..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

الأبعاد الرئيسية للأزمة السورية

أحمد فيصل الخطاب

٢٣ ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2991

الأبعاد الرئيسية للأزمة السورية
images.jpg

شـــــارك المادة

لا أحد -أعتقد- يماري في أن سوريا تعاني حالياً من أزمة مركبة عميقه. أزمه ؟ مأزق ؟ استعصاء ؟ انسداد ؟ سمّها ما شئت، فهنالك مسألة مطروحة بأبعاد مختلفة، وتبحث عن حلول. والمسألة السورية هنا تذكرنا تاريخياً بتوارد الخواطر، بمفهوم المسألة الشرقية،  ذلك المفهوم الدبلوماسي الدولي الذي كان يدل بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وزوال الخلافة على عملية  اقتسام ووراثة ممتلكات وأراضي تلك الإمبراطورية.

المفكر السوري صلاح الدين البيطار كان في حدود علمي، أول من استخدم مجدداً هذا التعبير لكن بمعنى مختلف ، وذلك في افتتاحية شهيرة له في مجلة الإحياء العربي الصادرة في باريس عام ١٩٨٠إفتتاحية بعنوان مثير : “في المسألة السورية ، سوريا مريضة مريضه، وتعيش محنةً ومأساة ” . وكان ذلك في أعقاب مجازر حماه وتدمر وجسر الشغور التي ارتكبها النظام السوري آنذاك.
تعريف الأزمة (المأزق)
المفكر اليساري المعروف أنطونيو غرامشي عرّف المأزق (أو الأزمة) بأنه (نظام) قديم مات، وجديد لم يتمكن من أن يولد بعد مستطرداً أنه في هذا الفاصل الزمني بين الحالتين، تتدافع، لتعبئ الفراغ أنواع مختلفة  من شياطين العنف والغرائز والعصبيات والمصالح والظواهر المرضية.
نحن في سوريا، حالياً، في هذا المنعطف تماماً، في هذه الزاوية الحرجة. فالعالم القديم تاريخياً بعقليته وممارساته مات وشبع موتاً : نظام الحزب الواحد والعائلة الواحدة والشخص الواحد. وما انفلات الغرائز الدموي من طرف النظام القديم إلا عبارة عن تجليات دخوله في طور النزع الأخير. أما لماذا الجديد السوري لم يستطع أن يولد بعد، رغم انقضاء أربع سنوات على الانتفاضة الشعبية، المفتوحة على ثورةٍ وطنيه حقيقيه في سوريا ، ولاحقاً في الشرق برمته، فهنا تكمن المسألة.
الأبعاد الثلاثة الرئيسية للأزمة السورية:
للأزمة السورية تاريخياً وحالياً، أبعاد كثيرة، رئيسية وثانوية ، منها على سبيل المثال ما يسميه البعض ” المرض السوري ” والمرض السوري هذا، كما هو متعارف عليه هو الفردية الزائدة. السوري يعتقد أنه لوحده يستطيع أن يحل مشاكل العالم كله. لقد كان هناك غياب ملحوظ لروح العمل الجماعي المنظم والعقلاني، روح الفريق المتضامن الواحد، الروح المؤسساتية. وكثيرون مازالوا يذكرون عبارة الرئيس السوري شكري القوتلي، بعد أن وقع ميثاق الوحدة مع الرئيس جمال عبدالناصر حين قال له سلمتك ثلاثة ملايين زعيم، لكن هذه الدعابة والتي ما زال  السوريون يتندرون بها حتى الآن ، تحولت اليوم مع الأسف إلى ما يشبه المأساة، مأساة في الساحة السياسية وفي الساحة العسكرية، وفي الساحة الفكرية.
لكن هذا الأمر ليس استثناءً سورياً خارقاً. فلكل شعب في العالم تقريباً “مرضه” أو “آفته الخاصة” المختلفة عن آفات الشعوب الأخرى . عضو الأكاديمية الفرنسية الوزير الديغولي السابق “آلان بيرفيت ” Alain Peyrifitte، كان  من أشهر كتبه واحدٌ بعنوان “المرض الفرنسي” “le mal français ” والذي كان محاولة منه للبحث عن جواب على السؤال الذي يطرحه كثيرون لماذا هذا الشعب الحي الكريم الموهوب يقدم غالباً عن نفسه مشهد انقساماته وعجزه ؟.
دائماً في هذا الإطار هنالك من يتحدث عن أمراض أخرى : التسرع ، العاطفية الزائدة ، غياب العقلانية… إلخ. وهذا شيء يشترك به الشعب السوري مع الشعوب الشرقية كافه.
بعد هذا الاستعراض السريع، سنتوقف الآن عندما نعتبره الأبعاد الرئيسية للأزمة السورية.
١ً- الأزمة الكيانية : دكتاتورية الجغرافيا وخيارات التاريخ الديمقراطية
كثير من المستشرقين والمؤرخين اعتبروا أن سوريا تعاني من نوع من القلق الكياني وعدم الاستقرار، فقد تم إنشاؤها بحدودها الحالية بشكل مصطنع وفق خرائط رسمها الإنكليزي سايكس والفرنسي بيكو عام ١٩١٦. وفي وقت لاحق تم عام ١٩٣٥ اقتطاع لواء إسكندرون منها في الشمال وإعطائه من قبل سلطات الانتداب الفرنسي آنذاك هديه لتركيا الجديدة (تركيا كمال أتاتورك) لحثها على عدم الاشتراك مع الخصوم في أية حرب قادمه. وفي عام ١٩٦٧ قامت إسرائيل باحتلال الجولان السوري في الجنوب وضمه لها بالقوة. حتى أن سوريا الصغرى لم تسلم أحياناً من التقطيع أو التقسيم فالكل يذكر محاولة سلطات الانتداب الفرنسي في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي تقسيم سوريا إلى أربع دويلات.
لكن الحركة الوطنية آنذاك أعادت بلورة الوحدة السورية وإنجاز الاستقلال. في المقابل يرى كثيرون أن سوريه الحقيقة ليست هي سوريا الحالية.  إنها وكما يقول مثلاً الزعيم السوري أنطون سعادة أن سوريا هي سوريا الكبرى بحدودها الطبيعية : جبال طوروس من الشمال ، والبحر الميت من الجنوب التي تضم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين. حتى أن آخرين يرون أن سوريا كانت طوال تاريخها الحديث في حالة نوسان بين التمدد والانعزال، بين التقوقع على ذاتها و التطلع عبر حدودها الحالية إلى آفاق أبعد ولم تكن الوحدة مع مصر في الخمسينات  في رأيهم، إلا ضرباً من الهروب الى الأمام وتعبيراً عن ذلك القلق الكياني.
وما الأزمات السياسية وعدم الاستقرار الذي تمثل بالانقلابات العسكرية المتواترة منذ الاستقلال وحتى عام ١٩٧٠ ما هو في أحد أبعاده الرئيسية إلا أحد تجليات هذه الأزمة الكيانية أو البنيوية.
في إطلالة له نادره على الشأن السوري بعد اندلاع الثورة في سوريا، تحدث راسم الخرائط السياسية الأشهر هنري كيسنجر عن هذه المسألة بالتحديد. ففي محاضرة له في كلية “فوردسكول” بواشنطن في يوليو تموز عام ٢٠١٣ قال بالحرف الواحد : “إن سوريا ليست دوله تاريخيه، فقد تم إنشاؤها بشكلها الحالي عام ١٩٢٠ وأخذت هذا الشكل لتسهيل ضبطها من قبل فرنسا الحاصلة حديثاً على صك انتداب من الأمم المتحدة، وبسبب كونها دولة لا تاريخيه فقد تمت صياغة سوريا كوحده وطنيه اصطناعية. كلام فيه بالطبع جزء بسيط من الحقيقة لكن يستخدمه ثعلب الدبلوماسية ليصل  إلى شيء آخر حيث يختم قائلاً :
هنالك ثلاث نتائج ممكنه للنزاع الحالي :
١ً- انتصار الأسد.
٢ً- انتصار خصومه.
٣ً- أو وضعيه تقبل فيها مختلف الجنسيات
(والتعبير له ) التعايش معاً في مناطق مستقله بشكل لا تتمكن معه من ممارسة القمع ضد بعضها لبعض، قبل أن يختم بالقول إنها الوضعية التي أفضل رؤيتها في المستقبل.”
وهكذا إذن عبر الاستراتيجي التسعيني فوق تاريخ سوري عريق وطويل قبل سنة ١٩٢٠ متجاهلاً أن سوريا هذه أخذت اسمها على الأقل منذ أربعة آلاف سنه وإن تغيرت الحدود توسّعت تارة، وضاقت تارة أخرى، وأعطت ثلاثة أباطره لروما قبل الميلاد، ولم يفطن في غمرة كرهه للعرب أنه إذا كانت هنالك دوله لا تاريخيه (اصطناعية) فهي بالتحديد دولته بالذات الولايات المتحدة الأمريكية، فالكل يعلم أن عمرها السياسي بالكاد يناهز ٣٠٠ سنة وشعبها هو خليط من الأفارقة والطليان والإنكليز والإسبان وبقايا الهنود الحمر.
ولكن حول هذه النقطة يمكن القول أخيراً أنه ليس هنالك دوله حديثه في العالم إلا وعانت مما عانت منه سوريا.
والذي ينظر إلى التاريخ الألماني على سبيل المثال (والأوربي عموماً يرى بوضوح أن ما يسميه البعض أزمه كيانيه، كانت تضرب ألمانيا كمعظم الدول الأوربية خلال قرون ونجمت عنها حروب ، إلى أن تم التوصل إلى سلام وحدود نهائية في إطار اتفاقية ويستفاليا الشهيرة.
ومع ذلك عرفت القارة الأوربية بعدها حربيين عالميتين بالإضافة لحروب أخرى محدودة كانت في أحد أبعادها، تعبيراً عن أزمه كيانيه، إلى أن تم أخيراً حل هذه المسألة بشكل تاريخي عقلاني عصري في إطار الاتحاد الأوربي، فإذا كانت الجغرافيا تفرض نفسها كدكتاتوريه، فإن الفعل الإنساني  يستطيع أن يعدلّها، يوسعها، يضيقها، يصغرها، يكبرها، وهذا ما أسميناه ديكتاتورية الجغرافيا وخيارات التاريخ الديمقراطية.
٢ً- أزمة الهوية:
في غمرة الأحداث الدامية التي تهز سوريا، أطل عدد من الكتاب والمفكرين ليطرحوا سؤلاً إشكالياً : من نحن ؟ ماهي هويتنا ؟ سوريون عرب؟ مسلمون ؟ (سنة أم شيعة) مسيحيون. نحن من ؟ ونحن ماذا؟
هذا السؤال طرح بعمق في تونس بعد انتصار الثورة وحصل حوله نقاش وطني عام وقد تم التوصل في نهايته لشبه إجماع بين كل التيارات السياسية على أن هوية تونس هي هويةٌ عربيةٌ إسلامية.  وإذا كان صحّ هذا في تونس ذات التركيب المجتمعي المتجانس إلى حدٍ بعيد، فهل سيكون بالإمكان تعميم ذلك على سوريا المذهلة التنوع ؟ سؤال مفتوح ينتظر الجواب.
٣ً- أزمة القيادة:
إذا كان البعدان الأولان في الأزمة السورية ذوا طابع تاريخي سكوني ستاتيكي إلى حدً ، ما فإن بعداً ثالثاً يحمل طابعاً متغيراً ديناميكياً، هو اليوم العنصر الأبرز في الأزمة السورية الحالية أو بالأحرى في المأساة السورية حالياً. إنها أزمة القيادة .
من الواضح اليوم لكل ذي عينين أن سوريا عموماً والمعارضة والثورة بشكل خاص، تعاني من أزمة قيادة.
فقد رحل منذ زمن طويل كل آباء الاستقلال وكذلك الجيل الوطني الأول من السياسيين ورجال الدولة الحقيقيين .
وحين انفجرت الأحداث في مارس آذار ٢٠١١ لم يكن قد بقي في الساحة من السياسيين الكبار إلا ما يعد على أصابع اليد الواحدة، وفي غمرة الأحداث الدراماتيكية والمتسارعة، بدأ يتقافز إلى مقدمة المسرح كثير من المتسلقين والانتهازيين والكاراكوزات الإعلامية إضافة لبعض كبار قدامى المعارضين الصادقين . لنتأمل المشهد بشيءٍ من التفصيل : لقد بدا بشكل جلي أن أكثر القيادات القديمة تبدو اليوم متعبه فكرياً وسياسياً ونضالياً،  وأكثر القيادات الجديدة أو التي قدمت نفسها كذلك تلك التي تصدرت المشهد الإعلامي والسياسي أظهرت أنها مراهقة.
وبقي عدد قليل من القيادات الوسط التي لم تتمكن  حتى الآن لسوء الحظ من أن تشكل قيادة جماعية. وأعتقد أن المراهنة العقلانية الرئيسية هي على هذه القيادات الوسط بالتحديد التي لها تاريخ طويل في العمل السياسي وتاريخ مستمر في المعارضة الوطنية منذ عقود. وكان هنالك غياب ملحوظ كذلك لما يسميه المفكر السوري المعروف ياسين الحافظ الوعي المطابق(المطابق للواقع) . بعض الذين قفزوا في غفلة من الزمان إلى مقدمة المسرح الإعلامي السياسي يتحدثون عن حل سياسي مع النظام منطلقين من القول أنه اتضح أن الحل العسكري مستحيل، ولكن هل الحل السياسي في ظل المعطيات الحالية ممكن أو إنه أيضاً شبه مستحيل، و لن يكون في حال حدوثه، في ظل الأوضاع الحالية سوى هدنة بين حربين .
الحل الوحيد الممكن في سوريا اليوم هو حل عسكري- سياسي،  عسكري لتغيير موازين القوى لصالح الثورة والشعب والتغيير الوطني، وسياسي للوصول إلى وفاق وطني . وإن أي تسوية أي سلام مع النظام الأسدي في ظل موازين القوى الحالية ما هو إلا تعبير ملطف عن الاستسلام.
إن القائد الحقيقي في الظروف الدراماتيكية الحالية التي تمر بها سوريا لا بد أن يتميز بثلاث صفات رئيسيه، صفات متلازمه، لا انفصام بينها ولا انفصال : (الكفاءة +المناقبية+ العمل بتفان وإخلاص). لأنه من الممكن أن يكون السياسي أو القائد كفؤاً وتنقصه الأخلاق. ومن الممكن أن يكون أخلاقياً وتنقصه الكفاءة، ومن الممكن كذلك أن يكون كفؤًا. وأخلاقياً ولكن خاملاً وكسولاً لا يعمل .
ويبقى رأس النبع الإيمان العميق بقضية الشعب السوري ، قضية الحرية والعدالة والتغيير، والثبات، أمام الصعوبات والانتكاسات ومعاودة السير على طريق الآلام…طريق الحرية والكرامة.
على الذي يريد أن يتصدى بصدق ووطنية للقيادة اليساسية في سوريا في هذه المرحلة أن يعلم أنه يخوض معركة موت أو حياة. وأن عليه أن يتحلى بروح الفدائي الذي يعي أنه معرض للموت في أية لحظة، وهو مستعد مادياً وفكرياً ونفسياً وروحياً لذلك.
بعبارة عليه أن يمتلك : “إيمان الأنبياء …ووعي العلماء”. !

 

 

 

 

كلنا شركاء

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع