..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

المعرفة والسلطة

خالص جلبي

١٥ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 7048

المعرفة والسلطة
85569.jpeg

شـــــارك المادة

كانت توقُّعات الناس أن القيادة السورية مع أحداث درعا أن تقدِّم تنازلات، وهو جهل بالسياسة والتاريخ وعلم الاجتماع، بسبب الجهل بطبيعة الأمراض الاجتماعية، ومن رأى مجلس (القرود) عفوًا مجلس الشعب وكيف يصفق؟ لقال هل أنا في حلم أم علم؟
ولو اجتمع أهل درعا كلهم وليس بينهم طبيب واحد على مصاب باليرقان -أبو صفار- لما تقدّموا بحل معضلة مرضه إلا سقامًا، ولذا وجب تشريح بنية الديناصور السياسي في الغابة العربية.
..


يطرح (اتيين دي لابواسييه 1530 - 1562) في مقالته عن (العبودية المختارة) هذا السؤال المُحيّر: (شيء واحد لا أدري كيف تركت الطبيعة الناس بلا قوة على الرغبة فيه وهو (الحرية) التي هي الخير الأعظم وضياعها تتبعه النكبات تتْرَا وما يبقى بعده تفسده العبودية وتفقده رونقه).
ولكن لماذا تسقط الأمم في قبضة الديكتاتورية؟ وكيف تصاب مجتمعات شتّى بهذا المرض الخبيث في التاريخ بحيث يشترك في توصيفه كل من (الكواكبي) و(لابواسييه) بأقبح النعوت، أما الأول فيصف الاستبداد في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) أنه لو كان رجلاً وأراد التعريف بنفسه لقال:
(أنا الشرّ، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضرر، وخالي الذل، وابني الفقر، وابنتي البطالة، ووطني الخراب، وعشيرتي الجهالة).
أما (لابواسييه) فيصف الديكتاتورية: (ما هذا يا ربي؟ كيف نسمي ذلك؟ أي رذيلة تعيسة أن نرَى عددًا لا حصر لهم من الناس يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة لا من عسكر أجنبي، بل من واحد لا هو بهرقل ولا شمشون. إنّ لكل رذيلة حدًّا تأبى طبيعتها تجاوزه. فأي مسخ من مسوخ الرذيلة هذه لا يستحق حتى اسم الجبن ولا يجد كلمة تكفي قبحه، والذي تنكر الطبيعة صنعه، وتأبى اللغة تسميته؟).
نحن نعرف من علم البيولوجيا أن الكائنات تمرض كما تنهار الدول وتنقرض الحضارات فلا تسمع لهم ركزًا.
ولكن ما المرض تحديدًا وكيف يحدث؟
هل هو بسبب هجوم عنصر خارجي أم هو تعبير عن انهيار داخلي؟ هل هو أمر طبيعي أن تخسر الشعوب حريتها؟ يقول السياسيون: إنّ الطغيان يحصل بـ (تسلط الفرد) على الأمة بسلاح الخوف، ولا يفسرون لنا كيف يمكن لبشر فرد أن ينجح في بناء آلة رعب بحجم ديناصور لاحم.
ويرى المثقفون أنّ (القوة) هي التي تقرِّر مصير الأمة، فلا يمكن (لعين أن تقاوم مخرز ودبوس ومسمار)، ولا لعصفور أن يواجه مسدسًا كما جاء في شعر القباني - رحمه الله -.
ولكن القرآن يعكس هذا المفهوم، فيلوم الضحية وليس الجلاد، وينفرد بمصطلح (ظلم النفس)، فما يقع للناس هو بما (كسبت أيديهم)، وما ربك بظلام للعبيد، ويلوم (المثقف) الذي يجب أن (يبين) الأفكار للناس ولا يقعد في جيب الحاكم.
ويعتبر أن (الأفكار) هي التي تغير المجتمع وليس تغيير الحكام، لأن الطغيان سوف يستبدل بطغيان أشد، وعندما خسرنا الحياة الراشدة وحكمنا السيف تغيرت سيوف كثيرة على رقابنا ولكن الحياة الراشدة لم تعدّ قط.
ولا يفرخ مجتمع طاغية إلا بالاستعداد الخفي، ولا تخرج الدمامل إلا في جسم منهك بمرض السكر أو الايدز.
وبالمقابل؛ فإنّ تغيير الواقع يتم بتغيير رصيد ما بالنفوس، وإنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، والأمراض الاجتماعية في النهاية تحملها (وحدات) من الأفكار كما حملت الأمراض (الوحدات) الإمراضية من جرثوم وفيروس.
ولا يمكن لطفل أن يقود جملاً لولا أن الغلام يحمل من الوعي ما يفقده الجمل، ولا يمكن لأمة أن تُستعبد لولا استعدادها على نحو خفي للعبودية، ولا يمكن لدكتاتور أن يقعد على رقبة شعب واعٍ. ولا تحط النسور إلا على الجثث. فهذا مفتاح جوهري في فهم المشاكل.
ويترتب عليه أمر هام وهو تحديد منطقة الحفر في طبقات آركيولوجيا المعرفة على حد تعبير (فوكو) الفيلسوف الفرنسي.
الغصن يتهاوى إلى الأرض في فصل الخريف بتفسخ الارتباط مع الشجرة الأم، وينفجر المرض بانهيار الجهاز المناعي، وتمرض النفس بعبادة الذات الفانية، وتتداعى الدول بالتفكك الداخلي، ولم يظهر الخراج الصهيوني لولا المرض العربي، وتتلاشى الحضارات من صفحة التاريخ بالانتحار الداخلي كما ذهب إلى ذلك حجة التاريخ (توينبي) في كتابه (دراسة التاريخ STUDY OF HISTORY).
وتعرض (لابواسييه) في رسالته القيمة عن كيفية السقوط في وهدة العبودية، فأشار إلى أربعة أفكار رئيسية:
(سلطان العادة) وكيف أنها تتحكم في السلوك على ثلاث مراحل، وكيفية (تغير محتويات النفس) مع الوقت وانقلاب الأوضاع لتصل إلى درجة من البؤس لا يصدقها أكثر المتشائمين؛ فالفرس البري يجمح براكبه والمروّض يتباهى بسرجه ويفلسف بؤس العبودية.
وإنَّ (أصناف الطغاة) ثلاثة.
وأخيرًا أن المجتمعات تنساق إلى العبودية بثلاث طرق:
فأمَّا الطغاة فهم على أنواع: فمنهم من يمتلك الشعب عن طريق الانتخاب (المزوَّر)، (والبعض الآخر بقوة السلاح، والبعض الثالث بالوراثة المحصورة في سلالتهم).
وعندما يريد المقارنة بينهم يرى بعض (الاختلاف)، ولكنه لا يرى (اختيارًا) بينهم، بسبب طرق الوصول إلى الحكم وأسلوبه:
(فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله، والغزاة كأنه فريستهم، والوارثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكًا طبيعيًا).
أما الوقوع في قبضة العبودية فهي بدورها ذات ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب:
(فهو يقينًا لا ينساق إلى العبودية إلا عن أحد سبيلين؛ أما مكروهًا، أو مخدوعًا)؛ (مكرهًا) بسلاح أجنبي أو (طائفة) من مجتمعه، وأما (الخديعة) فكما حصل مع أهل صقلية عندما استبدلوا الرمضاء بالنار فرفعوا (ديونيسيوس) إلى سدة الحكم لإنقاذ البلد فتسمى: (باسم القائد ثم الملك ثم الملك المطلق) ثم ليأخذ اسم الطاغية في التاريخ (TYRAN).
وأما (تغير السلوك التدريجي)، فمن نشأ في الاستعباد يشبه من اعتاد شرب السموم فلا يؤثر فيه لدغ الثعابين، أو يشبه أهل المناطق الاسكندينافية العليا، فمن ولد في الظلام لأشهر طويلة يفاجئ بسطوع ضوء الشمس، ويظن كما يحصل لحيوان (الخلد) أنّ الظلام هو أصل الأشياء، أو كما اعتادت الشعوب العربية على (الأحكام العرفية)، فهي لا تعرف ما هي (الحالة الدستورية)، وكل هامش خلاص ينفحه الحاكم بما فيها منحة (الديمقراطية) تأخذها الشعوب أنها هبة تتصدق بها يد عليا.
وكما يقول (مكيافيللي) في كتابه (الأمير) إنّ على الحاكم أن يعطيهم (الرحمة) بالقطّارة، أما (العذاب) فيجب أن يصب من فوق رؤوسهم كالحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد، بمعنى أن الناس متى سقطت في فخّ العبودية صعب عليها جدًا الخلاص من شركه.
قد يعرف الجيل الأول مرارته كما ذاقه جيلنا، أما من ولد فيه فالأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، اعتادوا عليه يعتبرون أن نظم الحياة يمشي هكذا، كما في بطء ضربات القلب عند السلاحف، أو برودة الماء عند السمك. كذلك ترى المجتمعات أن (الطغيان) هو من طبيعة الأشياء.
يقول (لابواسييه): (لنقل إذن أن ما درج الإنسان عليه وتعوّده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي ومنه كانت (العادة) أول أسباب العبودية كشأن الجياد الشوامس تعض الرسن بالنواجذ في البدء ثم تلهو به أخيرًا وبعد أن كانت لا تكاد تستقر تحت السرج إذا هي الآن تتحلى برحالها وتركبها الخيلاء وهي تتبختر في دروزها تقول: إنها كانت منذ البدء ملكًا لمالكها، وأن آباءها عاشت كذلك، وتظن أنها ملزمة باحتمال الجور، وتضرب الأمثلة لتقتنع بهذا الالتزام، وبمرّ الزمن تدعم هي نفسها امتلاك طغاتها إياها).
وهنا نفهم معنى الهجرة في الاستلام، ونفهم المغزى العميق من قصة أصحاب الكهف الذين هربوا إلى كهف بارد وضَنُّوا بكلبهم أن يبقى في مجتمع تبخرت منه الضمانات.
والمجتمعات الوثنية لا تحمل أي ضمانة لأي إنسان أ وحيوان أو شيء في أي زمان أو مكان.
أو قصة موسى –عليه السلام- وهو يعبر ببني إسرائيل البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم.
إنها نفض اليد من وسط محنط ميت وإعلان ولادة مجتمع جديد.
إنّ إبراهيم –عليه السلام- كان مشروع أمة، كذلك الحال في فتية الكهف، أو عبور بني إسرائيل إلى سيناء كي تكون مدفنًا جماعيًا لهم لجيل كامل خلال أربعين سنة يتيهون في الأرض؛ فيخرج من أصلابهم جيل جديد لا يعرف إلا الصحراء والحرية.
إنّ بني إسرائيل الذين خرجوا من أرض فرعون لا يصلحون لحمل رسالة موسى –عليه السلام-، بل لا بدّ من جيل جديد لا يعرف الطغيان، ولا يستطيع العيش في ظروف الدكتاتورية.
ذكرت سابقًا أمراض المجتمع العربي الإسلامي (العشرة)، وكان في رأس القائمة (تقديس الآباء)، أو ما كرّره القرآن بتعبير: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}، بالإضافة إلى (2) تأليه القوة، (3) واحتقار العلم، و(4) تبرئة الذات واتهام الآخرين، و(5) إجازة الغدر، و(6) ظن أن النص يغني عن الواقع أو مرض انفكاك النظرية عن الممارسة والتاريخ، و(7) الاهتمام بفضائل الجهاد بدون معرفة بشروطه وهو الخراج الذي فجّر كل مشاكل العنف في المجتمع العربي، و(8) رفض المسلمين للديمقراطية مع أنها أقرب إلى الرشد من كل ما عليه واقع المسلمين السياسي اليوم(*)، و(9) وتمكن العقل الخوارقي الأسطوري في حياتنا وانحسار العقل العلمي، (10)وظنّ أن الأحكام لا تتغير بتغير الأزمان أي كأن العدل لا يمكن أن ينمو أكثر فأكثر.
ويتعلق المرض الأول -أي سلطان العادة- بهذه الحزمة من الأمراض كسبب أساسي في رسوخ شجرة الطغيان.
ويختصر (لابواسييه) الخلاص من الطغيان بوصفة بسيطة واضحة ليس قتله بل عدم طاعته: (اعقدوا العزم ألا تخدموا تصبحوا أحرارًا، فما أسألكم مصادمته بل محض الامتناع عن مساندته، فترونه كتمثال هائل سحبت قاعدته فهوى على الأرض بقوَّة وزنه وحدها وانكسر).
ويتكلم القرآن بنفس المنطق عن جدلية الطغيان بتعبير الكلمة الطيبة والخبيثة؛ فيشبه الاثنتين بشجرتين، وعلى ما يبدو فإنَّ هذا يصلح تفسيرًا لماذا تكبر شجرة الديكتاتورية فيصل سعفها إلى أعلى من شجرة نخلة باسقة طلعها كأنّه رؤوس الشياطين، ولكنه نمو يحمل إمكانية سقوطها تحت ثقلها الخاص، فهي في النهاية تُجْتَثّ من فوق الأرض ما لها من قرار، وبكل أسف فإن هذه الوصفة النبوية لم يستفِد منها أحد لا الإسلاميون ولا غيرهم، بل تبنّى الجميع مذهب الخوارج في قتل الحاكم بالسيف، أو مذهب الثورة الفرنسية في فصل رأس المستبد على مقصلة. تقول الرواية: إن الطبع يغلب التطبع، ولكن مشرِّع اسبرطة (ليكورج) أثبت عكس هذا بالتجربة، حيث عمد إلى تربية كلبين خرجَا من بطن واحدة، جعل الأول يسمن في المطابخ، والثاني يجري في الحقول حتى إذا كبرا بما فيه الكفاية جاء بهما إلى السوق ثم وضع أمامهما وعاء من الحساء بجانب أرنب وأطلق الكلبين، فإذا أحدهما يلعق الوعاء كسولاً رخوا، وأما الثاني فيضرب في البراري يلاحق الأرنب المذعور.
قال ليكورج يعلق على المنظر المثير: ومع هذا فهما أخوان. إن التربية قد تهبط بالإنسان إلى أسفل سافلين فتمسخ الإنسان إلى شكل القردة والخنازير، أو قد ترتفع به إلى أعلى عليين فتسجد له الملائكة أجمعون. وأن رصيد السلطة هي من الجهل أو المعرفة ولم يكن للشيطان سلطان على الناس إلا من اتبعه من الغاوين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) هي أقرب إلى الرشد على اعتبار المقارنة بينها وبين الأنظمة الديكتاتورية الاستبدادية التي حكمت الدول العربية، وإلا فالديمقراطية ليست بديل لأن تكون نظام حكم يرتضيه المسلمون ويسعون لإيجاده بعد زوال الأنظمة الديكتاتوري، وإنما النظام الإسلامي ( نور سورية).

المصدر: الإسلام اليوم 

تعليقات الزوار

..

أديب اسماعيل - syria

١٧ ٢٠١٢ م

من أجمل ما قرأت .....و من أسرع ما حفظت ....جزاك الله كل خير كاتب و ناشر هذا المقال .

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع