكلكله على كاهل الأبناء والآباء، الكلّ أعلن إفلاسه من كلّ شيء إلا القيم الإنسانية التي لا يعرفها من حرمه ضوء عينيه، ورغيف صغاره. كم ذرفت عيون الآباء عجزاً عن إقالة عثرة أولادهم، وكم لاقى رضّعٌ حتفهم من إملاق!
كنا نسمع عن مجاعات جنوب إفريقيا، وأطفال الصومال، فنقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به وفضّلنا على كثير من خلقه تفضيلاً. لكن اليوم، وما أقسى ما تعيشه حمص اليوم، أصبحنا ندرك تماماً معنى الفاقة، بفضل الحكومة السورية التي نهبت خيرات البلد الذي يعتبر أغنى الدول العربية، ودمّرت اقتصاده، وهدمت بنيته التحتية، وقتلت وشردت الآلاف من السوريين باسم الوطنية الزائفة. لكنّه كما راهن فولتير على وجود الذات الإلهية، يراهن الشعب الصامد على النصر، يراهن على قوة ساعة الصفر، لأنّ الصفر الذي اخترعه الخوارزمي ليدلّ به على العدم، واللاشيء، كان ذاته طريقنا إلى كلّ شيء، لن تكبر الأرقام في بنك أخلاقكم دون "الصفر"، ولن تتضاعف إرادة النصر أضعافاً بغير "الصفر"...
فاعتبرونا أصفاراً كما تشاؤون، ليس لكم وجود بعيد عنا، لأنّنا مركز هذا الكون، ونقطة انطلاقكم من العدم، وإلى العدم -بإذن الله-، فاحذروا صولة الحليم إذا (جاع)، واحذروا يوماً ترجعون فيه إلينا نادمين راكعين.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع