..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

مرض الأمة المدمر .. المراء والجدل

المنشاوي الورداني

١٦ ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 5006

مرض الأمة المدمر .. المراء والجدل
1.jpg

شـــــارك المادة

هذا مرَض مدمِّر مذموم، ظهر بين العاملين للإسلام وأبناء العرب في ثوْرات الربيع العربي، فأدى إلى نشوب الخلاف بين الجماعات والفئات والأحزاب في صورةٍ كارثية تُنذر بالخطر، كما تفشَّى في المحافل والاجتماعات والمؤتمرات بصورة مرذولة مقيتة، فأدى إلى التخاصُمِ والملاسنة، والغلبة لصالح الأهواء الشخصية، والانتصار للذات ليس إلا، يعززه في ذلك العصبياتُ والعناد.

إنه مرض الأمة المدمر: المِراء والجدل الذي ابتُلي به المسلمون، والإسلامُ من المرائين والمجادلين براءٌ.
العلامة الراحل الدكتور محمد رجب البيومي يتساءل: ما سر هذه الظاهرة العجيبة في دنيا العلم والأدب؟ وقد رحل عنا الأستاذ الأديب ولم يكمل تساؤله، وما سر هذه الظاهرة في دنيا السياسة؟ وما سر الوقوف موقفَ المعارض المتناحر، وفي المستطاع - لو خلصَتِ الضمائرُ، وصَفَتِ الطبائع - أن يلتقيَ المتنازعان في وسط الطريق؟
ويجيب الأستاذ الأديب فيقول:
إن السبب الأصيل لاتِّساع الشُّقة بين المتجادلين - وأكثرهم من كبار العلماء - هو الْتماس وجوه الخلاف في كل لفظ يحتمل الخلاف، ولو على سبيل التأويل من طرف بعيد، مع إغفال وجوه الاتفاق في كل فكرة تدعو إلى التقارب مهما ظهرت محجتها الواضحة؛ إذ إن بعض الناس يَعُدُّون التراجع انهزامًا؛ فهم ينقلون المسألة من الموضوعية الواسعة إلى الذاتية الضيقة، ومتى اعتقد المجادل أن الأمر في المسألة يتعلق بذاته لا بموضوعه، فقد تعذَّر الوفاق، وانفرجتْ مسألة الخلاف.
ويؤكد الأستاذ الأديب أن المراء والجدال داءٌ قديم قد أعضل، وإننا لنقرأ عنه في كتب السابقين ما يدهش ويروع فوق ما نشهد الآن في نقاش المحدَثين مما يؤلِم ويُسِيء، وإذا أردت اعترافًا حقيقيًّا يدل على ذلك التطاحن الشخصي، فاستمع إلى أبي حيان التوحيدي إذ يقول:
"سمعت الشيخ أبا حامد الإسفراييني يقول لطاهر العباداني: لا تعلق كثيرًا لما تسمع مني في مجالس الجدل؛ فإن الكلام فيها يجري منها على خَتْل الخصم ومغالطته، ودفعه ومغالبته، فلسْنا نتكلم لوجه الله - عز وجل - خالصًا، ولو أردنا ذلك لكان خطونا إلى الصمت أسرع من تطاولنا في الكلام، وإن كنا في كثير من هذا نبوءُ بغضب الله - سبحانه وتعالى - فإننا مع ذلك نطمع في فضل الله وسَعة رحمته".
ويرى الأستاذ الأديب هذا الاعتراف من الإمام الكبير بأنه شجاعة نادرة؛ حيث انتصر على نفسه في ساعة من ساعات الإخلاص النَّزيه، مضيفًا أن النقاش بهذه الصورة في مجالس المناظرة لا يهدف إلى تجلية الحقائق قدْرَ ما يهدف إلى مراوغة الخصم ومغالبته، كأن المسألة ليست مسألةَ حقائقَ مدعَّمةٍ بالأسانيد، ولكنها حومة من حومات المصارعة بين أبطال دربوا على الملاكمة البدنية، ليقول كل واحد منهم: أنا هنا أتصدر الميدان[1].

كما يرى شيخنا الكبير محمد الغزالي مرضَ المِراء والجدال واحدًا من أسرار تأخر العرب والمسلمين، موضحًا أن المصابين بمثل هذا الداء الوبيل يتربَّصون بالخطأ؛ ليأكلوا صاحبه، وليت الأمر كذلك، بل هناك طائفة من المتدينين يهاجمون الفقهاء، ويخدشون أقدار الأئمة، فيتركون انقساماتٍ عميقةً بين الناس، والعلمُ الصحيح لا يأخذ هذا المنهج.
ويستطرد الشيخ الغزالي فيقول في كتابه "سر تأخر العرب والمسلمين":
"إن واجبنا في هذا العصر ألا نجدِّد العراك بين الموتى، وألا نجتر الخلافات القديمة لنقطع بها أرحام المؤمنين في هذه الأيام النحسات التي أحدَق فيها أعداء الإسلام حول داره، يريدون هدمها.. وإذا كان المَثل يقول: لا تجعل سحب الغد تغطي شمس اليوم، فأَوْلى بنا أن نقولَ: لا تجعَلْ غيوم الماضي تغطي شمس الحاضر"[2].

ويُشِيد الإمام الشهيد حسن البنا في مقالة نادرة له بمجلة النذير إلى خصومات حدَثت بين بعض السابقين من المسلمين، وتشدُّد كل فريق لرأيه، وكان له ما يبرر هذا التشدد من فُشُو البدع، والخروج عن تعاليم الإسلام وعقائده، واستفاضة ذلك بين الناس، فكانت كلماتٌ شديدة وأقوال شديدة من الفريقين، مؤكدًا أنه ليس لهذه الخصومة مبرر بيننا الآن، فواجبنا أن نكون إيجابيِّين، وأن نلتفَّ حول كتاب الله وسنة رسوله، ولا نتَّخذ من هذه الأقوال ذريعةً للفُرْقة والخلاف والجدل والمراء، وبذلك تتوحد الكلمة، وتتوفر القوة، ويعود الناس إلى حقيقة دينهم السمح الحنيف، كما أشار إلى أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد قطع عذر المعتذرين، وسد ذريعة الشيطان؛ فنهى عن المراء حتى ولو كان الحق معك؛ لأن ما ينتج عن المراء من الشر محقَّقٌ فظيع، وما ينتج عنه من الخير ضئيل مشكوك فيه، وسد الذرائع أَولى.
ويستنكر الشيخ الجليل عطية صقر في كتابه "منارات على الطريق" فِعلَ قومٍ يستخدمون عِلمهم في إثارة الفتن وبلبلة الأفكار، وذكَر الحديث الشريف الذي رواه ابن ماجه: ((من تعلَّم العلمَ ليباهيَ به العلماء، ويماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار)).

يقول سهل بن هارون:
إن من أصناف العلوم ما لا ينبغي للمسلمين أن ينظروا فيه، وقد يرغب عن بعض العلم كما يرغب عن بعض الحلال، كما أيقن السلفُ الصالح أن العلم إذا طبق في مجال الخير، أثمر ثمرة طيبة، قيل للمهلب بن أبي صُفرة: بمَ أدركتَ ما أدركت؟ قال: بالعلم، فقيل له: إن غيرك قد علِم أكثرَ مما علمتَ، ولكنه لم يدركْ ما أدركتَ، فردَّ عليهم بهذا القول الحكيم الذي يجبُ أن يسمعه كلُّ عاقل يجتهد ويكد في طلب العلم: "ذلك علمٌ حُمِل، وهذا علم استُعمل"، ومن حِكَمهم المأثورة: العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب وإلا ارتحل، وقليلٌ من المعلومات يطبَّق ويستفاد منه في ميادين النهضة خيرٌ من كثير يُختَزن في الأدمغة والكتب لمجرد المراء والجدال[3].
ولقد دبَّج الدكتور الراحل: السيد نوح في كتابه: "آفات على الطريق"[4] دراسة قيمة عن المراء والجدل، أكد فيها أنها كانت وراء كثير مما نعاني منه نحن المسلمين العاملين لدين الله إلى اليوم، فوقف على حقيقة أبعادها ومعالمها، وذكَر أسبابها، ووضَع الحلول الناجعة لها، ولا بد لكل مسلمٍ من الرجوع إلى هذا الكتاب لأهميته في العصر الحديث، الذي يئنُّ من ذلك المرض المدمر المرذول.. المراء والجدل.
ونذكر - باختصار - عناوين من هذه الدراسة؛ حيث ذكر فضيلته أسباب الوقوع في المراء والجدل فقال:
1- عدم رعاية آداب النصيحة؛ فالنصيحة في السرِّ، ما لم يجاهِرْ بها صاحبها.
2- عدم الحظوة بثقة واحترام الآخرين، كرد فعل يحاول به المجادل إثبات وجوده.
3- الميل إلى الغلبة، وعدم قبول الهزيمة، وهذه طبيعة في النفس، يستخدم فيها الإنسانُ كلَّ ما يتاح له من أسباب ووسائل.
4- البيئة المحيطة بالمرء؛ حيث لم يأخذ المرءُ حظَّه من التربية على الكتاب والسنَّة.
5- التشويش على الحق والصواب، كحال العَلْمانيين المنفلتين الذين يطبقون قاعدتهم المعروفة: "واجِهْ خصمَك بالتشويش والتهويش، تُصِبْ منه ولو إلى حين".
6- الاستغلال لعلوم الجدل والمناظرة قبل التحصُّن بالكتاب والسنَّة، وهذا سر اختلاف علماء المسلمين في حُكْم تعلُّم الفلسفة.
7- الإعجاب بالنفس بل الغرور والتكبر، وقد كان هذا دأب إبليس - لعنه الله - عندما ردَّ على ربِّه في مراء وجدل: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 76].
8- فراغ القلب من معرفة الله وتقواه، وهنا يكون الاشتغال بما لا يُسمِن ولا يغني من جوع من المراء أو الجدل، ومن الخصومة بالباطل.
9- عدم وجود برنامج يواكب ويمتص الطاقات؛ ذلك أن نفس المرء إن لم يشغلها بالنافع، شغلتْه بالضارِّ.
10- الغفلة عن الآثار والعواقب المترتبة على المراء أو الجدل، ومن هذه الآثار على العاملين للإسلام:
أ- قسوة القلب.
ب- إغضاب الآخرين، الأمر الذي يؤدي إلى البُغْض والقطيعة.
ج- ضياع الهَيْبة وسقوط المروءة.
د- عدم أمنِ الفتنة في الدِّين.
ومن آثارها على العمل الإسلامي:
أ- الفُرْقة والتمزُّق.
ب- تمكُّن العدو مع طول الطريق وكثرة التكاليف.
وبالبعد وبمقاومة كل هذه الأسباب والآثار يكون العلاج، ولو أن كل إنسان رأى أن كلامَه من عمله، لقلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه، وبذلك يُغلَق بابٌ واسع من أبواب المراء أو الجدل، فمن العبث أن يَشغَل الإنسان نفسَه بما لا خير فيه؛ و((مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يَعْنيه))؛ الترمذي.

 

 

الألوكة 

ـــــــــــــــــــــ

[1] د. محمد رجب البيومي، من القِيم الإنسانية في الإسلام، ج2، ص 84 - 94 بتصرف، الأزهر الشريف، 1428هـ.
[2] الشيخ محمد الغزالي، سر تأخر العرب والمسلمين، ص 51، 52، 53، نهضة مصر، أبريل 2006م.
[3] الشيخ عطية صقر، منارات على الطريق، ص 216 - 218، دار الغد العربي، القاهرة، 1417هـ/ 1996م.
[4] د. السيد محمد نوح، آفات على الطريق، ج4، ص9 - 33، دار الوفاء بالمنصورة، 1416هـ/ 1995م.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع