..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مرصد الثورة

ساعات مع الثورة السورية - الحلقة الأولى

عبد الرحمن عبد الله الجميلي

١٠ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 8281

ساعات مع الثورة السورية - الحلقة الأولى
1ثائر يقنص.jpg

شـــــارك المادة

الحمد لله رب  العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنه لا يخلو حدث من مواعظ وعبر، ودروس وفوائد، مهما كان الحدث صغيراً أو حالة فردية خاصة، فكيف إذا كان الحدث كبيراً، يعكس آمال أمة عريقة، وطموحاتِ شعبٍ كان نبضَ الجمال والحياة في الكون!!
إنه الثورة الشعبية السورية المباركة، التي أعادت للأمة الأمل بفجر جديد، وصبح قريب، والتي فجَّرت فيها ينابيع البطولة والفداء، وفتَّحت أيادي الخير والعطاء، فصِرْتَ ترى الطفل بطلاً مقداماً، والمرأة مربية مجاهدة، وترى الصدور العارية تتقدم إلى الرصاص غير هيَّابة ولا وجلة.

 


هيا بنا نطوف الأراضي السورية، نتنقَّل مع الثوار، نجلس هنا ساعة، وهناك أخرى، لنعلم بعد ذلك أن الحياة في هذه الأمة حقيقة لا مجرّد آمال، وأن الخير في هذه الأمة كبير، لا يقتله ظلم الطغاة، ولا تمحوه جهالة الجهَّال، والآن أدعكم مع الحلقة الأولى:
  الساعة الأولى: هكذا فلتكن الأمهات:
حدثتنا أم مهند قالت: إن بيت أخي فيه أربعة أولاد، اثنان في الابتدائية واثنان في المرحلة الإعدادية، كانت أمهم تقوم كل يوم من أيام رمضان بعد الإفطار بتجهيزهم، فتلبسهم لباسهم... حتى حذاء الرياضة، ثم تعطيهم لفحات يلفون بها وجوههم كي لا يعرفهم أمن النظام وشبيحته المجرمة، وعند الجاهزية تقول لهم: هيا يا أبنائي اخرجوا مع الأحرار، فيخرج هؤلاء الصغار إلى ساحة التجمع والتظاهر في همة عالية وعزيمة لا تلين.
تقوم الأم بعد خروج أبنائها بحمل الماء، وتتسلل إلى المظاهرة، دون أن يعرفها أحد، حيث أنها متسترة بحجابها، فتقوم بسقاية الثوار وإعانتهم على الصدع بالحق والجهر به، وتحفيزهم وتشجيعهم على المضيّ والاستمرار؛ وذلك حتى إسقاط هذا النظام المجرم الغاشم.
فانظروا وتأمّلوا كيف تقوم هذه المرأة الباسلة بإعداد أبنائها للمهمَّات الكبار والخطوب الجسام، ثم تأبى القعود عن المساعدة والنصرة، وهي المرأة المعذورة، فتخرج بنفسها تسقي الثوار، وتطفئ لهيب العطش، حتى تبقى حناجرهم مغردة بالحرية والكرامة.
الساعة الثانية: ذكَّرتَنا بابن النَّضر
اتصلتُ بقريب لي في تركيا، كان قد خرج من حلب؛ لِمَا فيها من ظلم وقهر وتشبيح لهؤلاء الشباب الذين خرجوا مطالبين بنسائم الحرية والكرامة، وأريج العدالة والمساواة، سألته عن أحواله وأحوال الأهل في حلب، فذكر لي من المآسي ما تشيب لهوله الولدان، وأخبرني أن النظام قد زرع المدينة بالعصابات الأمنية والشبيحة المرتزقة خوفاً من قيام حلب؛ وذلك لِمَا يعلم من خطورة حراك الشهباء وأثره البالغ في زعزعة سلطانه وزوال حكمه الظالم.
قال لي: أبا عبد الله، أتعلم مَن بجواري؟
قلت: لا.
قال : بجواري علاء منصور أوسو (المعروف بالنقيب نمر) سلِّم عليه. ألقيت عليه التحية والسلام، وسرّني جداً أن أتحدث مع الرجل القادم حديثاً من معركة قوية، خاضها شمالي حلب مع عصابات النظام البعثي القاتل.
وبعد أيام قليلة، جرت مهاتفة بيني وبين أبي محمد (قريبي)، فسألته فيها عن صاحبنا النقيب، فقال لي: أتعلم يا أبا عبد الله؟ حينما جِيء بالنقيب إلينا، نقلناه إلى المستشفى، فوجدنا في جسمه أكثر من خمسين شظية، فلا تكاد تجد مكاناً في جسده إلا وفيه أثر إصابة... وبعد العلاج جلس عندنا للنقاهة والراحة، كي تلتئم الجروح، وتتعافى الحروق والقروح...
سبحان الله! لقد ذكَّرنا بأنس بن النضر-رضي الله عنه-! حيث جاء عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-، قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ (يوم أحد) سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.
إلا أنه جاء الخبر أن العصابات الأسدية قد اجتمعت واتجهت إلى مدينة إعزاز، تريد قصف المدينة واقتحامها... فانتفض البطل النمر، وتهيَّأ للخروج، قلنا له: لا يا أخي أنت مصاب، فلا تذهب ففي الشباب هناك خير وبركة، فأبى وأصرَّ، وانطلق إلى مدينة إعزاز، ليدافع عنها، ويحمي أهلها... الله أكبر، الله أكبر، ما هذه البطولة؟! وما هذه التضحية؟!
وصل بطلنا مدينة إعزاز، وخاض المعارك بكل بطولة وبسالة، لقد جاء هذه المعركة، وهو يشعر أنها معركة مختلفة، معركة فريدة، لذلك ترك سرير النقاهة والتمريض، وأقبل على ساحات البطولة والفداء.
أجل! إنها معركة فريدة، بالنسبة إلى بطلنا النمر؛ لأنها آخر معركة له، لأنه فيها انتقل إلى الإله العظيم، وإلى الرب الرحيم، فقد استشهد في هذه المعركة...!!
ولكن كيف استشهد؟
اتجه المقاتلون الشرفاء إلى مبنى الأمن العسكري في إعزاز، المبنى الذي يلاحق الثوار ويطاردهم في كل مكان، المبنى الذي يمارس التشبيح والإذلال لأحرار المدينة...حاصروه مدة عشرين يوماً، قرر الثوار أن يتسلل اثنان منهم إلى المبنى ليقوما بتفجيره من الداخل...  تقدم الثوار إلى هذا المبنى، ولم يكن بطلنا خائفاً أو حريصاً على الحياة، فقد تقدم وجعل من نفسه درعاً واقياً لإخوانه... انطلق مع أحد زملائه للتسلل إلى داخل المبنى... فجاءته رصاصة من قناص، فاخترقت رقبته من جهة اليمين... فأسلم البطل الروح إلى باريها، وجاد النمر بروحه دفاعاً عن أعراضنا... أسأل الله الجواد الكريم أن يجود عليه بالقبول، وأن يرفع درجاته في أعلى علِّيين.
الساعة الثالثة: الأم وابنها الوحيد
حدثنا الشيخ محمد ياسر، فقال: أوصى شاب مجاهد في ربوع الشام زميله أن يُبلغ أمَّه التحية والسلام، ويستأذنها في البقاء مع المجاهدين طلباً للحرية والكرامة وردعاً للظلم والطغيان.
قال لزميله: سلِّم لي على أمي، وأبلغها أشواقي وتحياتي، وأخبرها أنني بخير وعافية، لن أعصي أمرها ولن أردَّ طلبها؛ لأنني ابنها الوحيد، فإن أرادت أن أعود إليها: أجالسها وأؤانسها في وحدتها ووحشتها رجعت، وإن أذنت لي في الجهاد في سبيل الله تعالى، والبقاء مع الشباب الذين نذروا أنفسهم، وتبرَّعوا بأرواحهم ودمائهم لله تعالى، فإنني باق معهم، أطلب الجنة، وأنشد ردع الظلام...
وصل صاحبه، وأبلغ الأمّ المسكينة التحية والسلام، وأخبرها برسالة ولدها الوحيد، قالت له: ابني لا يزال حيًّا؟ قال: نعم. قالت: رأيته بعينيك؟ قال: إي والله، وأنا جئت منه إليك، وقد حملني هذه الرسالة...
ذرفت الأم دموع الشوق إلى رؤية ولدها، تريد أن تضمَّه إلى صدرها... فهي تتطلع إلى لقاء وحيدها، ولكنها تستشعر أهمية أداء الواجب في حفظ الأعراض ونصرة المستضعفين... تجلدت أمام طلب ابنها وتصابرت تجاه قلبها المتفطِّر...فحمدت الله على سلامة وحيدها، ثم ردَّت قائلة: قل له ليبق مع إخوانه وزملائه المجاهدين، فقد وهبته إلى الله تعالى...ثم أجهشت في البكاء!!
الساعة الرابعة: الشاب المغامر:
خرج المصلون من جامع آمنة بعد أداء صلاة الجمعة، في سيف الدولة (حي من أحياء مدينة حلب الشهباء) الحي الذي كان سبَّاقاً في المظاهرات المناوئة للظلم والاستبداد، والدكتاتورية والطغيان، وفي نصرة المدن السورية المنكوبة.
خرجوا... فتلقتهم الشبيحة والعصابات الأسدية بالعصي الكهربائية والسياط... فمن صاح منهم: الله أكبر... انهالوا عليه بالضرب... تألّم فتى صغير لا يبلغ عمره عشرين عاماً، ثم ازداد ألمه حينما رأى المظاهرة المرتقبة صارت مسيرة مؤيدة للنظام المجرم.
فكر الفتى قليلاً!! ثم هرع مسرعاً!! دخل بين الشبيحة يهتف معهم، ثم طلب منهم أن يحملوه ليهتف لبشار والنظام، فلما علا ظهورَ الشبيحة راح يصدح: الشعب يريد إسقاط النظام... الله أكبر... الله أكبر... حرية للأبد...
انهال المجرمون عليه بالضرب بالعصي والهروات... والدم يسيل منه... وهو منطلق متابع تغريدات الثورة... حتى أنزلوه وسحلوه... وهو يضحك، حتى غدا جثة لا صوت له، ولا حركة من شدة التعذيب!!
الساعة الخامسة: نوَّر الله بصرك كما نوَّر بصيرتك!!
حدثنا أحد الناجين من الاعتقال، فقال: اُعتقلت في إحدى المظاهرات في مدينة حلب، ثم حُوِّلت إلى الأمن الجنائي، فرأيت عجباً، رأيت شاباً ضعيف البصر جدًّا، حتى لا يكاد يبصر شيئاً، رأيته وقد تورَّم رأسه ووجهه!
قلت له: ما هذا؟ ما هذه الأورام...؟ قال: خرجت في مظاهرة، ووقعت في أيدي الشبيحة، ففعلوا بي من اللَّكم والضرب والتعذيب... ما فعلوا...!!
قلت: يا أخي أنت معذور، أنت ضعيف البصر، ألا تخشى على نفسك؟ لماذا خرجت، وعرّضت نفسك لمثل هذا؟
قال: يا أخي إن الله استنهض الخفيف والثقيل، فكيف أقعد، ولا أنهض مع الثوار، والله تعالى يقول: "انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"؟!
قال أيضاً: يا أخي، نحن أسرة مؤلفة من أب وأم، وأربع بنات، وأنا الأخ الوحيد لهن، قال أبي: يا بني نحن اثنان، نتقاسم الأدوار، واحدٌ منا يخرج إلى التظاهر والصدع بكلمة الحق أمام هذا السلطان الجائر، وآخر يبقى مع النساء يؤدي واجب الحماية والرعاية.
قال: فخرجت أنا، فحصل ما ترى!!
الساعة السادسة: كيف اصطلحت دوما مع حرستا؟!
لم تكن العلاقات بين أهالي دوما وأهالي حرستا جيدة، فهي لا تخلو من منازعات ومشاكل لا تكاد تجد لها حلًّا، ولا يمكن أن تعرف لإصلاحها سبيلاً.
خرج أهالي دوما في مظاهرة حاشدة، وصمَّموا أن يتوجهوا مع المناطق الأخرى من دمشق وريفها إلى ساحة العباسين في وسط العاصمة السورية، انطلقوا، وهم يهللون ويكبرون، ويتغنون بأناشيد الثورة وزغاريدها... حتى اقتربوا من حرستا.
فماذا جرى؟
كان أهالي حرستا محاصرين من الشبيحة والعصابات الأمنية، فلما اقترب الدومانيون أصبح  الشبيحة بين ثوار دوما وبين ثوار حرستا، فراح الدومانيون يصدحون بكل ما أوتوا من قوة: الله أكبر...الله أكبر...الله أكبر...!! وبمثل ذلك صدح شباب حرستا...!! فلما رأى الشبيحة الأشرار أنهم وقعوا في حصار، هرعوا هاربين، يجرُّون ذيول الخيبة والخذلان والعار.
عند ذلك التقى أهل دوما بأهل حرستا، والحب يغمرهم، والسكينة تغشاهم، فتعانقت القلوب، وتآلفت الأرواح، وزال ما كان بينهم من صدأ وضغينة وخلاف، وانطلقوا جميعاً إلى ساحة العباسين.
وصدق القائل:
                   كونوا جميعاً يا بنيَّ إذا اعـترى  ***  خطبٌ ولا تتفرقوا آحادا
                   تأبى الرماحُ إذا اجتمعْنَ تكسراً ***  وإذا افترقْنَ تكسرتْ أفرادا

 

الشام اليوم

 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع