..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

اعتذار إلى الشعب السوري

فهمي هويدي

١٤ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6942

اعتذار إلى الشعب السوري
هويدي.jpg

شـــــارك المادة

نحن مدينون باعتذار إلى الشعب السوري، الذي يذبح تحت أعيننا كل يوم منذ أحد عشر شهراً، في حين خذلته الشعوب العربية ووقفت منه موقف المتفرج، كأنما صار "قلب العروبة" محاطاً بعرب بلا قلب.

 


(1)
من الجمعة 3/ فبراير/ شباط إلى الجمعة التالية 10/ منه تم قتل 755 سوريا. ومنذ بداية الانتفاضة الأسطورية في منتصف مارس/آذار الماضي قتل النظام القائم حتى الآن نحو ثمانية آلاف شخص واختفى عشرة آلاف وامتلأت السجون بعدد لا يحصى من المواطنين، وكانت الجريمة الوحيدة التي ارتكبها كل هؤلاء أنهم تمنوا أن يسترد بلدهم كرامته وحريته، بعد نحو 45 عاماً من الاستبداد والقهر.
حتى إننا طوال الأشهر التي خلت أصبحنا لا نرى في سوريا سوى أنها بلد غارق في دم أبنائه. شوارعها لا تسير فيها سوى جنازات الضحايا ومدرعات القتلة. ومدنها موعودة بالخراب والدمار كلما ارتفع فيها صوت يطالب بالحرية. بل إننا ما عدنا نسمع سوى أزيز الصواريخ والقاذفات واستغاثات المحاصرين المطالبين بوقف المجازر، وهتافات المصرِّين على إسقاط النظام، والداعين إلى أي تدخل عربي أو دولي يكبح جماح غارات التتار الجدد.
(2)
هذه الجريمة المستمرة منذ أحد عشر شهراً لم تحرك شيئاً في العالم العربي، الذي اكتفت أغلبيته بمتابعة ما يجرى عبر شاشات التلفزيون، تماماً كما يحدث مع أي مسلسل تركي!
من المفارقات أن العالم العربي والإسلامي اهتزَّا وانتفضَا حين ظهر كتاب "الآيات الشيطانية"، وحين نشرت إحدى الصحف الدانماركية رسوماً مسيئة للنبي محمد - عليه الصلاة والسلام -، لكنهما لم يكترثَا بالمذبحة المستمرة التي يتعرض لها الشعب السوري.
وإذ أفهم مشروعية الغضب للمقدسات الدينية فإنني أستغرب ذلك التقاعس عن التعبير عن الغضب دفاعاً عن كرامة المسلمين وعزتهم. الأمر الذي يكشف في جانب منه عن مدى الخلل في المفاهيم السائدة التي تفصل بين عقيدة الإنسان وكرامته، وتقصر الغيرة والحمية على الأولى دون الثانية. علماً بأن للعقائد رباً يحميها، أما انتهاك حرمات الناس واستباحة كراماتهم فهو يمثل عدواناً على حق من حقوق الله، يستوجب الاستنكار والاستنفار ويستدعى الاحتشاد والخروج للضرب على يد الظالم.
إذا قال قائل: إن الجامعة العربية قدمت مبادرات وأوفدت مراقبين وذهبت إلى مجلس الأمن لتستقوي به في مواجهة نظام دمشق، فلن أختلف معه. لكني أقول فقط: إن الجامعة تمثل الحكومات ولا تمثل الشعوب، ثم إن المراقبين ذهبوا حقاً وعادوا ولم يفعلوا شيئاً غيَّر من المعادلة، وإنما استثمر النظام مهمتهم لكسب الوقت بهدف الانتهاء من قمع المظاهرات.
أما اللجوء إلى مجلس الأمن فقد أجهضه الفيتو الروسي والصيني. ولم يعد أمامنا من مبادرات حل الإشكال على الصعيد الدولي سوى مؤتمر أصدقاء سوريا الذي دعت إليه فرنسا، والمؤتمر الدولي الموازي الذي دعت إليه تركيا. إلا أن أهم تطور رسمي حدث على الصعيد العربي تمثل في سحب بعثة المراقبين، وطرد سفراء سوريا لدى تونس ودول مجلس التعاون الخليجي، واعتراف ليبيا بالمجلس الوطني الذي يمثل الثورة السورية.
(3)
في الحالة الليبية كان واضحاً أن سقوط القذافي مسألة وقعت بسبب تدخل حلف الناتو. وهو ما تكرر في اليمن منذ أن أطلقت المبادرة الخليجية بتأييد غربي واضح. إذ لم يكن أمام الرئيس علي عبد الله صالح إلا أن يغادر في نهاية المطاف. أما في الحالة السورية فالأمر أكثر تعقيداً، إزاء استحالة التدخل الدولي، واستحالة المصالحة بين المجتمع والنظام بعد كل الدم الذي أريق، واستعصاء الحسم الداخلي عسكرياً، وهشاشة الضغوط العربية، الأمر الذي يعني ثلاثة أمور؛ أولها: أن النظام السوري المتماسك بصورة نسبية حتى الآن لا يزال قادراً على الاستمرار ما لم تحدث مفاجأة غير متوقعة.
الأمر الثاني: أنه في ظل الخرائط العربية الراهنة والأوضاع الدولية القائمة يبدو أنه كتب على الشعب السوري أن يخوض معركته وحيداً.
الأمر الثالث: يترتب على سابقه، وهو أن المعركة ستطول وأن معاناة الشعب سوف تستمر وسوف تتزايد معها فاتورة التضحيات والآلام.

مستقوياً بعوامل وأوراق الداخل، وبالدعم الإقليمي والمساندة الخارجية، فإن النظام السوري وجد نفسه مطمئناً إلى الاستفراد بالشعب السوري، وغير مستعد للتراجع خطوة إلى الوراء. وبالتالي فكل ما يطلقه من شعارات تحدثت عن التغيير والحوار الوطني والإصلاح السياسي ما عاد لها معنى، ولم تعد تؤخذ على محمل الجد، وبات واضحاً للجميع أنها من ذرائع المراوغة وكسب الوقت.
يراهن النظام السوري في الداخل على القبضة الأمنية القوية، وعلى مساندة قطاع عريض من الطائفة العلوية، التي يلوح بها كفزاعة لا تخوف فقط من احتمالات الحرب الأهلية، ولكنها فزاعة أيضاً لإزعاج الجارة تركيا التي يزيد فيها عدد العلويين على عشرة ملايين نسمة. وبالمناسبة فإن النظام السوري يستخدم ورقة الأقليات العرقية والدينية ليس فقط للتخويف من بدائله، ولكن أيضاً لتحدي الجيران وترهيبهم.
ففي مواجهة الضغوط التركية -مثلاً- فإنه لا يستخدم الورقة العلوية فقط، وإنما يلوح أيضاً بتوظيف الورقة الكردية. إذ رغم أن أكراد سوريا في حدود 200 ألف نسمة أغلبهم في محافظة القامشلي، فإنهم في شمال تركيا أكثر من 12 مليوناً واشتباكاتهم مع أنقرة لها تاريخ طويل.
يستقوي النظام أيضاً بالتأييد الإيراني الواسع النطاق الذي استصحب تأييداً عراقياً ودعماً من حزب الله في لبنان. ومعلوم أن ثمة تحالفاً إستراتيجياً بين سوريا وإيران، راهنت فيه طهران على نظام الأسد وليس على الشعب السوري، وهذا التحالف يؤمن البلدين بدرجة أو أخرى في مواجهة التهديد الإسرائيلي، لكن له دوافعه المذهبية أيضاً. إذ من شأنه أن يعزز موقف الطائفة العلوية الأقرب إلى الشيعة في سوريا، كما يعزز موقف حزب الله في لبنان، في حين أن تغيير النظام في دمشق لا يقلب هذه المعادلة لصالح السنة في سوريا فحسب، ولكنه يهدد بتغيير الوضع في العراق، من حيث إنه يقوي ساعد أهل السنة هناك في مواجهة الأحزاب الشيعية المهيمنة والموالية لإيران.
الخلاصة: أن النظام السوري في مقاومته لأي تغيير سياسي يستقوي بعدة أوراق في يده. ويخوِّف من قلب المعادلات الإقليمية، كأنما يبعث إلى الجميع برسالة تقول إنه إذا كان سيئاً فالذي سيترتب على رحيله أسوأ.
في الساحة الدولية يراهن النظام السوري على مساندة روسيا والصين. وهو ما تجلى في الفيتو الذي استخدماه في مجلس الأمن للحيلولة دون معاقبته. ويدفع البلدين إلى الموقف الذي اتخذاه أنهما ضد تمدد النفوذ الأميركي في المنطقة. وقد أعلنا صراحة أن الدول الغربية "خدعتهما" حين لم يعارضا فرض الحظر الجوي على ليبيا. إذ بعد أن فعلا ذلك أطلقت يد حلف الناتو في العمليات العسكرية، وتم تجاهل روسيا والصين. وهما لا يريدان تكرار هذا المشهد مرة ثانية، إضافة إلى ذلك فلروسيا علاقات خاصة مع دمشق، إذ لها قاعدة خدمات بحرية في ميناء طرطوس ثم إن كل السلاح السوري يتم شراؤه من موسكو، أما الصين فلديها حساسية من تأييد أي تحول ديمقراطي عبر مجلس الأمن ولا تريد للمجلس أن يتدخل في الشأن الداخلي لأي بلد، لأن ذلك يمكن أن يرتد على بكين ويستدعي ملفات داخلية كثيرة تسبب إحراجاً لها.
(4)
الغائب عن المشهد حتى الآن هو ضغط الشعوب العربية، خصوصاً في دولة مثل مصر، التي يفترض فيها الريادة ويتعامل معها الجميع باعتبارها "الشقيقة الكبرى"، الأمر الذي يستدعي السؤال التالي: لماذا لم يحرك شلال الدم المتدفق في سوريا شيئاً يذكر في الشارع العربي عامة والمصري خاصة؟ هناك عدة عوامل أسهمت في ذلك الغياب منها ما يلي:
ـ إن مصر منذ أن وقعت معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979م استقالت عملياً من موقع الريادة، ودخلت في طور الغيبوبة الكبرى التي لا تزال مستمرة حتى الآن. وفي غيبوبتها تلك فإنها لم تنكفئ على ذاتها فحسب، ولكنها التحقت بما سمى معسكر "الاعتدال" الذي أصبح من الناحية العملية يدور في فلك السياسة الأميركية. وحين حدث ذلك من جانب "الشقيقة الكبرى" فلك أن تتصور صداه في أرجاء البيت العربي.
ـ إن أجواء الربيع العربي أغرقت عدة أقطار في شأنها الداخلي؛ لأن سقوط الأنظمة تطلب جهداً كبيراً لتأسيس الأنظمة الجديدة، الأمر الذي صرف الانتباه عن أمور أخرى مهمة حاصلة في الساحة العربية.
ـ إن بعض النخب يحفظون للنظام السوري وقفته إلى جانب المقاومة الفلسطينية، ويرون في تلك الوقفة حسنة تغفر له الكثير من سيئاته، في حين أن لديهم شكوكاً في بعض عناصر معارضة النظام.
ـ إن الملف السوري أشد تعقيداً مما يتصوره كثيرون. إذ لا خلاف على أن النظام القائم في دمشق يهيمن عليه حفنة من الأشرار، إلا أن القوى الخارجية التي تسعى لإسقاطه يحركها طابور طويل من الأشرار أيضاً. الأمر الذي حيَّر كثيرين ممن صاروا يفاضلون بين الشيطان الذي يعرفونه والشيطان الذي لا يعرفونه.
ـ إن تدويل القضية أصبح مثيراً للشك والريبة، بعد تجربة حلف الناتو في ليبيا، علماً بأن الوضع الذي نحن بصدده الآن أصعب، لأن ليبيا وراءها الثروة النفطية فقط، أما سوريا فوراءها خريطة جديدة للمشرق، وربما للشرق الأوسط، إذا وضعنا في الاعتبار تأثير سقوط النظام السوري على إيران وتركيا.
ما العمل إذن؟ ردي أننا ينبغي أن نصيح بأعلى صوت قائلين: لا لاستمرار المذبحة ولا لتدخل حلف الناتو. وفي هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن انهيار النظام العربي يحول بيننا وبين أن نتوقع حلاً عربياً يضغط لكي يوقف المذبحة ويسلم السلطة للعناصر الوطنية السورية.
ويبدو أنه لم يعد أمامنا سوى أن نراهن على الشعوب العربية التي صحت أخيراً، وعلا صوتها الذي حجبته الأنظمة الاستبدادية، وقد سمعنا مؤخراً صوت تلك الشعوب في مظاهرات تونس وليبيا وموريتانيا. وإلى أن نسمع صوت بقية الشعوب العربية وفي مقدمتها شعب مصر، فإننا لا بدّ أن نقدم اعتذاراً للشعب السوري عن خذلاننا له وتقاعسنا في إعلان التضامن معه، وإذا لم يسامحونا ولم يقبلوا اعتذارنا فهم معذورون. لست مخولاً من أحد في تقديم اعتذار، لكني أقدمه عن نفسي مستشعراً درجة عالية من الحزن والخزي.

المصدر: الجزيرة نت

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع