..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

متى نصر الله؟

عبد العزيز الجليل

٦ ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 7289

متى نصر الله؟
الله قريب 0.jpg

شـــــارك المادة

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحمد لله نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مضل له،ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم- تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيُّها المسلمون: لا ريبَ أن من أعزِّ مقاصد المؤمنين، وأشهى مطالبهم، وغاية نفوسهم: رؤيةَ دينهم ظاهراً، وكتابهم مهيمناً، وعلو رايةَ التوحيد خفاقةً مع قهرِ أهلِ الكفرِ والطغيان وإذلالهم.

إنَّ هذا الهدفُ الأعظم، وتلك الأمنيةُ السامية، لا تتحققُ عن طريقِ الدعاوى والأماني، بل عن طريقِ البحثِ والتنقيبِ عن سننِ اللهِ في النصر، تلك السنن الربانية التي قدَّرها -تبارك وتعالى- لنصرِ حزبهِ الموحدين، وخذلانِ حزبِ الشيطان اللعين.

فيجبُ علينا معشرَ المؤمنين حتى نحققَ صدقَ الدعوة، ونقيم عليها البينة العادلة، أن نتعرفَ علي تلكَ السننِ وطبيعةَ الصراع، وحجمَ التكاليفِ، وشراسةَ الأعداء، ومُباينةَ السُبل، واختلافَ المناهجِ والغاياتِ والتوجهاتِ بين المؤمنينَ والكافرين، حتى نقضي علي فريةٍِ وُحدة الأديان، وتوحيدِ الرايات والالتقاءِ في الطريقِ تحت ستارَ الأسرةِ الواحدةِ والشرعيةِ الدولية.

أيُّها المؤمنون، إنَّ دينَ اللهِ-الذي اصطفاهُ لنا ولا يعبدُ إلاَّ به- يقتضي أن يكون-جلُّ شأنه-حاكماً لا مُعقبَ لحكمه، وأن يُوحدَ بالعبادةِ، وأن يُفردَ بالولاء، والبراءةِ والانخلاعِ من كلِّ ما يُعبدُ من دونه.

ومن هُنا وجبَ إعدادُ العُدة، والأخذُ بالسننِ الربانيةِ لتحقيقِ النصرِ المأمول، مع الحذرِ الشديدِ من العوائقِ الداخليةِ، والأمراضِ الفتاكةِ التي تفتكُ بجسدِ الأمة، وتسلمها فريسةً سهلةً لأعدائها، لتحولَ بينها وبين غايتها العُظمى، ودورها المنشودُ المناطُ بها، بل المدققُ في تلك العوائقِ الداخلية، ليتيقنُ أنَّها الأساسُ المنيع، الذي تستمدُ منه العوائقُ الخارجية وجودها وهيمنتها.

إنَّ الله -عز وجل- بعلمهِ الشامل وحكمتهِ البالغة، قدَّر وقضى أن يكون الصراعُ بين الحقِّ والباطلِ موجوداً إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.

معشر المؤمنين، وأمَّا عن طبيعةِ هذا الصراع: فسمتهُ أنَّهُ حربٌ ضروس، لن يخمدَ لهيبُها إلى قيامِ الساعة.قال تعالى: ((وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)) [البقرة: 217]، ولا يخفى ما تحويهِ لفظة: (( وَلا يَزَالُونَ )) من الاستمراريةِ والبقاءِ دون انقطاع، ولهذا جاءَ الأمرُ واضحاً من العليمِ الحكيم لأوليائه: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) [الأنفال:39]، والفتنةُ لن تخلو منها الأرض، بل الساعةُ تقومُ على شرِّ أهلها.

وكذلك أخبرَ نبيُّ لله- صلى الله عليه وسلم- بأنَّ: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلي يوم القيامة))[1].

هـذه السنةُ الربانية قد خصَّ بها حشدٌ من النصوصِ المستفيضة حتى بلغت حدَّ التواترِ اللفظي والمعنوي، وغدت من المعلومِ بالاضطرارِ من هذا الدين، وأصبحَ المُكذِّبُ بها مُكذِّباً بالدين، طاعناً على ربِّ العالمين، مُتبعاً غيرَ سبيلِ المؤمنين.

وهذا من أبلغِ الحججِ والبراهينِ على دحضِ افتراءاتِ العلمانيين و المنافقين ـ الذين وقفوا على طريقِ جهنم، وأعلوا رايتهم مُلوِحينَ بها للناسِ،، أن هلمُّوا إلينا ليقذفوهم فيها، الذين يزعمون ويفترون بأنَّ الحربَ الدينيةِ اليوم قد انتهت، وحريٌّ بالعالمِ أجمع أن يجتمعَ تحت رايةٍ واحدة، وأن يكونوا كالجسدِ الواحدِ المتجانسِ الشعورِ والإحساس، ولا تحولُ معتقداتهم دون هذا البتة، بل يجبُ أن تبقى هذه المعتقدات حبيسةَ القلوب، وحبيسةَ دورَ العبادةِ والمحاريب، ولا تتعدى جدارها ولا تتخطى حُدودها.

ومن المعلومِ أنَّ الخصومَ في حروبها تلجأُ إلى ناصرٍ ووليٍ ومعين، تحتمي بحماهُ، وتقهرُ بقوته، وتعتزُ بعزهِ،فاللهُ ـ جلَّ شأنه ـ لم يرتضي لأوليائهِ ناصراً سواهُ ولا ولياً دونه، ولا معيناً عداهُ، قال تعالى: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا )) [البقرة: 257]، وقال سبحانه: (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ )) [محمد:11].

ومن هُنا وجبَ علينا معشرَ المؤمنين، وأمةَ التوحيدِ أن نتوكلَ على مولانا وناصرُنا، ونعي آثار أسمائهِ الحسنى، وصفاته العلى، فنتعبدُ لله بها، وتظهرُ في القلوبِ آثارها، فتطمئنُ لوعدِِِ اللهِ وتثقُ بنصره، حتى ولو صالَ الباطلُ وانتفشَ في وقتٍ من الأوقات، فإنَّ المؤمنَ يوقنُ أنَّ ما قدَّرهُ اللهُ هو الخير، ويحوي في طياتهِ الرحمةُ والنعمة، وإن كان ظاهرهُ الألمَ ُوالمشقة، ذلك أنَّ رحمةَ اللهِ سُبحانه قد سبقت غضبه، وأنَّ الشرَّ ليس إلى الله عز وجل.

إنَّ معبودَ وولي المؤمنين هو الجبارُ القوى: الذي لا يُعجزهُ شيءٌ، العزيزُ فلا يغلبهُ شيء، المتكبرُ الذي تكبرَ عن السوءِ والظلم، الرحمنُ الذي هو أرحمُ بعبادهِ من الوالدةِ بولدها. العليمُ فلا يخفى عليه شيء، والسرُّ والجهرُ عندهُ سواء، لا يعزُبُ عن علمهِ مثقالُ ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض، الحكيمُ في أفعالهِ وقدرهِ وأحكامه، القديرُ: فالسماواتُ مطوياتٌ بيمينه، والأرضُ جميعاً قبضتهُ يوم القيامة، ما قدَّرهُ أولياؤهُ حق قدرهِ فضلاً عن أعدائه. المحيطُ بظلمِ الظالمين ومكرِ الماكرين، لا يفُوتُه شيء، العلىُّ قد علا على كلِّ شيءٍ دونهُ وتحت قهرهِ وغلبته.

يقولُ ابن القيم رحمه الله: "وكذلك اسمهُ السلام فإنَّه الذي سَلِمَ من العيوبِ والنقائص، ووصفُه بالسلام أبلغُ في ذلك من وصفهِ بالسالم، ومن موجباتِ وصفهِ بذلك سلامةُ خَلْقه من ظُلمهِ لهم، فسَلِم سبحانهُ من إرادةِ الظلمِ والشر، ومن التسميةِ به، ومن فعلهِ، ومن نسبتهِ إليه، فهو السلامُ من صفاتِ النقصِ وأفعالِ النقص، وأسماءِ النقص، المُسلِّم لخلقهِ من الظُلم، ولهذا وصفَ سُبحانهُ ليلةَ القدرِ بأنَّها سلام، والجنةُ بأنَّها دارُ السلام، وتحيةُ أهلها السلام، وأثنى على أوليائهِ بالقولِ السلام، كلُّ ذلك السالم من العيوب، وكذلك الكبيرُ من أسمائه.

والمتكبر: قال قتادة وغيره: هو الذي تكبرَ عن السُوء، وقال أيضاً: الذي تكبرَ عن السيئات، وقال مُقاتل: المتعظمُ عن كلِّ سُوء، وقال أبو إسحاق: الذي يكبرُ عن ظلمِ عباده. وكذلك اسمهُ العزيزُ الذي لهُ العزةُ التامة، ومن تمامِ عزتهِ براءتهِ عن كلِّ سُوءٍ وشرٍ وعيب، فإنَّ ذلك يُنافي العزة التامة.

كذلك اسمهُ العلىّ الذي علا عن كل عيبٍ وسوءٍ ونقص، ومن كمالِ عُلوهِ أن لا يكونَ فوقهُ شيء، بل يكونَ فوقَ كلِّ شيء.

وكذلك اسمهُ الحميد، وهو الذي لهُ الحمدُ كُله، فكمالُ حمدهِ أن لا يُنسبَ إليه شرٌ ولا سُوء ولا نقص، لا في أسمائهِ ولا في أفعالهِ ولا في صفاته، فأسماؤهُ الحُسنى تمنعُ نسبةَ الشرِّ والسوءِ والظلمِ إليه، مع أنَّهُ سُبحانهُ الخالقُ لكلِّ شيء، فهو الخالقُ للعبادِ وأفعالهم، وحركاتهم وأقوالهم.

والعبدُ إذا فعلَ القبيحُ المنهيّ عنهُ كان قد فعلَ الشرَّ والسُوء، و الربُّ سُبحانهُ هو الذي جعلهُ فاعلاً لذلك، وهذا الجعلُ منهُ عدلٌ وحكمةٌ وصواب، فجَعْلُهُ فاعلا خير، والمفعولُ شرٌ قبيح، فهو سُبحانهُ بهذا الجعلِ قد وضعَ الشيءُ موضعهُ لما لهُ في ذلك من الحكمةِ البالغةِ التي يُحمدُ عليها، فهو خيرٌ وحكمةٌ ومصلحة، وإن كان وقوعهُ من العبدِ عيباً ونقصاً وشراً وهذا أمرٌ معقول مُشاهد.

ومن أسمائهِ سُبحانهُ العدلُ والحكيمُ الذي لا يضعُ الشيءُ إلاَّ في موضعهِ، فهو المحسنُ الجوادُ الحكيمُ، العدلُ في كلِّ ما خلقهُ وفي كل ما وضعه.

وقد قضى اللهُ سُبحانهُ وتعالى بأنَّ البقاءَ للحقِ؛ لأنَّهُ الأصلُ الذي قامت عليه السماواتُ والأرض، وأمَّا الباطلُ فهو طارئٌ وزاهق، قال تعالى: ((وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)) [الإسراء:81]، وقال سُبحانه: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)) [الرعد:17].

ولكن حكمةَ اللهِ عز وجل البالغة اقتضت أن يُوجدَ الباطلُ لاختبارِ أوليائهِ، وإظهارِ آثارِ أسمائهِ الحُسنى، وصفاتهِ العُلا، وليبلي المؤمنين منهُ بلاءً حسناً، وإلاَّ لو شاءَ اللهُ عز وجل لم يكن هُناك كفرٌ ولا باطل، قال تعالى: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))[محمد:4].

يقولُ الإمامُ ابنُ القيم رحمهُ الله تعالى: "والرضا بالقضاءِ الكوني القدري، الجاري على خلافِ مُرادِ العبدِ ومحبتهِ ـ ممَّا لا يلائمهُ، ولا يدخلُ تحت اختيارهِ - مستحب، وهو من مقاماتِ أهلِ الإيمان، وفي وجوبهِ قولان، وهذا كالمرضِ والفقر، وأذى الخلقِ له، والحرُّ والبرد، والآلامُ ونحو ذلك.

والرضا بالقدرِ الجاري عليه باختياره- ممَّا يكرههُ اللهُ ويسخطه، وينهى عنه - كأنواعِ الظُلمِ والفسوقِ والعصيان، حرامٌ يُعاقبُ عليه، وهو مخالفةُ لربهِ تعالى، فإنَّ اللهَ لا يرضا بذلك ولا يحبه، فكيف تتفقُ المحبةُ ورضا ما يسخطهُ الحبيب ويبغضه ؟ فعليك بهذا التفصيل في مسألةِ الرضا بالقضاء.

فإن قُلت: كيف يريدُ اللهُ سُبحانهُ أمراً لا يرضاهُ ولا يُحبه؟ وكيف يشاؤهُ ويُكَوِّنه؟ وكيف تجتمعُ إرادةُ الله لهُ وبغضهُ وكراهيته ؟

قيل: هذا السؤالُ هو الذي افترقَ الناسُ لأجلهِ فرقاً، وتباينت عندهُ طرقهم وأقوالهم.

فاعلم أنَّ "المرادَ " نوعان: مرادٌ لنفسهِ، ومرادٌ لغيره.

فالمرادُ لنفسهِ: مطلوبٌ محبوبٌ لذاته، ولما فيه من الخير، فهو مرادٌ إرادةَ الغاياتِ والمقاصد.

والمرادُ لغيره: قد لا يكونُ في نفسهِ مقصوداً للمريد، ولا فيهِ مصلحةً لهُ بالنظرِ إلى ذاته، وإنَّ كان وسيلةً إلى مقصودهِ ومراده، فهو مكروهٌ لهُ من حيثُ نفسهِ وذاته، ومرادٌ له من حيث إفضائهِ وإيصالهِ إلى مراده، فيجتمعُ فيه الأمران: بغضهُ، وإرادته، ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواءِ المتناهي في الكراهية، إذا علم متناولهُ أن فيه شفاءه، وكقطعِ العضو المتآكلِ إذا علم أن في قطعهِ بقاء جسده،وكقطعِ المسافةِ الشاقةِ جداً إذا علم أنَّها توصلهُ إلى مرادهِ ومحبوبه، بل العاقلُ يكتفي في إيثارِ هـذا المكروهِ وإرادتهِ بالظنِّ الغالب، وإن خَفيت عنهُ عاقبته، وطويت عنهُ مغبته، فكيفَ بمن لا تخفى عليه العواقـب ؟ فهو سُبحانهُ وتعالى يكرهُ الشيءَ ويبغضهُ في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادتهُ لغيره، وكونهِ سبباً إلى ما هو أحبُ إليه من فوته.

مثالُ ذلك: أنَّهُ سُبحانهُ خلقَ إبليس، الذي هو مادةٌ لفسادِ الأديانِ والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو سببُ شقاوةِ العبيد، وعملهم بما يُغضبُ الربُّ تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوعِ خلاف ما يحبهُ الله ويرضاهُ بكل طريقٍ وكل حيلة، فهو مبغوضٌ للربِّ سبحانه وتعالى، مسخوطٌ له، لعنهُ اللهُ ومقته، وغضبَ عليه، ومع هذا فهو وسيلةٌ إلى محابٍّ كثيرةٍ للربِّ تعالى، ترتبت على خلقه، وجودها أحبُّ إليه من عدمها.

٭ منها: أن تظهرَ للعبادِ قدرةَ الربِّ تعالى على خلقِ المتضادات المتقابلات، وذلك من أدلِ الدلائلِ على كمالِ قُدرته وعزته، وسلطانهِ ومُلكه، فإنَّهُ خلقَ هذه المتضادات، وقابلَ بعضها ببعض، وجعلها محال تصرفهِ وتدبيرهِ وحكمته، فخلو الوجود عن بعضها بالكليةِ تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه وتدبير مملكته.

٭ ومنها: ظهورُ آثار أسمائه القهرية، مثل ( القهار، والمنتقم، والعدلُ، والضار، وشديدُ العقاب،وسريعُ الحساب، وذي البطشِ الشديد، والخافضُ، والمذل) فإنَّ هذه الأسماءُ والأفعال كمال. فلابدَّ من وجودِ متعلقها، ولو كان الخلقُ كُلهم على طبيعةِ الملَك: لم يظهر أثرُ هذه الأسماءِ والأفعال.

٭ ومنها: ظهورُ آثارِ أسمائهِ المتضمنةِ لحلمهِ وعفوه، ومغفرتهِ وستره، وتجاوزهِ عـن حقـهِ، وعتقهِ لمن شاءَ من عبيده، فلولا خلق ما يكرهُ من الأسبابِ المفضيةِ إلى شهودِ آثارِ

هذه الأسماء، لتعطلت هذه الحكمُ والفوائد، وقد أشارَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم )) [2].

٭ ومنها: ظهورُ آثارِ أسماءِ الحكمةِ والخبرة، فإنَّهُ سُبحانه " الحكيمُ الخبير " الذي يضعُ الأشياءَ مواضعها، وينزلها منازلها اللائقةِ بها، فلا يضعُ الشيءَ في غيرِ موضعه، ولا ينزلهُ غيرَ منزلته، التي يقتضيها كمالَ علمهِ وحكمتهِ وخبرته، فلا يضعُ الحرمانُ والمنعُ موضعَ العطاءِ والفضلِ، ولا الفضلُ والعطاءُ موضع الحرمان والمنع، ولا الثوابُ موضع العقاب، ولا العقابُ موضعَ الثواب، ولا الخفضُ موضع الرفع، ولا الرفعُ موضع الخفض، ولا العزُ مكان الذل، ولا الذلُ مكان العز، ولا يأمرُ بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عمَّا ينبغي الأمرُ به.

فهو أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالته، وأعلمُ بمن يصلحُ لقبولها، ويشكرهُ على انتهائها إليهِ ووصولها، وأعلمُ بمن لا يصلحُ لذلك ويستأهلهُ، وأحكمُ من أن يمنعها أهلها، وأن يضعها عند غيرِ أهلها.

فلو قُدِّرَ عدمُ الأسباب المكروهةِ البغيضةِ له لتعطلت هذه الآثار، ولم تظهر لخلقهِ، ولفاتت الحكمُ والمصالحُ المترتبةِ عليها، وفواتها شرٌ من حصولِ تلك الأسباب.

فلو عُطلت تلك الأسبابُ -لما فيها من الشرِّ- لتعطلَ الخيرُ الذي هو أعظمُ من الشرِّ الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمسِ والمطرِ والرياحِ التي فيها من المصالحِ ما هو أضعافُ أضعاف ما يحصلُ بها من الشرِ والضرر، فلو قُدرَ تعطيلها ـ لئلاَّ يحصلَ منها ذلك الشرُّ الجزئي ـ لتعطل من الخيرِ ما هو أعظمُ من ذلك الشرِ بما لا نسبةَ بينه وبينه.

٭ ومنها: حصول العبوديةِ المتنوعةِ التي لولا خلق إبليس لما حصلت، ولكانَ الحاصلُ بعضها لا كلها، فإنَّ عبوديةَ الجهادِ من أحبِّ أنواعِ العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناسُ كلهم مؤمنين لتعطلت هذهِ العبودية وتوابعها: من الموالاةِ فيه سبحانه، والمعاداةِ فيه، والحبِ فيه والبغضِ فيه، وبذلِ النفسِ له في محُاربةِ عدوهِ، وعبوديةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عـن المنكر، وعبوديةِ الصبرِ، ومخالفةِ الهوى، وإيثارِ محابِّ الربِّ على محابِّ النفـس.

٭ ومنها: عبوديةِ التوبة، والرجوعِ إليه واستغفاره، فإنَّهُ سُبحانه يُحبُ التوابين ويُحبُ توبتهم، فلو عُطِّلت الأسبابُ التي يتاب منها لتعطلت عبوديةُ التوبة والاستغفار منها.

٭ ومنها: عبوديةِ مخالفة عدوه، ومرا غمته في اللهِ، وإغاظتهِ فيه، وهي من أحبِ أنواعِ العبوديةِ إليه، فإنَّهُ سُبحانَهُ يحبُّ من وليهِ أن يغيظَ عدوهُ ويراغمه ويسوءه، وهذهِ عبوديةٌ لا يتفطنُ لها إلاَّ الأكياس.

٭ ومنها:أن يتعبدَ لهُ بالاستعاذةِ من عدوه، وسؤالهِ أن يجيرهُ منه، ويعصمهُ من كيدهِ وأذاه.

٭ ومنهـا: أن عبيدهُ يشتدُّ خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حلَّ بعدوهِ

بمخالفتهِ وسقوطهِ من المرتبة الملكية، إلى المرتبةِ الشيطانية، فلا يُخلدون إلى غرورِ الأملِ بعد ذلك.

٭ ومنها: أنَّهم ينالون ثوابَ مخالفتهِ ومعاداته، الذي حصولهُ مشروطٌ بالمعاداةِ والمخالفةِ، فأكثرُ عبادات القلوبِ والجوارحِ مرتَّبةً على مخالفته.

٭ ومنها: أنَّ نفسَ اتخاذهِ عدواً من أكبرِ أنواعِ العبودية وأجلِّها. قال الله تعالى: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً )) [فاطر:6]، فاتخاذهِ عدواً أنفعُ شيءٍ للعبد، وهو محبوبٌ للرب.

الخطبة الثانية:

إنَّ الحمد لله نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مضل له،ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- تسليماً كثيراً.

٭ أيُّها الأحبة: إنَّ الطبيعةَ البشريةَ مشتملةٌ على الخيرِ والشر، والطيبِ والخبيث، وذلك كامنٌ فيها كمونَ النارِ في الزناد، فخُلِقَ الشيطان مُستخرجاً لما في طبائعِ أهلِ الشرِّ من القوةِ إلى الفعل، وأرسلت الرسلُ تستخرجُ ما في طبيعةِ أهلِ الخيرِ من القوةِ إلى الفعل، فاستخرجَ أحكمُ الحاكمين ما في قوى هؤلاءِ من الخيرِ الكامنِ فيها، ليترتبَ عليه آثارهُ، وما في قوى أولئكَ من الشرِ، ليترتبَ عليه آثارهُ، وتظهرَ حكمتهُ في الفريقين، ويُنفِذُ حكمهُ فيهما، ويُظهرُ ما كان معلوماً له مطابقاً لعلمهِ السابق.

إنَّ المتأملَ اليومَ في عصرنا الحاضر وما فيه من الصراعاتِ،يجدُ أنَّ الصراعَ بين الحقِّ والباطلِ قد بلغَ أشده، وأنَّ مللَ الكفرِ قد جمعت كل إمكانياتها ضدَّ عدوٍ واحدٍ، ألا وهو الإسلامُ ودعاتهُ الصادقون الذين يصفونهم تارةً بالمتطرفين، وتارةً بالأصوليين، وتارةً بالإرهابيين.

وإنَّ المراقبَ للأحداثِ التي ظهرت في الســنواتِ الأخيرة، وبالذات بعد أحداثِ الخليجِ، ونشوءِ ما يُسمى النظامُ العالمي الجديد النظامُ العالميُ الجديد: هذا المصطلحُ الذي يحملُ في طياتهِ الكثيرِ من الخبثِ والمكرِ للإسلام والمسلمين – قد اصطلح عليه أئمةُ الكفرِ من اليهودِ والنصارى والشيوعيين، لزيادةِ النكايةِ بالمسلمين، والعملِ الدءوب لمنعِ ظهورِ الإسلامِ مسيطراً ومهيمناً لأداءِ دورهِ المنشود. ومضمونُ هذا المصطلح: أن يكونَ العالمُ بأسرهِ – على اختلافِ مللهِ- تحتَ رايةٍ واحدةٍ يوالي ويعادي من أجلها، وتلك الرايةُ بكلِّ وضوحٍ هي رايةُ الصليبِ تحتَ ستارَ الأمم المتحدة – التي لم تتحد إلاَّ على ضربِ الإسلامِ وتمزيقِ أهلهِ، وإعلاءِ رايةِ الكفرِ والطغيان – والقائمون على رأسِ هذا النظامِ من اليهودِ والنصارى والمشركين، لهم حقُّ الحكمِ والقراراتِ والفصلِ في شتىَّ المنازعاتِ والخصوماتِ بين كافةِ الدولِ والمللِ والمجتمعات، دونَ حقِ التعقيبِ عليها من أحد، بل على العالمِ أجمع الانصياعُ التام والعبوديةُ الكاملة، والطاعةُ المطلقةُ لتلك الطائفةِ الحاكمة.

وأمَّا عن حُكمِ هذا النظامِ الخبيث: فمن المعلومِ بالاضطرارِ من الدين: أنَّ كلَّ ما عُبدَ من دونِ الله فهو طاغوت، وهذا الحدُّ متوفرٌ في هذا النظامِ الخبيثِ، لاستباحتهِ حقَّ التشريعِ، وسنَ القوانينِ والحكمِ بما شاءَ من غيرِ تقيدٍ أو امتثالٍ لحدودِ الله سُبحانهُ، التي حدَّها في كتابهِ وسنةَ رسولهِ r، وهذا هو لبُّ العبادةِ وأصلها، والدليلُ على ذلك: حديثُ عدي بن حاتم – رضي الله عنه – عندما أقسمَ باللهِ للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم – أي أهلُ الكتاب – ما وقعوا في عبادةِ الأحبارِ والرهبان، فاحتجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بوجودِ أصلِ العبادةِ ولبها، فقال: ((ألم يُحلوا لكم الحرام، ويُحرموا عليكم الحلالَ فاتبعتموهم)) قال: بلى. قال: ((فتلك عبادتكم إياهم)):. وقال القرآن في حقهم: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [التوبة:31].

فتلك الأمةُ عندما أنزلت أحبارَها ورهبانَها منزلةَ ربها في التحليلِ والتحريمِ والتشريعِ من دونهِ، خرجت بذلك عن عبادةِ ربها إلى عبادةِ الأحبارِ والرهبان، فكيفَ بمن يتخذُ أحبارَ ورهبانَ، وأئمةَ الكفرِ لملةٍ لا يدينُ بها أرباباً من دونِ الله ؟!!

أمَّا عن كيفيةِ الكفرِ والبراءةِ من هذا الطاغوت: فيجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يعلنَ الكفرُ والبراءةُ من هذا الطاغوت، والانخلاعُِ من طاعته في شريعتهِ امتثالاً لقوله تعالى: ((فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا)) [البقرة: 256] ولا يكفي هذا حتى يُعادي عُبّادِ هذا الطاغوت، ويُظهرَ لهم العداوةُ والبغضاءُ أبداً حتى يكفروا به ويُؤمنوا باللهِ وحده، قال تعالى: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) [الممتحنة:4].

تتسمُ بسمتينِ رئيسيتين هما:

١- التسارع الشديدُ والمفاجآت التي تصحبها، إلى حدِ أنَّ المتابعَ لهذهِ الأحداثِ لا يفتأُ يسمعُ بحدثٍ ويبحثُ عن الموقفِ منهُ إلاَّ وتفاجئهُ أحداثٌ أُخرى تنسيهِ أو تُشغلهُ عن الحدثِ الأول.

٢- إنَّ أغلبَ هذهِ الأحداثِ - إن لم نقُل كلَّها - تقعُ في المنطقةِ الإسلاميةِ، وأنَّ المسلمين فيها هُم المستهدفون بالدرجةِ الأولى.

إنَّ هذا الصراعُ الذي نعيشهُ في الآونةِ الأخيرةِ قد رجحت فيه قــوةُ الكفرِ والكافرين ـ لحكمةٍ يعلمُها اللهُ عز وجل، كما سبقَ أن بينّا - فاستباحوا بذلك ديارَ المسلمين ودماءَهم وأعراضهم، وبلغَ المسلمون من الذلةِ والمهانةِ واستخفافِ أعدائهم بهم ما لا يعلمهُ إلاَّ اللهَ عزوجل.

وفي ظلِ هذهِ الحملةِ الشرسةِ على ديارِ المسلمينَ ودينهم وأعراضهم صارَ الكثيرُ من الدعاةِ إلى اللهِ عز وجل يتساءلون مع بعضهم أو مع أنفسهم.

أما آنَ لهذهِ المهانةِ أن تنقشعَ ؟ متى ينجلي هذا الليلُ الطويل، الذي ناءَ تحتَ كلكلةِ كلِّ مسلمٍ غيور، يُهمَّهُ أمر هذا الدين؟ متى يبزغُ فجرَ الإسلام ؟ وبشكلٍ عام ظهرَ سؤالٌ كبير، ألا وهو ذاكَ السؤالُ الذي سألهُ الرسولُ للهِ والذين آمنوا معهُ، بعدما أَصابتهم البأســاءُ والضراءُ وزُلزلوا فقالوا: متى نصرُ الله؟

قال الله تعالى يحكي هذه الحـالـة: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) [البقرة:214].

لأنَّ الموعدَ قريبٌ إن شاءَ الله ((أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))، ولكن المُهمُّ هو الطريقُ المؤدي إليه.

أسألهُ سُبحانهُ أن يُلهمنا رُشدنا وأن يرزقنا السدادَ في القولِ والعمل.

 

..................................................................

[1] أخرجه البخاري في الجهاد (2850)، وفي المناقب (3644).

[2] رواه أحمد بنحوه (1/289)، وله شواهد في السلسلة الصحيحة (970).

 

 

 

رابطة علماء المسلمين

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع