..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

العدل... مقصد الشريعة الأصيل

محمد لافي

٥ ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3491

العدل... مقصد الشريعة الأصيل
00.jpg

شـــــارك المادة

في زمن تجاوز فيه الظلم والجور كل الحدود، وتعاظمت فيه ألوان وأنواع البغي وقهر الإنسان لأخيه الناس بدوافع عنصرية وأيديولوجية وطائفية... يغدو الحديث عن العدل - كمبدأ وقيمة إنسانية إسلامية أساسية، بل ومقصد شرعي أصيل، أمرا في غاية الأهمية والضرورة.
و مع تعرض هذا المقصد الإسلامي الأصيل لبعض الغمز واللمز من قبل أعداء الإسلام، بالإضافة لما يكتنفه من عدم تطبيق على أرض الواقع في كثير من بلاد الإسلام، ناهيك عن سوء فهمه على حقيقته عند بعض من ينتسبون إلى هذا الدين العظيم.... يتحول تناول هذا الموضوع إلى ما يتجاوز الاستحباب أو الفضول.
ونظرا لسعة جزئيات وتفاصيل موضوع العدل في الإسلام، سأكتفي بذكر الأدلة على أصالة هذا المقصد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل السلف الصالح، وبخصائص ومزايا هذا المقصد في الشريعة الإسلامية، والتي تجعله متميزا عن كل ما شهدته البشرية أو عرفته من عدل.

أدلة مقصد العدل في الشريعة الإسلامية:
كثيرة هي النصوص الشرعية الدالة على اعتبار العدل قيمة عليا في الإسلام، ومبدأ أساسيا من مبادئه، ومقصدا أصيلا من مقاصده، ويأتي على رأس تلك النصوص آيات القرآن الكريم، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعمل السلف الصالح من أمته.
أما الآيات القرآنية فيكفي الإشارة إلى بعضها من مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} النحل/90، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} النساء/58 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة/8 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ...} النساء/135، وقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ...} الشورى/15
وإذا ما انتقلنا إلى السنة النبوية بشقيها القولي والفعلي فإن المجال لا يتسع لذكر جميع النصوص والشواهد التي تؤكد على مبدأ العدل، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِى حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) (1) والمقسطون هم العادلون.
ومن يدقق في حياته صلى الله عليه وسلم يتأكد له أن سيرته العطرة كانت ترسيخا لقيمة العدل في نفوس أصحابه، وتأكيدا على أن العدل من أهم مقاصد الشرع الحنيف، فقد كان العدل ملازما جميع مجالات حياته صلى الله عليه وسلم.
ففي بيته كان عادلا بين زواجته أمهات المؤمنين، فيقسم بينهن بالعدل، وفي ذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَهُ...)(2).
ومبدأ العدل كان راسخا في قضائه صلى الله عليه وسلم في خصومات المتخاصمين، ففي الحديث عن حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ عَلَيْهِمْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِى حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ)(3).
وفي تعامله وبيعه وشرائه وتجارته كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدل الناس، بل كان إحسانه يرجح دائما، ففي الحديث عن عن سويد بن قيس قال جلبت أنا ومخرفة العبدي بزا – ثياب - من هجر، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فساومنا سراويل وعندنا وزان يزن بالأجر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (يا وزان زن وأرجح)(4).
كما كان عدله صلى الله عليه وسلم صارخا في إنصاف الناس حتى من نفسه، ففي الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ شَيْئًا أَقْبَلَ رَجُلٌ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَعَالَ فَاسْتَقِدْ) قَالَ: بَلْ قَدْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. (5).
بل كان من روائع عدله صلى الله عليه وسلم أنه كان يكره أن يتميز عن أصحابه، ويحب أن يقاسمهم الجهد والعمل في سبيل الله، ففي الحديث عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ فَقَالَ: (مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُمَا) (6).

ويأتي باب حدود الله ليتوج عظمة عدله صلى الله عليه وسلم، من خلال تنفيذ و تطبيق العدل في هذا الباب بحزم ومساواة، سواء كان الفاعل غنيا أو فقيرا، قويا أو ضعيفا، ففي الحديث عَنَ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِى سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ). ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) (7).
والحقيقة أنه لا مزيد على مبدأ العدل من هذا الموقف النبوي الفريد، الذي يعبر عن قمة هرم المساواة بين الناس أمام حدود الله تعالى في الإسلام، الذي كان حقيقة و واقعا في عهده صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، وليس مجرد أحلام وأمان وشعارات ومدينة فاضلة في الخيال كما هو حال قوانين ودساتير دول هذه الأيام.
لقد بقي العدل في رأس أولويات الخلفاء الراشدين كما كان في عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لمثل هذا المقال أن يجمع بعضا من قصص عدل الخلفاء الراشدين وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويكفي في هذا المقام ذكر قول عبد الله بن عمر عن عدل أبيه رضي الله عنهما:
"كان عمر إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله وقال: إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا وإنهم إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وايم الله لا أوتي برجل منكم فعل الذي نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة، لمكانه مني فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر" (8).
إن قصص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع العدل والمساواة أكثر من أن تحصى، ولم يعرف التاريخ دينا أقام العدل والمساواة بين الناس بأبهى صوره كما فعل الإسلام، ولعل في اقتصاص أمير المؤمنين من كل من ابن عمرو بن العاص واليه على مصر، وجبلة بن الأيهم الأمير الغساني.... لتعديهما على فزاري و مصري أعظم مثال على مستوى تطبيق العدل والمسااوة في المجتمع الإسلامي حينها.

خصائص ومزايا العدل في الإسلام:
يمتاز العدل في الإسلام بمزايا وخصائص لا توجد في غيره، ولعل من أبرز وأعظم خصائص ومزايا العدل في الإسلام:

الإطلاق والشمول: فالعدل في الإسلام مبدأ مطلق وشامل، لا يستثنى منه أحد سواء كان مسلما أو غير مسلم، والآيات القرآنية تؤكد هذا الإطلاق وعدم الاختصاص، قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} النساء/58. والناس كلمة عامة مطلقة تشمل المسلم وغير المسلم.

وانطلاقا من هذا المفهوم للعدل لم يجعله الإسلام منوطا بإسلام المسلم حتى يكون مقصورا عليه لا يتعداه، بل مناطه إنسانية الإنسان المتفرع عن مبدأ الكرامة الإنسانية الثابت بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الإسراء/70.
كما لم يجعل الإسلام العدل منوطا -في السياسة الخارجية- بالغالب دون المغلوب، ولا بالقوي دون المستضعف، ولا بالغني دون الفقير، كما هو الوضع السائد في منطق القوانين الوضعية، بل رسخ الإسلام من مفهوم العدل المطلق حتى مع الأعداء، فقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة/8.
إن العدل في نظر الإسلام هو الغاية القصوى التي أنزلت من أجلها الشرائع السماوية، وأرسل الرسل جميعا لتحقيقها بين بني البشر، مصداقا لقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...} الحديد/25.
بل إن الإسلام لم يقف عند حد إقامة العدل بين الناس والأمر به، بل جاوز العدل إلى الإحسان والفضل، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ....} النحل/90. (9).
كما أن خاصية شمول الإسلام تمنع التمييز في تنفيذه وتطبيقه بناء على اعتبارات الشرف والمكانة أو الغنى والجاه، فجميع الناس في نظر الإسلام سواسية أمام أحكام الله وشرعه، سواء في أبواب المعاملات حيث يطبق شرع الله على كل من يعتدي على حقوق الآخرين المالية، أو في باب العقوبات والحدود والجنايات، فالجميع سواسية أمام حدود الله، ولعل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) غنية في التأكيد على شمول عدالة الإسلام الجميع دون استثناء.
لقد بلغ سمو قيمة العدل في الإسلام أن وصل إلى درجة تقديمه على كل الاعتبارات والقيم الأخرى، وقد وضع الرسول الكريم والسلف الصالح العدل حيث أراد الله، مقدما على النفس والوالدين والأقربين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ...} النساء/135.
ولم يكن هذا التقديم في الإسلام مجرد شعار أو كلام فحسب، كما هو الحال في قوانين ودساتير دول العالم الذي يزعم التحضر اليوم، بل كان العمل والتطبيق والتنفيذ برهانه ودليله، بدءا بالرسول القدوة الذي مكّن الرجل ليقتص لنفسه منه صلى الله عليه وسلم، وليس انتهاء بأمير المؤمنين عمر الذي نفّذ حد الله على ولده عبد الرحمن كما أمر الله.
إن ما نراه اليوم من تفشي الظلم وانتشاره في مشارق الأرض ومغاربها، وغياب شبه كامل لقيمة العدل -اللهم إلا في بعض المجالات وفي بعض البلدان وعلى بعض الناس دون بعض- إنما مرده إلى ابتعاد الناس عن دين الله الحق الإسلام، الذي يُعتبر المصدر الأصيل للعدل، والنموذج الأفضل لتطبيقه وتنفيذه.
-----------
(1) صحيح مسلم برقم/4825.
(2) صحيح مسلم برقم/7196.
(3) سنن الترمذي برقم/3571 وصححه الألباني.
(4) صحيح سنن ابن ماجه للألباني برقم/ 2211.
(5) سنن النسائي برقم/ 4787.
(6) مسند الإمام أحمد برقم/ 3901.
(7) صحيح مسلم برقم/ 4505.
(8) مصنف عبد الرزاق برقم/ 20713.
(9) خصائص التشريع الإسلامي للدكتور فتحي الدريني ص54 – 59 بتصرف.

 

 

المسلم

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع