..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مرصد الثورة

ثلاثة صباحات من سوريا

محمد عبد الرشيد صوفي

١٣ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 9869

ثلاثة صباحات من سوريا
2.jpeg

شـــــارك المادة

سيبقى يومًا في ذاكرتي، وربّما في جينات أحفادي، إلى الأبد..
للمرّة الأولى.. سأرى تعريف الكرامة..
للمرّة الأولى.. أشعر أنّ كلّ ما كتبته فيهم لم يكن خيالاً.. أو مبالغة..


استيقظنا صباحًا عند السّاعة الثّامنة..
وتحرّكنا بعد نصف ساعة، إلى منطقة المخازن، حيث تُعبّأ القوافل الخيريّة من هناك.
وصلنا سريعًا، وتمّ التقاط بعض الصّور للوفد..
بعد ذلك استمعنا لشرح مفصّل من مشرفي الجمعيّة هنا (جمعيّة الكتاب والسّنة).
عن المساعدات وما تحتويه من حاجيّات للإخوة السّوريّين..
ما يميّز هذه الحملة أنّها اهتمّت بالنّواقص التي يفتقد إليها إخواننا على الحدود، فاحتوت المساعدات على: فرش - منظّفات - طرود غذائيّة.. وهكذا..
استعدّت القوافل وتمّ التّحميل.. بسم الله تحرّكنا..
يضمّ وفد حملة "شامنا تنادي": السيّد عايض القحطاني مدير مؤسّسة ثاني بن عبد الله للخدمات الإنسانيّة (راف)، والأخ محمد الإبراهيم رئيس حملة "شامنا تنادي"، وكذلك الأخ خالد الحمادي نائب رئيس حملة "شامنا تنادي"، والدكتور محمد الدسوقي، ومن القسم الإعلاميّ بمؤسّسة (راف) رافقنا الأخ إدريس أجمي، والأخ عمر السروري مصوّر الرّحلة، بالإضافة إلى ثلاثة صحفيّين من جرائد الشرق والراية والعرب..
في الطّريق إلى الشّمال.. حيث جنّة الأرض (سوريا)..
تزداد الأرض خضرةً.. كلّما اقتربت..
وفي القلب.. شوق يتشكّل في ثوب خاطرةٍ تحكي بعضًا منه..
يقولون: إن النّظر في وجوه الصّالحين رحمة.. فكيف بالثّائرين..!!
الحدود..
مجرد سياج من الأسلاك الشّائكة!!
والأرض هي الأرض..
تقف عند الرمثا.. فتشاهد مآذن درعا..
شامخة كأهلها..
وفي النّفس أمنية؛ لو تتمّ الخطوتان..
ويهتف القلب.. أنا في سوريا..
لكنّ الدّنيا (حلوة)!
أهل سوريا..
لا تراهم إلاّ مبتسمين..
رغم الذّكريات المؤلمة، وليل النّزوح الطويــل..
ورحلة النّزوح.. ليست هروبًا من الموت..
لكنّها حيلة الأرض..
ليبقى بعض الصّالحين فيها..
بعد ساعتين تقريبًا وصلنا إلى الرمثا..
قلبي بدأ بالخفقان.. وكأنّه أحسّ بالقرب..
وصرتُ أتفحّص وجوه المارّة.. أين أهل الحريّة والكرامة؟
وقبل الذّهاب للمخيمات؛ مررنا بموقعين تمّ تجهيزهما لاستضافة إخواننا الأحرار..
ثم توجّهنا نحو المخيّمات..
الرمثا مدينة حدوديّة؛ ملاصقة لدرعا.. وككلّ المدن الحدوديّة.. (على قد حالها)!
أوّل مخيّم زرناه.. للشباب السّوريّ الحرّ.. (مخيم رجال).
دخلنا المكان.. وفي القلب رهبة عظيمة.. وبتّ أقرأ الوجوه..
وأسلّم على كلّ أحد.. وأبتسم ابتسامة الذي رأى وجه أمّه بعد طول غياب..
وقال قلبي: أخيرًا رأيتهم!
دخلنا إلى حيث توجد الأغلبيّة منهم..
ولكم أن تتخيّلوا الحالة التي لا نقبلها عليهم والله: (لكن ماذا نفعل!!).
ما سكّن حزننا إلاّ ابتسامتهم الأبيّة.. وتفرّقنا لأخذ الأحوال والقصص..
لابدّ أن تعرفوا يا أحبّة..!!
أنّكم حين تزورون أناسًا بوضع كهذا.. لن تُفرش الأرض كلّها بالورود لكم..
ستجدون من يتحاشى النّظر إليكم؛ لأنّ نفسه تأبى عليه نظرة الشّفقة من الآخرين..
ستجدون نظرات عتابٍ مؤلمة.. نظرة يأس ربّما!!
وستجدون دائمًا.. الأخوّة الإسلاميّة؛ وهي التي من أجلها جئنا..
الشّباب هناك.. من درعا الأبيّة.. حمص الكرامة.. دمشق العزّة.. إدلب الإباء.. من كلّ سوريا الحرّة
قصص النّزوح مؤلمة..
ولكم أن تتخيّلوا مفارقة الوطن.. لمن لم يعرف غير الوطن!!
إنّهم لا يلتفتون إلى الوراء.. خوف أن يسمعوه مناديًا.. لمن أبقى إن رحلتم؟؟!
قالوا لنا بقلب واحد.. نحن لسنا لاجئين هنا..!!
لكن عندما نفدت الذّخيرة؛ كان هذا هو الحلّ الوحيد!
أعطونا سلاحًا.. ووالله لن تجدوا سوريًّا هنا!!
ويحكي أحد الشباب من حمص:
هذا النّظام أيقظ الفتنة الطّائفيّة.. ولم يترك لنا سبيلاً للرّجوع إلاّ بعد سقوطه..
أهل السّنة يُبادون.. والحرائر يُتعمّد اغتصابهن للإهانة فقط!!
وما أكثر مجرمي إيران وحزب الله هناك!
الجندي السّوريّ الذي لا يطلق النّار على أهله؛ يُقتل فورًا من قبلهم!
أخٌ من حمص.. أُصيب بخمس طلقات في يده وبطنه.. أثناء اشتباكات مع العدوّ..
يقول لنا بقلبٍ موجوع: لا أريد البقاء هنا.. أعيدوني لموطني كي أموت..
وقفت مع بعضهم.. وقال أحدهم: والله الدور جاي عليكم.. سيتمّ الهلال الصّفويّ والله!
ردّ عليه الجميع: (فشرت والله ويخسون هؤلاء)!!
سنفنى عن آخرنا دون ذلك.. الهمم عندهم عالية.. ولا عجب، فهم الأحرار!
قلت له: والله ثم والله.. لن يكون ذلك؛ لأنّ الله اختاركم أنتم لتكسروا هذا الهلال الخبيث.
ووالله.. سيبقى هذا العالم كلّه مدينًا لكم يا أهل سوريا إلى الأبد..
أنتم أهل الكرامة.. حقّ لكم أن تفخروا.. والكلّ يتمنّى الآن لو كان سوريًّا والله!
واعلموا.. أنّنا والله ما نسيناكم.. نتابع أخباركم لحظة بلحظة..
وأنّ لكم إخوانًا، النّساء قبل الرّجال هناك.. يتمنّون أن لو يفدونكم بأرواحهم!
لكن قاتل الله السّياسة وقوانينها!!
الكلمات كانت تؤلمني وأنا أخرجها كحشرجات مع الزّفير..
قبل الخروج.. رجل في الأربعين من درعا..
قال لي: أتيت منذ فترة و... لم يكمل! اغرورقت عيناه بالدّموع فخفْتُ أن أسأله عن أهله!
سألني عن إمكانيّة شراء نظّارة طبّيّة له!
وقد أوصونا هناك للأسف بعدم إعطاء أيٍّ كان شيئًا إلاّ بطرق رسميّة!
وجّهته للمدير وتحدّث معه..
خرجنا من هناك..
متوجّهين إلى مخيم العوائل..
وقد كان خالد - جزاه الله خيرًا - نبّهني على شراء الحلوى للصّغار..
فملأنا الأكياس.. ووصلنا للمخيّم..
عادةً ما يستقبلك على الباب.. أولئك الملائكة الصّغار..
الذين لا يعرفون ما هي الحرب!! ما هو النّزوح!! يبتسمون في وجه الموت!!
حقًّا إنّهم أحباب الله..
"مرحبًا يا شيخ" هكذا كان الصّغار يرحّبون بنا..
عند المدخل نهاني أحدهم عن توزيع الحلوى بحجّة أنّ الصّغار سيزعجونك!
تردّدت!! لكن خالد - جزاه الله خيرًا - قال لي: (ما عليك منه)! وفعلاً التمّ حولنا الصّغار وتوافدوا.. (ويحليلهم.. ياخذ ويبي بعد.. طيّب أنت أخذت)!
يجيبك بابتسامة المحرج: إنّها لأخي؛ فيردّ عليه صديقه: (يا كدّاب أخوك أخد)!!
ويأتي دور حبيباتي الصّغيرات.. ساجدة وأمل وبثينة..
في المخيّم.. مشاهد كثيرة.. الأطفال.. النّساء على الشّرفات..
وعبد الله.. صبيٌّ في الصفّ التّاسع..
نزح بمفرده من درعا، فأهله كلّهم معتقلون..
ابتسامته مشرقة..
نسيت أن أخبركم: التّصوير هناك ممنوع منعًا باتًّا!
خوفًا على حياة أهل أولئك النّازحين بالدّاخل؛ تخيّلوا إجرام هذا النّظام!!
تمنّيت لو أنّي أخذت صورة مع عبد الله!
أوّل ما رأيناه رحّب بنا وشكرنا.. ثم قال لنا: الكلّ يأتي لنا بالغذاء واللّباس.. فهل أحضرتم لنا مصاحف؟
نحن نعاني من شحّ المصاحف هنا!! قطّع قلوبنا والله بهذا السّؤال!
تمّ الاهتمام بالأمر كما يقولون؛ ولحظتها! تودّ لو كان كلّ شيء متوفّرًا حولك لتلبية كلّ طلباتهم!!
لكن للأسف.. النّظام هو النّظام!
أخذونا بعد ذلك إلى حيث يرقد أحد الأحرار، مصابٌ منذ ثلاثة أسابيع؛ من درعا.
دخلنا للسّلام والاطمئنان عليه.. وتمّ التّوجيه بنقله في أسرع وقت إلى المستشفى!
خرجنا من المخيّم.. يملؤنا شعور بالقهر والحزن والألم.. وما نملك؟!
أخذونا بعد ذلك في زيارات لبعض العوائل التي تمّ تأمين مساكن لها..
أوّل زيارة كانت لعائلتين تسكنان في قبو أحد المساكن..
لم يعجبني الدّخول على تلك العوائل بهذه الكثرة..
فلولا ظروف أولئك الأحرار لما رأى غريب طرف ثياب حرائرهم!! فرّج الله عنهم!
خرجْنا سريعًا.. وتوجّهنا إلى بيت آخر..
وهناك التقينا بهذه المجموعة الرّائعة من صغار الملائكة..
ماريا.. التي أشغلت الجميع بابتسامتها وترحيبها، وخصوصًا صاحبي محمد!
أهداها قطعة حلوى؛ فآثرت بها أختها الصّغيرة..
ليان.. جنات.. آية.. دلع.. أحمد.. عمار.. والأميرة لارا..
التي أشغلتني بها.. وانشغلت بي.. (ويا حلو تكشيرتها).
صديقي جمع الصّغار كلّهم.. وهتفوا بفرحة واحدة.. (رحْ تسقط يا بشار.. رحْ تسقط يا بشار).
وودّعناهم على ألم.. ودعوة من القلب..
بعد ذلك توجّهنا لمقرّ الجمعيّة هناك..
حيث ألقى أخي محمد كلمة جميلة جدًا في الصّبر والثّبات ومكانة الأحرار..
ثم خرجنا بعد ذلك إلى محلّ التّوزيع، ومن ثمّ إلى بيت أحد الإخوة هناك..
حيث الغداء.. أقام لنا مأدبة منسف.. جزاه الله خيرًا..
وقبيل الغداء.. سأل أبو عبد الرحمن - رئيس الوفد - أحد الإخوة: كيف الاستعداد للغداء؟؟
فأجاب: وأيّ نفس تجد الرّغبة في ذلك بعدما رأينا!!
جيء بالغداء.. فجلسنا..
وحكايا المعاناة كانت ترافقنا على الغداء!!
حكى أحدهم عن رجل له من البنات ستّ.. وقف بعد الصلاة في المسجد وقال لهم:
لديّ ستّ بنات وليس لي غيرهن.. استروا على بناتي!
نعم يا سادتي.. لهذا الحدّ وأكثر.. بلغ بهم الخوف على أهاليهم..!!
لهذا الحدّ.. وأكثر..!!
بعد الغداء جلسنا مع أهل البيت وهم من النّاشطين في المجال الخيريّ..
فحكى لنا الشّيخ بعض قصص النّزوح المؤلمة..
يقول: الجيش الحرّ يقوم بالمهمّة حتى مائة متر من أضواء الحدود الأردنيّة بين المزارع.. فيقول للأهالي: توكّلوا على الله.. لم يبق إلاّ اليسير..
في المرة الأولى كانوا ستين.. ولله الحمد وصلوا جميعًا..
وفي الثّانية.. تعرّضوا لإطلاق نيران من العدو.. فحدثت المأساة..
أُصيب من أُصيب.. وارتقى من ارتقى!
أطفأ الجيش الأردنيّ الأضواء فتاه الجميع في الظّلام..
منهم من وصل.. ومن اعتقل.. ومن ومن..
من المآسي.. وصول طفلين بدون أمّهاتهم!!
وصول زوج وأطفاله بدون أمّهم!!
بعد التقصّي عن أخبار بقيّة المجموعة علموا أنّه تمّ اعتقالهم جميعًا، رجالاً ونساءً وأطفالاً!!
ورُحِّلوا بعد ذلك إلى العاصمة.. ثم -ولله الحمد- أُطلق سراحهم جميعًا..
لأنّ الجيش الظّالم لا يريد تصعيد الأمور هناك في درعا!
تنفّسنا الصّعداء لهذا الخبر..
انتهى المجلس.. فأخبرني صاحبي محمد أنّنا سنذهب إلى مكان تحبّه!
ومضت بنا السّيارة.. حتى علمت أنّنا متوجّهون إلى الحدود..
حيث يمكن لنا رؤية الجنّة بالعين المجرّدة!!
ورأيت الجنّة..
درعا هناك.. شامخة كمآذنها الصّامدة..
في القلب ألم.. وفي العين دمعةٌ.. وفي النّفس أمنية..
وقفنا هناك بعض وقت.. التقطنا الصّور.. بكينا.. دعونا..
لن أصف لكم مشاعر الوقوف هناك..
حيث لا يحول بينكَ وبين نصرة إخوانك؛ إلاّ الضّعف والمسكنة.. على الرّغم من أنّهم أمامك!!
بعد قليل.. جاءتنا دوريّة للجيش الأردنيّ.. بشكل مربك.. خبّأنا الكاميرات..
سلّموا علينا بأدب، ثم سألوا عن سبب وقوفنا هنا.. والتّصوير..
أخبرهم الإخوة بالأمر.. وبعد مناقشات.. نجونا بما معنا..
المهمّ.. تحرّكنا رجوعًا إلى عمان.. نحمل معنا التّعب والحزن والألم على إخوان لنا هناك!!
عدد اللاجئين السّوريّين هنا يربو على الـ (١٠٠) ألف سوري!!
تحدّث معنا أخ من حمص - الخالدية - سُئل عن سبب نزوحه.. فأجاب: هُدم بيتي، ولم أجد مأوى لي ولأطفالي!!
تحدّث عن بعض المآسي أيضًا.. ولم يكمل؛ لأنّ العبرة خنقته على حاله.. لله أنتم يا أهل حمص!
بعده تحدّثت أم سورية في السّتين من العمر.. تفوح ثقافة وكرامة وحريّة..
سبب نزوحها هو خوفها على بناتها؛ لأنّ والدهم توفّي في الأحداث.. ولا عائل لهم!
تحدّثت عن تسليح الجيش الحرّ.. وقالت: هذا ما نريده!
نحن لن نبقى هنا.. ولن تتكرّر معنا مأساة فلسطين والله؛ فالموت أهون!
بجانبها ثلاث أخوات لم يتحدّثن حياءً..
فتحوّل الحديث إلى أخ من دمشق نزح خوفًا على نفسه وعياله.. لأنّه أصبح مطلوبًا..
وله هنا قرابة خمسة شّهور..
بعده أخ من دمشق أيضًا.. يقول إنّه كان منتميًا لحزب البعث طيلة حياته..
ولمّا بدأت الثّورة أرادوا أن يجعلوا منه شبيحًا من (العواينية) وهم الجواسيس..
يقول: بقيت معهم مدة ثلاثة أسابيع ثم أفقت من غفلتي.. ونزحت بأطفالي إلى عمان..
يستضيفهم هنا أحد الإخوة الأردنيّين..
وهذا حال معظم اللاجئين في عمان تحديدًا..
العوائل السّوريّة هنا..
تعاني من غلاء العيش في عمان..

وعدم توافر السّيولة الماديّة التي تمكّنهم من العيش فيها..
لذلك كان من ضمن مطالب الأخوات.. أنهم يريدون مبلغًا ماليًّا معيّنًا..
يضمن لهم الكرامة وعدم السؤال..
ومما يلفت النّظر أنّ الإخوة السّوريّين جميعًا.. مجمعون على وجوب شيءٍ واحد.. تسليح الجيش الحرّ؛ هذا هو العلاج للمأساة....
ثم تحدّثت حرّة من حماة.. أبكتنا والله.. تقول:
نحن أربع بنات مع أبي.. أخرجنا خوفًا علينا.. لم يبق لنا شيء هناك!!
نحن أبناء أرض الكرامة حماة..
نُباد على مرأى ومسمع من العالم للمرّة الثانية؛ ولا أحد يتحرّك!!
وقالت كلامًا كثيرًا لم أحفظه.. فألمي على أخت لي..
تعرض جراحها هكذا أمام الجميع؛ ولولا الحاجة لما فعلت ذلك أبدًا!!
انتهى بذلك الصّباح الأوّل من هناك.. من سوريا..
صباح الاثنين هنا..
وصباح الشّهادة هناك..
هذا اليوم.. ٧-٥-٢٠١٢.. لن ينساه قلبي أبدًا..
فقد كان لنا فيه موعدٌ مع أهل الجنّة..
عند السّاعة العاشرة توجّه الوفد للجمعيّة مرّة أخرى..
لإكمال توزيع المساعدات والإشراف عليها..
ثم تحرّك الجميع بعدها إلى حيث يُعالج الأحرار، مستشفى التخصّصي في عمان..
حيث كان البرنامج بدايةً.. لقاء مع مجموعة من الأطبّاء..
وكذلك السيدة أم عبد الله، المنسّقة بين المستشفى ونقابة المهندسين..
حيث قرّرت نقابة المهندسين هناك -مشكورة- تنسيق علاج الإخوة السّوريّين مع المستشفى التخصّصي بسعر التّكلفة.. بل إنّ الكثير من الأطبّاء يرفضون أخذ أجرتهم على العمليّات التي يجرونها.. نصرة لإخوانهم..
ثم كانت الزّيارات..
ومن لحظة دخولكم من بوّابة المستشفى..
ستشمّون رائحة الجنّة الزّكيّة.. وكلّما اقتربتم من غرفهم.. يزداد الجو تعطّرًا..
وقبل الدّخول عليهم.. قفوا قليلاً!!
فلا بدّ أن تمسحوا دموعكم وتجاهدوا تقاسيم وجوهكم..
لرسم ابتسامة من الثّلج.. لا تذوب مع نار الحرقة في القلب..
حين تسمعون القصص والمآسي هناك..
وحقًّا كما كنت أعتقد.. للأحرار ابتسامةٌ مختلفة.. تمامًا!
كلّهم يبتسمون.. يبتسمون فقط.. ويحمدون الله..
وهنا!!!
سأتوقّف قليلاً.. فالألم لا يوجد حرف استطاع تصويره أبدًا.. مهما بلغت بالكاتب فصاحته..
وقصصهم.. لن تترجمها لكم بعض حروفٍ هنا..
فتعابير وجوههم كانت تقول المأساة كلّها قبل أن تنطق الحروف!!
بدأت الرواية بمحمد..
صبيٌ في السّادسة عشرة.. من حمص..
على فمه ابتسامةٌ.. قرّرت أن تعيش الخلود هنا..
كان واقفًا أمام بيته.. يبتسم للعصافير.. وإذ رصاصة غادرة تخترق ظهره..
فيسقط مكانه.. ويُحمل للعلاج.. ثم يُرحّل للأردن..
والنّتيجة.. شلل كامل في أطرافه السّفلى.. !!
أمّه تبكي شباب طفلها.. وهو يبتسم ويحكي لنا أنّه سيَشفى -بإذن الله- ويعود ليكمل الكفاح..
الوقت يمضي بنا.. ولا بدّ من المرور على الجميع..
مع أنّنا تمنّينا لو نبقى يومًا كاملاً بجانب كلّ واحد منهم.. كانوا دروسًا في الرّضا واليقين..
وهكذا.. مع كلّ زيارة.. وقصّة.. دمعةٌ ودرس للحياة..
****
انتهت الزّيارة للمستشفى..
بعدها تحرّكنا لزيارة بيوت الجرحى.. وهي مساكن لجرحى الأحرار..

ممّن أنهوا فترة علاجهم المستعجلة؛ ولم يبق لهم إلاّ بعض المراجعات في المستشفى..
استقبلونا بكلّ حفاوةٍ وفرحة..
كمن يزورهم صباح عيدٍ في ديارهم.. وكأنّهم لم يعرفوا الألم يومًا..!!
بدأ بالحديث معرّفًا عن نفسه..
عميد الجرحى السّوريّين في الأردن.. وأول دمٍ يهراق في أرض درعا الأبيّة..
رحّب بنا ترحيبة الكرام.. وأنشدنا قصيدتين في إباء درعا.. فاخرتين كما هم أهلها..
ثم حكى لنا قصّته مع النّظام البائد.. اعتُقل وكُسر عنق الفخذ عنده.. لذلك يتحرّك بصعوبة..
وكان لابنه.. نفحةٌ من روح الإباء التي تفوح منه.. فقد أنشدنا هو أيضًا قصيدة كأبيه.. وكأنّه كان تنبيهًا لنا.. أنّ الثّأر لن يموت.. والأجيال لن تنسى!
بعدها انتقل الحديث للبقيّة.. واحدًا واحدًا..
ما بين إصابة قنّاص.. وجروحٍ بسبب التّعذيب في المعتقلات..
والقصص متشابهة.. كتشابه ابتساماتهم..
لكنّ الألم كلّه تجسّد في قصّة نزوح لأحد الجرحى الأحرار..
كان ناشطًا في دمشق.. جاءه الخبر أنّه مطلوب.. فاختبأ في مصنع لأحدهم..
ثم اعتقلوا أصهاره ليأتي.. فرفض.. وبعد قليل من اتّصالهم به.. اقتحموا المصنع..
فهرب من الجهة الأخرى.. وتمّت مطاردته من قبل الجيش والشّبيحة.. يقول لنا:
سبحان الله.. لن أبالغ إن قلت إنّه تمّ إطلاق أكثر من (٤٠٠) رصاصة باتّجاهي.. لكن لم يكن الأجل قد حلّ!!
توجّهت بعدها إلى درعا.. وبقيت هناك ليلتين.. عند أحد الفضلاء ممّن يعدّ العوائل للنّزوح..
ثم كانت الليلة التي لن أنساها.. ليلة النّزوح..
تحرّكنا في مجموعة لا تقل عن (٤٥٠) شخصًا.. وأغلبهم من النّساء والأطفال..
يرافقنا مسلّحان من الجيش الحرّ.. تقدّم أحدهم المجموعة.. وبقي الآخر في مؤخّرتها..
حتى وصلنا إلى منطقة الحدود.. ولم يبق إلاّ العراء نجتازه لنصل إلى الحدود الأردنيّة..
أشار لنا - جنود الجيش الحرّ - إلى أضواء القوّات الأردنيّة.. وقالوا: ستكونون هناك بأمان..
تحرّك النّاس.. وأنا منهم.. في الظّلام الدّامس.. ولا تسمع إلاّ همسًا..
بجانبي رجل وزوجته بطفليهما.. ولد وبنت.. من حمص..
قلت للمرأة: هاتي طفليكِ أختي، وخذي كيسيَّ.. فأعطتنيهما ومشيْنا..
في منتصف الطّريق.. سمعنا فجأة!!
اشتباك!!!
وإذا وابل من الرّصاص ينهال علينا.. من أين لا ندري!! ولكم أن تتخيّلوا المأساة..
أُطفئت أضواء القوّات الأردنيّة.. فازدادت المأساة.. ولم نعد نعرف طريقًا للهروب من الموت!!
يقول: انبطحت فور إطلاق الرصاص.. بدأت بالزّحف.. ولا زلتُ ممسكًا بالطّفلين!!
يعلم الله.. كم من الرّصاص سقط بقرب رأسي.. وزحفت!
كنت أتحاشى في كلّ ذلك أن يُصاب الطّفلان، فأصابتني رصاصة تحت عيني.. ولا يزالان متشبّثين بي..
سكتّ قليلاً.. وهو يسترجع الذّكرى المؤلمة.. يقول:
قال لي الطّفل كلمة فجّرت كلّ البراكين في صدري.. (منشان الله يا عمي؛ ما بدي موت)!!
أسرعت بالزّحف على ركبي.. وإذا رصاصة أخرى..
تتّجه نحونا.. وتستقرّ في رأس الطّفلة.. وهي لا تزال على صدري!!!
وضعتها في الأرض.. وأكملت الطّريق!!.. فالموقف أكبر من ذلك..
هدأ ضجيج الرّصاص قليلاً.. وبدأت حينها أحسّ بألم في كلّ جسدي..
لقد أُصبت وأنا لا أدري!!.. والطّفل متشبّثٌ بي حدّ الالتصاق!!
أكملنا الطّريق.. لا ندري إلى أين..!!
توقّفنا قليلاً.. أقصد من بقي.. وبجانبي الأب..!! سمع بعد قليل زوجته تصرخ باسمه..
فأخذ معه رجلين آخرين وتوجّه نحوها.. سمعنا صوت إطلاق نار.. ولم يعد أحد!!
في تلك اللّحظات.. كنت ومن معي في حيرة..
هل نكمل الطّريق ونحن لا نأمن الألغام المزروعة في الأرض؟؟.. أم نستسلم لقوات النّظام البائد!!
قرّرنا (الموت ولا المذلّة)..
واتفقنا أن نتحرّك مجموعة مجموعة.. كلّ مجموعة من خمسة أشخاص!!
ومع المجموعة الأولى تحرّك الجميع.. فالكلّ يريد النّجاة!!
وصلنا بعد قليل إلى الأراضي الأردنيّة، بانتظارنا الجيش الأردنيّ..
هدّؤوا من روعنا.. وقالوا: أنتم الآن في أمان!!
عدد الذين وصلوا تلك الليلة.. والنّاجين من تلك المجزرة.. (٥٥) فقط!!
والبقيّة بين شهيد ومصاب ومن عاد أدراجه.. ومعتقل!!
وتضاربت الرّوايات في تحديد العدد..
قيل إنّ المعتقلين وعددهم (٤٠)؛ تمّت مبادلتهم بضابط من النّظام كان أسيرًا لدى الجيش الحرّ.
وقيل إنّ عدد الشّهداء (١٧).. أو يزيدون.. وهكذا.
سلّمت الطّفل للجنة اللاجئين.. وأنا لا أعرف اسم أبيه أو أمّه!!
تمّ ترحيلي بالإسعاف إلى المستشفى..
سألوه عن بقيّة أفراد أسرته.. قال: لي ابن معتقل تمّ تعذيبه وحقنه بإبرة عدم إنجاب..
وكذلك أبناء إخوتي.. وإخواني.. كلّهم في المعتقلات..
يقول لنا: والله لم نهرب من الخوف.. إنّما كان السّبب هو ضعفنا!!
*****
القصّة الأخرى التي ستسكن خلايا الألم في الذّاكرة!!
فتًى في السّابعة عشرة.. من معظمية الشام..
أدرج اسمه ضمن المطلوبين بعد مشاركته في المظاهرات السلميّة..
ولأنّه كذلك.. لم يكن ينام في بيته.. حاله حال كلّ المطلوبين..
اعتقل النّظام الحقير أباه.. ليساوموه عليه.. قالوا له: سلّم نفسك، وسنفرج عن أبيك!
تردّد.. واستشار أصحابه.. أخبروه أنّ هذا لن يحدث.. ولن يفرجوا عن أبيك!! فلا تذهب..
اتّصل عليه - المجرمون - مرةً أخرى ليعرفوا جوابه.. فقال لهم:
ما رحْ سلّم نفسي.. بدّكم أبي؟.. تتهنّوا فيه.. لو مات بيكون شهيد!
يا إلهي!! أيُّ قلبٍ يتحمّل ألم هذا الفتى!!
يقول: وبقيت أشارك في المظاهرات كعادتي.. حتى قبض عليّ وأنا أحاول إنقاذ زميل لي!
أُخذت إلى معتقلات الفرقة الرابعة، وهناك قالوا: بدّك أبوك يطلع.. أجبتهم: نعم!
فأتوا بأبي.. ثم نزعوا الغمامات عن أعيننا.. وعذّبوه أمامي.. وعذّبوني أمامه..
سأله أحد الإخوة: كيف عذّبوكما؟ أجاب: كانوا يضربون أبي بالروسيات وأكعاب البنادق.
وبالكهرباء.. وكذلك فعلوا بي..
أبي لا يستطيع مدّ رجليه؛ لأنّهم كانوا يطعنونه في الرّكبة!!
ثم أخرجوني بعد فترة..
ضمن محاولة للنّفاق أمام وسائل الإعلام.. وبقي أبي هناك.. ولا يزال!! منذ عشرة أشهر..
في اليوم الثّاني لخروجي من المعتقل.. اقتحموا بيتنا..
فخرجنا من الباب الآخر، أمي وأختي الصّغيرة وأنا.. نهبوا وكسروا، ثم أحرقوا البيت..
وتركوا ورقة صغيرة.. لأمّي!
أنّه لو لم تسلّمي ابنكِ.. سنقتله مباشرة إذا اعتقل!
قرّرت أمي حينها إرسالي إلى الأردن.. وهكذا أنا منذ أتيت!!
****
التقينا كذلك بأحد الإخوة، من جسر الشغور.. حكى لنا بعض معاناته..
وهو من عائلة كبيرة معروفة بالشام..
ومن العوائل التي تعرّضت للأذى منذ ثمانينيّات القرن الماضي..
هو ظلّ مختبئًا لستّة أشهر عند أحد أصحابه العلوية ثم نزح إلى الأردن!!
قتل الكثير من أهله.. وابنه اعتقل وأُصيب..
ونزح بقيّتهم لسوريا..
ثم حدّثنا عن أمّه العجوز.. تركها وحيدة في القرية!!
خنقته العبرة حين تذكّرها.. وأجهش بالبكاء.. فأبكى الجميع معه..
*****
هذه القصص وغيرها الكثير مما سمعناه..
وتعابير الوجوه أبلغ حديثًا من كلّ الحروف التي تُقال هنا وهناك..

انتهت هذه الزّيارة.. ثم أعقبها بعض زيارات لعوائل الجرحى.. والسّلام عليهم..
التقينا هناك بأخ من سوريا.. وُلدت له بنيّة في الأردن.. عمرها ثلاثة أشهر..
الجميل في القصّة أنّه سمّاها (شمس الحريّة).. ويقول لنا: بإذن الله سيكون عرسها في سوريا..
فمازحه الأخ محمد قائلاً: طوّلتها كذا.. بل قلْ: بإذن الله ستمشي في سوريا.. ابتسم بمحبّة وقال: إن شاء الله..
بعد ذلك كانت استراحة الغداء.. وانتهى الصّباح الثّاني.. من سوريا
****
صباح الثلاثاء..
وشمسٌ تشرق بوداعٍ يتألّم له القلب..

هل بعد القرب.. نبتعد!!
نرحل إلى حيث الأمن والأمان.. تاركين خلفنا إخوة في العقيدة.. خائفين!!
كان صباحًا حزينًا بمعنى الكلمة!!
فطور سريع، وزيارة أخيرةٌ للجمعيّة.. ثم الذّهاب إلى المطار..
أنهينا الإجراءات.. أقلعت الطّائرة.. ووصلنا الدوحة ليلاً بسلامة الله وحفظه..
وبعد الذي شاهدناه هناك.. أقول: ربّما يلزمنا ألف يوم ويوم.. ليخفّ الألم.. وربّما أكثر.
لكن.. يبقى السّؤال: ماذا قدّمنا لسوريا؟

المصدر: الإسلام اليوم

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع