..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

مغاليق العقول عن الإصلاح

حاتم العوني

١٥ ٢٠١٤ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2942

مغاليق العقول عن الإصلاح
حاتم العوني 00.jpg

شـــــارك المادة

هناك أقفال تمنع انفتاح أبواب التفكير، وهناك مغاليق تسدُّ كل منافذ التعقّل، ومن هذه الأقفال والمغاليق:
أولاً: التعالي واعتقاد الرفعة بالمنهج والفهم والعلم، فمشكلة المذاهب المتعالية أنها تغلق على نفسها بذلك كل باب للإصلاح:

 


فعندما كفّرَ الخوارجُ الصحابةَ -رضوان الله عليهم- وكل الأمة ممّن لم يدخل في فئتهم، أصبحوا محاطين بسياجٍ غليظ من أن يستفيدوا من سادة الأمة علمًا وإيمانًا (وهم الصحابة رضوان الله عليهم)؛ إذ كيف يُؤخَذ الدين من الكفار؟! وأنَّى يُؤتمَن الكفار على العلم والإيمان؟
وعندما تحكم أيُّ طائفةٍ بكفر مخالفيها أو بضلالهم بغير حق، لا يمكن أن تستفيد منهم، ولو كان مخالفوهم محقّين. ولن تعرف هذه الطائفة خطأها، مادامت محيطةً نفسها بسياج هذا التعالي.
ثانيًا: السطحية في تناول مسائل العلم، تجعل العمق فيه تفيقهًا وتأويلاً محرِّفًا وإخراجًا للنص عن ظاهره المراد.

مع أن ظاهره قد يكون غير مراد أصلاً، أو مع أن ظاهره في حسبانهم قد لا يكون هو ظاهره في الحقيقة؛ إلاّ في سطحية فهمهم للنص وضعف ملكتهم اللغوية أو الذهنية في الاستنباط.
فإذا انضم التعالي إلى السطحية: أصبح التعليم والتفهيم في غاية الصعوبة؛ إذ كيف يفهم من يعدّ الفهم الصحيح مغاليط خادعة وتفاسير باطلة؟!
وهذا ما وقع للخوارج أيضًا، وكانت السطحية في فهم النص هي إحدى أبرز علاماتهم في النص النبوي، عندما قال صلى الله عليه وسلم: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، فمن معاني هذا التشبيه البليغ: أنهم يقرؤون القرآن بسطحية بالغة، فلا يفهمون فقهه الحقيقي.
ولا نجاة لصاحب السطحية من سطحيته؛ إلاّ بتزكية نفسه، ليقبل الاعتراف بسطحيته أولاً، ثم بحاجته إلى التعلّم ثانيًا.

أمّا بغير ذلك، فلن يزداد إلاّ بُعدًا! ولذلك كان هذا هو أحد معاني القول السابق للنبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم): أي لا يصل إلى قلوبهم فيزكيها، فهم كالأرض السبخة الخبيثة، لا يؤثر الغيث وماؤه المبارك فيها، فلا تنبت نبتًا ولا تحفظ ماءً.
ثالثًا: اتباع الهوى والتعصب.

فلا شكّ أن اتباع الهوى من أعظم مغاليق الإصلاح، وهو من أعظم الصواد عن الحق.

لكنّ كثيرًا من الناس يظن اتباع الهوى ينحصر في الصورة الصريحة له، وهي صورة من عرف الحق كما يعرف نفسه، ويصرّ مع ذلك على باطله.. استكبارًا واضحًا وعنادًا مفضوحًا.

وهذا الحصر غير صحيح؛ لأنّ من أعظم صور اتّباع الهوى خطرًا ومن أكثرها انتشارًا: عندما يختلط اتّباع الهوى بشبهة، فكلّما أراد صاحب هذه المعركة النفسية أن يحاكم الشبهة وحدها خذله اتباعه لهواه، فعجز عن اكتشاف خللها.

وكلّما أراد أن يحاكم اتباعه لهواه صِرفًا خانته شبهته عن رؤية اتباعه للهوى، فاستمر منجرًّا لحبل هواه يقوده إلى الباطل. فلا يزال كذلك، في دوامة بين الشهوة والشبهة، حتى يهلك، أو ينقذه الله تعالى بهدايته، ثم بصدقه هو في ابتغاء معرفة الحق واتباعه.
ولذلك كان الخوارج يصدون أنفسهم عن محاكمة النفس بكثرة العبادة الظاهرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم) .

فهم (من جهة) يصلّون ويصومون ويتعبّدون كي يستشعروا التفوق الإيماني على الصحابة -رضوان الله عليهم- فيتعالون على الاستفادة منهم، وهم (من جهة أخرى) يصلّون ويصومون ويتعبّدون كي يخادعوا أنفسهم بعدم انسياقهم لأهوائهم!
ولذلك كان قد استوقفني حديثٌ صحيح لأحد الصحابة، وهو جندب بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه- يحكي أنه لما رآى شبابًا في مسجد البصرة يصلّون ويتعبدون، وعلم (فيما يبدو) أنهم يحملون فكر الخوارج؛ لأنهم قد خرجوا بعد ذلك فعلاً! فنظر -رضي الله عنه- إليهم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يُسمِّع يُسمّعِ الله به، ومن يرائي يرائي الله به).

وكان ممّا وعظهم به أيضًا: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أتخوّف عليكم رجلاً قرأ القرآن، حتى إذا رئي عليه بهجته، وكان ردءًا للإسلام، اعتزل إلى ما شاء الله، وخرج على جاره بسيفه، ورماه بالشرك)، فكان هذا ما وقع من الخوارج قديمًا وحديثًا.
فكنت أعجب من سبب قول هذا الصحابي لهذا الحديث: (من يُسمِّع يُسمّعِ الله به، ومن يرائي يرائي الله به)، وهو إنما رآى قومًا يصلّون ويتعبدون، والقلوب ونياتها إنما علمها عند الله تعالى.

لكني لمّا علمت علاقة خبث النفس بمخادعة كثرة العبادة الظاهرة لها عن علاج دائها، علمت لماذا اتهم هذا الصحابي الجليل -رضي الله عنه- عُبّاد الخوارج بالرياء والسمعة؛ لأن العبادة الزكية (الخالصة) تزكّي النفس، وأمّا عبادة هؤلاء فتُدسِّسُها وتُـخبِّـثُها؛ لأن الدافع إليها عندهم إنما هو خداع النفس بالطهورية والنقاء، لكي لا تنتبه لاتباعها حظوظها، ولا تلحظ تعاليها عن الحق واغترارها الذي يمنعها عن التواضع لمن هو أعلم وأفقه منها.
وهكذا تنغلق أبواب النفع عن القلب، وتنطمس منافذ النور إليه، فلا يكاد يزداد صاحب هذا الانغلاق من الله إلاّ بُعدًا، ومن العلم إلاّ جهلاً، ومن الحق إلاّ بُغضًا!!

 


الرسالة

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع