..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

جدل سوري في الهزيمة

عمر قدور

٥ ٢٠١٩ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 1967

جدل سوري في الهزيمة

شـــــارك المادة

إهانتان توالت موسكو وطهران على توجيههما، الأولى بتسريب صورة قديمة لبشار الأسد يظهر فيها كأنه في عداد رعية بوتين وضباطه، والثانية عبر استقدامه إلى طهران خلسة، وفي طيارة شحن كما أُشيع، ومن ثم استقباله كمسؤول إيراني صغير لا يستلزم حضوره وضع علم الدولة التي يُفترض "شكلياً" أنه يمثّلها. الصراع بين العاصمتين يبدو كأنه يعتمد على إبراز تبعية بشار لكل منهما، والتسابق في إذلاله يظهر كأنه السبيل الوحيد لإظهار تفوق كل منهما على الأخرى، بينما من يتلقى الإهانة جاهز عند الطلب مهما كان مذلاً.
 

سيكون مضيعة للوقت رمي هذه النهاية المشينة في وجه شبيحة الأسد وقسم من موالاته، وهم سيلقون باللائمة على الذين قاموا بالثورة، وطبعاً على عناصر المؤامرة الكونية المزعومة، إذا اضطروا للإقرار على مضض بوجود إهانة ما. بالتأكيد سيلجأ هؤلاء إلى استذكار شخصيات في المعارضة تابعة لهذه الدولة أو تلك، واضعين بلا وعي رئيسَهم في مصاف من يتهمونهم بالعمالة والإرهاب. ذلك قد لا يكون حال معسكر الموالاة كاملاً، فإذا تجاوزنا الإهانات التي يتعرض لها من يُفترض أن يمثّل ولو شكلياً مفهوم السيادة فإن واقع الأزمات المعيشية يدل على ثمن الانتصار الموعود، وفي آخر خطاب لبشار لم يقدم ولو وعوداً كاذبة لتحسين المستوى المتردي الذي أودى بـ80% من السوريين إلى ما دون خط الفقر بحسب تقرير جديد للأمم المتحدة.
 

على صعيد موازٍ، تشير كافة التقارير إلى أن التنافس الروسي-الإيراني، من أجل استرداد تكلفة الإبقاء على بشار، هو تنافس في الجشع أيضاً. الطرفان يريدان الثمن من حاضر ومستقبل السوريين، وبالحصول على اتفاقيات إذعان طويلة الأمد، على الصعيد العسكري والاستراتيجي وعلى الصعيد الاقتصادي، ومن أجل تنفيذ الاتفاقيات المذكورة سيلزم تحرير القطاعات المذكورة من قبضة بشار وزمرته. كما نعلم فإن ذلك يمضي قدماً عبر اقتسام الطرفين السيطرة المباشرة على القوات التي باتت تتبع الأسد شكلياً، وعلى قسم من أجهزة استخباراته، ليبقى تحرير الاقتصاد منه متوقفاً على أمرين؛ استقرار القسمة بين طرفيها، والانتهاء من الأعمال العسكرية بحيث تغطي جعجعة الانتصار العسكري على التضخم الهائل المتوقع جراء اقتسام الاقتصاد وإعادة الإعمار بأسلوب المافيات.
 

استعراض الفشل الذريع والهزيمة المسماة نصراً قد يكون مادة للشماتة لدى بعض المعارضة، لا لدى غالبية منها، لأن القسم الغالب يدرك على الأقل بقاء سوريين متضررين لا ينتمون إلى البنية الأسدية، ويدرك أن أبواب الخروج من سوريا باتت مغلقة منذ زمن طويل حتى من قبل الجار التركي الذي يزعم الغيرة على مصير السوريين. من جهة أخرى، يرى هذا القسم مآل قيادات المعارضة التي انحدرت من فشل إلى آخر، ومن ارتهان إلى ارتهان لا يقل عنه بؤساً، بحيث أن ما تبقى فعلياً منها يصعب إيجاد قاسم بينه وبين ما انطلقت الثورة بسببه ولأجله.
 

كي لا نحسن الظن ونخطئه معاً، هذه الهزيمة المتكاملة لا تمتلك ديناميكيات إيجابية حتى الآن، بل على العكس من ذلك؛ أطرافها منخرطة عموماً في الكيد الذي يتبادله المهزومون. لا يخرج عن الإطار نفسه الكيدُ الذي نراه في مقلب المعارضة، بين علمانيين وإسلاميين، وبين يساريين سابقين ونظرائهم. لا يُستبعد على الصعيد ذاته الانقسام الطائفي أو العرقي، وبدرجات مختلفة تطل الانقسامات أو المظالم المناطقية. إذا اعتمدنا تاريخ انطلاق الثورة، فمنذ ذلك الحين أخذت الانقسامات تتفاقم وتترسخ بعد خروجها إلى العلن، ولا نغامر بالقول أن نسبة ساحقة من السوريين فقدت صلتها الواعية "المُفكَّر فيها" بالواقع، وبقيت أسيرة لحظات تقادمت بفعل ديناميكيات الخارج الذي تولى تطويع الداخل بمجمله.
 

الجدالات السورية الصغيرة في مناخ الهزيمة نستطيع ردّ جانب مهم منها إلى الارتكاسات المرافقة للهزيمة نفسها، وعلى ذلك نستطيع التنبؤ بتفاقم الشروخ والفصامات النفسية الفردية والجماعية التي ستتعزز بعيداً عن الواقع، بعد امتلاكها قوى دفع ذاتية. بالأحرى ثمة في الواقع ما يسند تلك الفصامات، هو اعتبار الشروخ الواقعية مؤبدة وخارج منطق السياسة، وهذا الاستسلام لما يُحسب بمثابة القدر يتولى امتناع التفكير فيه أو محاولة تغييره. إلا أن ذلك على الأقل منافٍ لمنطق الثورة، لا بعدّها حدثاً بدأ وانقضى، وإنما باحتسابها ضمن سياق مما قبل وبعد.
 

على نحو أو آخر، كان الانفجار السوري سيحدث، بحكم عوامل كان معظم السوريين "الذين انقسموا في ما بعد" يشكو منها. البديهية التالية هي أن المتضررين من عقود حكم "المزرعة الأسدية" لم يمتلكوا أدنى قوة، ولا أدنى هامش للانتظام كقوى ضغط، لسبب بسيط ومعروف هو تحريم السياسة في المزرعة. أما البديهية الثالثة التي أثبتتها الثورة، فهي أن الثورة ذاتها فعل مجتمعي، إذا انتصرت يكون انتصارها على قاعدة انتصار السواد المجتمعي الأعظم الذي ينتج التسويات الملائمة له ولمستقبله، وإذا هُزمت تكون الهزيمة للكتلة العظمى ذاتها التي لم تتمكن من "أو لم يُتح لها" الوصول إلى تلك التسويات.
 

في حالتنا السورية، نحن إزاء أنموذج صارخ لهزيمة الثورة وإفشالها، ولعل أفضل معيار للهزيمة هو الفشل الذريع والهزيمة في معسكر المنتصرين، إذ لا شيء يثبت أحقية الثورة ضمن سياقها التاريخي كما تثبته الهزيمة الجماعية الكبرى. لدينا أيضاً تجارب في المنطقة تثبت أن الهزيمة الشاملة لا تلغي استحقاق التغيير، وبدل تجرعه وجعله من الماضي يبقى الخوف منه مسلطاً ومولِّداً للفشل. تفيدنا أيضاً التجارب المجاورة بأن التعلم من الهزيمة ليس سهلاً أو متاحاً، رغم أنه لا ينتقص من قيمة المهزومين! لذا، سيكون من الأسهل طرق باب اليأس، وانتظار المزيد من تعفن المستنقع السوري بمن فيه. الاحتمالات الأخرى تحتاج شجاعة عامة غير متاحة في المدى المنظور، بل لعل الكثيرين لا يجرؤون على مجرد التفكير فيها لئلا تكون قدراتهم العقلية محل شك.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع