..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

من انتظار الزعيم إلى انتظار الشعوب "السلطان الأندلسي محمد بن يوسف بن هود أنموذجًا"

ياسر المطرفي

١٥ ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4200

من انتظار الزعيم إلى انتظار الشعوب
1.jpg

شـــــارك المادة

صيحة (وامعتصماه) هيعندما تشتد الأزمات يتسلَّل إلى مخيالنا ونحن نتفكَّر في كيفية الخروج من وضعنا المتردي فكرة البحث عن الزعيم (المخلِّص)...
كاريزما (صلاح الدين) تضرب بأطنابها داخل وعينا عندما نفكِّر في تاريخنا المجيد... ونقارنه بواقعنا المرير... الأخرى يزداد الحنين إليها كلما ازدادت أوضاعنا العربية تراجعًا...
(جمال عبدالناصر)، (الخميني)، (أتاتورك)... كلهم زعماء تعلقت صورهم في قلوب جماهيرهم قبل أن تتعلق على جدرانهم...

 

 

ينظر البعض لفكرة انتظار الزعيم على أنَّها فكرة خدرت حركة الشعوب في انتظار هذا القادم الغائب، وهي نظرة لا تخلو من الصواب.

لكن النظرة الأهم من ذلك هي أنَّ هذه الفكرة كما أنَّها قد تحملهم على التعلق بالأماني حتى يأتي هذا الزعيم فإنَّها في الوقت ذاته تحملهم على التضحية والتفانِي له في حال ظهوره وخروجه من سردابه. وهنا تكمن الخطورة في هذه الفكرة.

لأن السؤال المهم هنا: إلى أي حدٍّ يمكن الوثوق بهذا الأمل الذي علَّقه الناس على هذا الزعيم؟

أليس من الممكن أن يَخُونهم هذا الزعيم فتذهب آمالهم سدًى، وتتحطم أمانيهم الجميلة على صخرات طموحاته الشخصية؟ ألا يمكن أن ينحرف هذا الزعيم فتنحرف معه كل تلك الآمال والأمنيات؟

لن أستطرد في هذا الجنس من التساؤلات، لكني سأحاول في هذا المقال أن ألتقط صورةً تاريخية لعلَّنا أن نكتشف من خلالها شيئًا من الجواب عن بعض هذه التساؤلات المهمة.

هذه الصورة التاريخية هي مع السلطان الأندلسي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود، حيث ظهر بعد نقمة الناس على دولة الموحدين، وتململهم من أوضاعها؟ فمع كل زعيم جديد ثَمَّة إرهاصات تساعد على صعود نجمه، وتعتبر هذه الإرهاصات الأرضية البكر التي من خلالها تستجيب الشعوب لمنقذها الجديد وتتفانَى من أجله، يحكي أبو وليد الباجي هذه الأرضية فيقول:

"لما قضى الله تعالى بهلاك الموحدين بالأندلس، وذلك أنهم ابتلوا بالصلاح في الظاهر، والأعمال الفاسدة في الباطن، فأبغضهم الناس بغضًا شديدًا".

حالة التململ من الوضع السابق الذي كان يمارس على الناس الفساد باسم الإسلام، هي أرضية خروج هذا الزعيم الجديد.

فبعد أن استحكم البُغْض في الناس- كما يقول الباجي-: "تربصوا بهم الدوائر (الموحدين) إلا أن ظهر نجم ابن هود في سنة خمس وعشرين وست مائة بشرق الأندلس، فقام الناس كلهم بدعوته، وتعصبوا معه، وقاتلوا الموحدين في البلدان، وحصروهم في القلاع، وقهروهم، وقتلوا فيهم، ونصر على الموحدين، وخلصت الأندلس كلها له وفرح الناس به فرحًا عظيمًا".

هكذا إذا، نَجَمَ نَجْم ابن هود فوجد الناس فيه المنقذ الجديد، وضحّوا من أجله، وانتصر وعمَّت في أنفسهم مشاعر الفرحة والسرور من انتقالهم من عهد إلى عهد جديد.

بدأ ابن هود يمارس نشاطاته ويستنفر الناس من أجل هذا العهد الجديد والناس لا يتأخرون عن ذلك، يكمل الباجي حكايته عنه فيقول: "فلما تمهد أمره أنشأ غزوة للفرنج على مدينة ماردة بغرب الأندلس، واستدعى الناس من الأقطار، فانتدب الخلق له بجدٍّ واجتهاد وخلوص نية المرتزقة والمطوعة، واجتمع عليه أهل الأندلس كلهم، ولم يبقَ إلا من حبسه العذر".

هذا هو حال الناس وهم يضحُّون مع زعيمهم الجديد، ويرهنون حياتهم كلها بين يديه دون أية حسابات، لكن هذا الدخول من ابن هود إلى الإفرنج لم يكن دخولاً محسوبًا مدروس العواقب، وهنا يبدأ الامتحان العسير في تجربته،  فابن هود-كما يحكي الباجي- "دخل بهم إلى الإفرنج، فلما تراءَى الجمعان وقعت الهزيمة على المسلمين أقبح هزيمة فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، وكانت تلك الأرض مديسة بماء وعزق تسمرت فيها الخيل إلى آباطها، وهلك الخلق، وأتبعهم الفرنج بالقتل والأسر ولم يبقَ إلا القليل".

بعد هذه الهزيمة بدأت ملامح انهيار الكاريزما والإلهام في شخصية (ابن هود)، فـ"رجع (ابن هود) في أسوأ حال إلى إشبيلية"، يعلق أبي الوليد الباجي فيقول: "فنعوذ به من سوء المنقلب".

أما الناس فحالهم كما يحكي هذا الباجي: "فلم تبقَ بقعة من الأندلس إلا وفيها البكاء والصياح العظيم والحزن الطويل، فكانت إحدى هلكات الأندلس".

خابت آمال الناس بزعيمهم الذي تعلقوا به، وكان من نتيجة هذه الهزيمة العظيمة أن "مقت الناس (ابن هود)، وصاروا يسمونه (المحروم)، ولم يقدر أن يفعل مع الفرنج كبير فعل قط إلا مرة أخذ لهم غنمًا كثيرةً جدًا".

لقد تحول (ابن هود) من زعيم (الرحمة) إلى زعيم (الحرمان)، لكن المصيبة الكبرى ليست هي مقت الناس لزعيمهم جراء هذه الهزيمة الأليمة، ولكن المصيبة هي التحول الجذري الذي طرأ على حاله، وهنا تكمن مشكلة التعلق بالزعماء، فبعد هذه الهزيمة انقلب حال هذا الزعيم، وتغيرت أحواله من زعيم منقذ إلى رجل يبحث عن تثبيت كرسيه ومجده الخاص.

ولو كان ذلك بالتضحية بالمجتمع الذي ضحى من أجله... ولو كان ذلك بأن يُضحي بمصير شعب بأكمله ويضحي بأرضهم ويسلمها على طبق من ذهب للفرنجة... ولو كان ذلك على حساب بلاد أخرى من بلاد المسلمين فيتآمر على والٍ مسلم آخر من أجل المحافظة على مجده القديم.

فبعد هزيمة (ابن هود) "قام عليه شعيب بن هلالة بلبْلة، فكاتب (ابن هود)؛ الأدفونش (ملك النصارى) واتفق معه على أن يُعينه على حصار لبْلة والقضاء على ابن هلالة ومعاونته عليه مقابل أن ينزل (ابن هود) عن مدينة قرطبة للفرنجة، واتفقا على ذلك.

وهُزِم ابن هلالةَ.. وأراد (ابن هود) أن يُسلم قرطبة للفرنجة، ولكنه ما كان ليجرؤ على تسليمها جهارًا نهارًا؛ لأنَّه يخشى غضبة الجماهير والمحافظة على ما يمكن المحافظة عليه في حال نجحت خطته، فقال معتمدًا إلى الحيلة: "لا يسوغ أن يدخلها الفرنج على البديهة"،  فدبر أمره مع الأدفونش على أن يخلي المدينة من الحراسة، ويباغتها الفرنجة ليلاً فيأخذونها، وكتب ابن هود إلى واليه بقرطبة فعطَّل الجانب الشرقي من المدينة وأخلاه من الحرس، فجاء الفرنجة، فوجدوا جانبها الشرقي خاليًا، فجعلوا يتسلقون السلالم واستولوا على السور، فقامت الصيحة والناس في صلاة الفجر، فركب الجند وقالوا لوالي (ابن هود): اخرج بنا للملتقى، فقال: اصبروا حتى يضحى النهار، فلما أضحى ركب معهم، فلما أشرف على الفرنج قال: ارجعوا حتى ألبس سلاحي! فرجع بهم وهم يصدقونه ولا يدرون أنه أمر دُبِّر بليل، يقول أبو الوليد الباجي: "فدخل الفرنجة على أثرهم، وانتشروا، وقتل خلق من الشيوخ والولدان والنسوان، ونهب للناس ما لا يحصى، وانحصرت المدينة العظمى بالخلق فحاصرهم الفرنج شهورًا، وقاتلوهم أشد القتال، وعدم أهلها الأقوات، ومات خلق كثير جوعًا، ثم اتفق رأيهم مع أدفونش- لعنه الله- على أن يسلموها ويخرجوا بأمتعتهم كلها، ففعل، ووفى لهم ووصلهم إلى مأمنهم في سنة أربع وثلاثين وست مائة".

لم يُعمَّر الزعيم (ابن هود) بعدها طويلاً، لقد انتهت به الحال من زعيم منصور من قِبل الناس إلى رجل منبوذ يبحث هؤلاء الناس (أنفسهم) عن فرصة للانتقام منه، ويُجهزوا عليه كما أجهز على أحلامهم، وهو ما حصل بالفعل حيث أُجهز عليه في عملية اغتيال على حين غِرة وهو نائم.

وبحسب الذهبي فقد ذهبت "تسعة أعوام وتسعة أشهر وتسعة أيام" من عمر مجتمع ضحى بكل ما يملك من أجل زعيم قادهم في نهاية المطاف إلى الهاوية، وهذه هي نتيجة الرهانات غير المحسوبة.

خلاصة ونتيجة:

تختصر لنا طبيعة هذا المشهد الذي طالما تكرر في تاريخنا العربي، أن الناس يضحون بأرواحهم وحياتهم ومستقبلهم عندما يلوح لهم زعيم جديد يمكن أن يخلصهم من حالة النكوص والرجوع.

لكن شواهد التاريخ تثبت لنا في كثير من صورها؛ كم قامرت هذه الشعوب بحياتها عندما سلمت زمام أمرها لزعيم مخلص جديد أغراها بمجموعة من الشعارات التي انساقت خلفها بكل سهولة وضحَّت بكل شيء من أجل حالة الإنقاذ الجديدة؟!

لا تدرك هذه الشعوب المضحية حينها أنها تدخل في مغامرات غير محسوبة مع كثير من الزعماء، وإنها تمارس عملية مقامرة غير مضمونة الربح أو الخسارة.

ومع كل ما مرَّ في تاريخنا من مآسٍ، ومع كل التجارب التي مرَّت بتاريخنا إلا أنَّ الجماهير لا يزال يُغْرِيها الزعيم الجديد، ولا زالت تترقب ظهوره من جديد.

يمكننا أن نخرج بنتيجة عامة من هذه التجربة التي كثيرًا ما تكررت، هي: أنَّ رهان التقدم والخروج من حالة الضعف والهوان لا ينبغي أن يُعلَّق على زعيم مخلص توضع كل الرهانات بين يديه، حتى إذا ما انحرف انحرفت معه كل تلك الرهانات، وإنَّما الرهان الحقيقي يكون على شعوب تملك حقها في القرار والمصير ولا تتلاعب بها رغبات شخص في حال قوته وضعفه.

لابدَّ لنا من وعي جديد يؤسّس في تفكيره عقيدة انتظار الشعوب كما أسس وعلى مدى زمن طويل من التاريخ عقيدة انتظار الزعيم... والسلام.

________________________________

- السلطان الأندلسي محمد بن يوسف بن هود أنموذجًا:

"يمكن مراجعة نصوص واقعة هذا السلطان وترجمته في سير أعلام النبلاء ( 23 : 20-22)".

 

المصدر : مركز نماء للبحوث والدراسات

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع