أمير سعيد
تصدير المادة
المشاهدات : 6530
شـــــارك المادة
لا يحتاج الأمر إلى خبير يسبر غور مأساة اللجوء عبر القوارب إلى أوروبا، لتتبدى أمامه صورة فاقعة لأسباب حقيقية خلف ظاهرة اللجوء الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.
أظهر ما ستقود إليه الأرقام أن الحدود الدنيا لهذا اللجوء عبر القوارب الذي يمثل السوريون غالبيته كان في السنة التي أفسحت فيها مصر المجال للسوريين للإقامة بمصر دون تمييز عن المصريين، واستضافت فيه قادة قوى المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، واستوعبت مئات الآلاف من السوريين والعراقيين.. ما أعقب هذا لا ينتظر تفسيراً من باحث؛ فازدياد هذا النمط من اللجوء التي يتعرض فيها الفار من وطنه لمغامرة خطيرة قد تقوده إلى الموت غرقاً قرين بتراجع الثورة السورية، والذي تعود أبرز عوامله إلى ما يلي: - رفض الغرب والشرق إقامة منطقة عازلة شمال سوريا. - منع تسليح المقاومة الثورية السورية بأسلحة نوعية تمكنها من إنهاء نظام بشار الطائفي. - السماح بتدفق السلاح المدمر المستخدم ضد المدنيين إلى نظام بشار وميليشياته والميليشيات المتحالفة معه. - السماح بعبور عشرات الآلاف من ميليشيات وفرق الموت الطائفية من إيران والعراق ولبنان وأفغانستان.. الخ للقتال إلى جانب بشار الأسد. - إنهاء حكم الرئيس مرسي المتحالف مع كل من قوى الثورة السورية والحكومة التركية.
وهذا الأخير ساهم في ضخ الدم في شرايين النظام السوري، ومنع تدفق اللاجئين السوريين إلى مصر، وشرعنة اضطهاد وتضييق السلطات اللبنانية الموالية لبشار على اللاجئين السوريين، وتقليل تدفق اللاجئين إلى تركيا.. وبدون استنتاجات معقدة؛ فإن هذا العام من منتصف عام 2012 إلى 2013 بالفعل كان الأقل تماماً في عدد اللاجئين عبر القوارب إلى أوروبا، وكانت أولى موجات اللجوء الظاهر هذا في النصف الثاني من شهر أغسطس في العام 2013 عندما أدرك السوريون تماماً أنهم لم يعودوا موضع ترحيب من النظام الجديد، الذي بدأ في ملاحقة بعضهم بعد عملية استهداف واسعة لخصومه السياسيين.
وإلى الظاهرة اليوم، وبلوغها مستوى كبيراً يعبر فيما يلحظ عن يأس وإحباط عميقين من إيجاد مخرج لمعاناة اللاجئين؛ فقد أعلنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن هذا العام 2015 قد اتجه إلى أوروبا من لاجئي القوارب في البحر المتوسط أكثر من 300 ألف لاجئ معظمهم من السوريين عبر رحلات الموت الرهيبة.
لكن بالتأكيد ليست أوروبا "ضحية" لهذا التدفق، بل تقع مسؤولية رئيسة عليها، بل هي غير بريئة من جريمة ترك الآلاف من السوريين وغيرهم طعاماً لأسماك البحر المتوسط؛ فما زرعته أوروبا من مجازرها المتشاركة فيها مع النظام البرميلي في سوريا، تحصده في أكبر موجة لجوء بحري منذ عقود، وما أفرزته سياساتها في سوريا ولبنان ومصر وليبيا تلقاه على شواطئها من تدفق لم يعد مقلقاً للدول المشاطئة للمتوسط وحدها، بل صار "هماً" ينساب حتى الشمال الأوروبي، حيث اضطرت ألمانيا مؤخراً إلى تعطيل اتفاقية دبلن المنظمة لما يُسمى بالهجرة غير الشرعية، (وهو المصطلح الذي أطلق على لاجئي القوارب من أجل تبرئة الأوروبيين من مسؤولية استقبالهم بشكل لائق) وذلك من أجل أن تخفف الضغط قليلاً على دول استقبال اللاجئين بجنوب أوروبا والبلقان.
واللاجئون هؤلاء، هم الضحايا الذين اضطرهم الظلم المزدوج الشرقي (روسيا وإيران وسوريا)، والغربي (أمريكا وأوروبا) إلى الإقدام على مهلكة كهذه، لا أقل في وصفها من أن أولئك الضحايا الذين يعرضون حياتهم وأولادهم للخطر يجدون أنفسهم بعد هذا في "ضيافة" الصرب أصحاب أكبر مجازر عرفتها أوروبا خلال نصف القرن الماضي، وغيرهم.
والواقع أن الدول المستقبلة للاجئين لم تحتمل طول فترة التجمل والتمظهر بالإنسانية والحضارة؛ فبدت البغضاء من أفواه مسؤوليها، وكشفت عن إجراءات وممارسات تعبر عن جوهر الطبيعة الأوروبية، وتعاطيها الفعلي مع المسلمين، إن ألمت بهم ضائقة. فكانت أولى مظاهر الكراهية تلك قد ظهرت مع إعلان النمسا في أكتوبر 2013 (التوقيت يوضح الارتباط بين الإعلان وتدفق اللاجئين إلى أوروبا في أعقاب تراجع الثورة السورية بالتزامن مع أحداث مصر)، على لسان وزيرة خارجيتها أن بلادها ستختار من بين اللاجئين السوريين ألف لاجئ "مسيحي"، وقال موقع الوزارة النمساوية إن الأولوية لـ" النساء والأطفال والأسر الضعيفة والأقلية المسيحية المظلومة" (أي ظلم هذا وقع على تلك الأقلية في سوريا، وهي الحليفة لنظام بشار؟!) وبحسب موقع الجزيرة الفضائية؛ فإن وكالة الأنباء الألمانية وصحيفة "فيلت" قد أوردتا أخبارًا قالت فيها إن "سلوفاكيا وجمهورية التشيك وبولونيا وبلغاريا تطبق معيار "المسيحية" في قبول اللاجئين، وإن الدول المذكورة لن تقبل لاجئين مسلمين".
وقبل أيام كانت فرانس 24 تعرض تقريراً على شاشتها يبين معاناة اللاجئين في اليونان، لم "يظفر" فيه أي لاجئ بتأشيرة إلى ألمانيا سوى لاجئ اسمه "لورانس"، أما سلوفاكيا فقد قالتها بلا مواربة؛ فقد أعلن رئيس الوزراء السلوفاكي أن بلاده ستستقبل 100 مسيحي سوري، إذ إن بلاده – بحسب الناطق باسم الخارجية – "لا يوجد بها مساجد، وبالتالي سيجد المسلمون صعوبة في التأقلم"!
بيد أن المشكلة ليست في انتقائية من يصل إلى أوروبا فقط، فالجريمة أفدح من هذا بكثير؛ فأوروبا التي تغطي الأقمار الفضائية بحرها المتوسط، وتنتشر قطعها البحرية في طوله وعرضه، لم تتحمس كثيراً للقيام بعملية إنقاذ شاملة لضحايا القوارب، الفارين من جحيم بشار والعبادي، وتتباطء كثيراً في إنقاذ الضحايا مكتفية بالإعلان عن بعضها، وسوف تقود الأرقام قريباً إلى فظاعة ما ارتكبه الغرب في هذا الخصوص. فبالعودة إلى الرقم الذي أعلنته الأمم المتحدة آخر أغسطس 2015 وهو 300 ألف لاجئ قصدوا البحر فارين إلى أوروبا؛ فإن الرقم الدقيق لمن وصل منهم بالفعل إلى أوروبا هو أقل من هذا بكثير.
التفريط والاستهتار العمدي هذا لا يقتصر على الانتقائية الدينية، والتباطؤ في الإنقاذ فقط، فحتى من وصل حياً لشواطئ أوروبا يلقى معاناة كبيرة لا تقف عند حد بخل أوروبا في الإنفاق عليهم (لا يقاس هذا مطلقاً بالمعاملة التي لاقاها السوريون في تركيا، واستضافتها لنحو مليون لاجئ وإنشائها لمعسكرات لجوء مجهزة)، وإنما في تعاملها الفظ وغير الإنساني معهم؛ فما نشرته منظمة العفو الدولية من تقريرها الذي يتهم صربيا ومقدونيا بسوء معاملة من تسميهم المنظمة ظلماً بـ"المهاجرين غير الشرعيين"، وتحقيقاتها الأربعة في صربيا والمجر واليونان ومقدونيا خلال عام مضى، والتي خلصت من خلالها إلى أن "اللاجئين والمهاجرين الذين يعبرون البلقان معرضون إلى انتهاكات عنيفة من قبل السلطات ومجرمين محليين، وتخلى عنهم بشكل مخجل الاتحاد الأوروبي وسياسته إزاء المهاجرين؛ حيث تركهم بلا حماية في صربيا ومقدونيا"، وعلى "حدود اليونان مع مقدونيا وحدود مقدونيا مع صربيا يواجه المهاجرون عمليات طرد جماعية غير قانونية".
على أن عمليات الإبعاد هذه تجاوزت حدود الطرد إلى تعريض حياة اللاجئين للخطر في حوادث لم تبد عفوية؛ ففي النمسا، وبحسب صحيفة كرونة النمساوية، فإن خمسين لاجئاً قد اختنقوا داخل شاحنة أثناء نقلهم على الطريق السريع من هنغاريا إلى النمسا الأدلة الأولية تشير إلى أن المهاجرين اختنقوا داخل الشاحنة "أثناء نقلهم بشكل غير شرعي"، وتعددت حوادث طرق وغيرها للمهاجرين على نحو مريب.
"إنسانية أوروبا" قضت بأن تعلن وزارة الدفاع البلغارية نقل مدرعاتها إلى الحدود مع مقدونيا لمنع دخول اللاجئين إلى أراضيها، وفرضت على الحكومة المجرية أن تبحث " كيفية استخدام الجيش للمساعدة في حماية حدود المجر وحدود الاتحاد الأوروبي" من أجل التعامل مع لاجئين ضحايا قذفهم البحر في حالة إعياء على شواطئ الأوروبيين!
إذا ما تتبعنا خط المعاناة للسوري والأفغاني والعراقي بالدرجة الأكبر، ثم الإرتري والصومالي والنيجيري بدرجة أقل، من براميل الموت الطائفية والمجازر والسلاح الكيماوي بسوريا، للقصف السجادي في أفغانستان بالأسلحة النووية التكتيكية، إلى تفجير صراعات القرن الإفريقي، مروراً بجملة من الجرائم اللامحدودة، ثم حرمان الضحايا من بعد من مجرد مخاطرة النجاة عبر قوارب اللجوء البدائية، لأمكن تفهم دوافع كتابة المفكر الإسلامي الكبير أبي الحسن الندوي لكتابه العظيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟".. لقد خسر العالم كثيراً بتسيد قيم "الحضارة الغربية".. التي تشاطر المجرم جريمته ثم تمنع الضحية من النجاة.. ولو قارن بعضنا بين حال لاجئي اليهود الذين هربوا من اضطهاد الأوروبيين لهم، ومحاكم تفتيشهم الرعيبة، إلى الدولة العثمانية، واستقبالها الراقي لهم.. ثم استقبال وريثتها اليوم، لانقشع الزيف عن وجوه كالحات من أصحاب الياقات البيضاء الأنيقة!
المسلم
عبد الوهاب بدرخان
عباس عواد موسى
سعد محيو
القدس العربي
المصادر:
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة