الشرق الأوسط
تصدير المادة
المشاهدات : 4484
شـــــارك المادة
"يوم السبت في الثامن من شهر مايو (أيار) الماضي، داهمت قوة مؤلفة من 10 جنود بكامل أسلحتهم منزلنا الكائن في مدينة بانياس. كنا -والدي وأمي وأنا- في المنزل، قال لنا أحدهم: الضابط يريد رؤيتكم لمدة خمس دقائق.
فذهبنا معه أنا ووالدي لنجد أنفسنا ضمن ما يقارب 4 آلاف رجل، راكعين إلى الأرض مطأطئي الرؤوس، وقد عصبت أعينهم وقيدت أيديهم خلف ظهورهم. وضعنا في باصات نقلتنا إلى الملعب البلدي، الذي تحول اسمه عند أهالي بانياس إلى المسلخ البلدي بعد هذه الحادثة، لتبدأ أسوأ تجربة عشتها على امتداد سنواتي الخمس والعشرين".
هكذا يتذكر محمد ما جرى معه وكأنه حصل في زمن آخر. يبدو شارداً ولكنه دقيق في تذكر الأحداث، يحمل معه صورة لقدميه المدميتين وكأنه يريد دعماً ما لذاكرته يقيها من النسيان. ويكمل حديثه: "دخلنا إلى بهو الملعب، لمحت والدي يتلقى صفعة على وجهه بعد أن رد على إهانة وجهها إليه أحد العناصر. كانت تلك آخر مرة أرى أبي فيها خلال الأربع والعشرين ساعة القادمة.. ركعنا على الأرض مطأطئي الرؤوس وأيدينا مقيدة خلف ظهورنا، وقام الأمن بعصب أعيننا، كل ما كان في رأسي وقتها هو صورة والدي وهو يتلقى صفعة، كنت شديد الغضب حتى شعرت بالاختناق، لأول مرة في حياتي عرفت حقاً معنى العجز". يضيف محمد: "كنت أتلقى اللكمات والإهانات دون أن أجرؤ حتى على الرد، ولم يكن يصدر مني أي صوت، سوى أن دموعي كانت تنهمر وحدها من تحت العصبة. بقينا لمدة أربع ساعات متواصلة راكعين ومطأطئي الرؤوس، دون أن نعلم ما الذي قد يحدث وإلى ما سيؤول مصيرنا؟ أربع ساعات نسمع الشتائم وصراخ الذين يتم تعذيبهم، دون أن يوجهوا لنا ولو حتى سؤالاً واحداً.
كانوا يضربوننا بشكل عشوائي وكيفما اتفق، تلقيت عدة ضربات على ظهري بالهراوات، كما صفعني أحد العناصر على وجهي مرات عدة ومتتالية حتى بدأ الدم يخرج من أذني وأنفي وفمي، وحين سقطت على الأرض قاموا بالدوس على رأسي، وسألني: من أسيادك؟ ولم أفهم السؤال!
فعاد إلى ضربي مجدداً، ووضع قدمه على رقبتي ولم يرفعها حتى قلت له: آل الأسد.
بقربي سمعت أحدهم يسأل شخصاً آخر من المعتقلين: من ربكم؟ ولم يتوقفوا عن ضربه حتى قال لهم: بشار الأسد، واستمروا في ضربنا، وأخذ أحدهم يصرخ بنا قائلاً: الله ربكم، وبشار ربنا وسنرى من سينتصر في النهاية". يكمل محمد قصته ويقول: "طلبنا منهم الماء، فأتوا بعبوات المياه وأخذوا يرشوننا بها على رؤوسنا ولم يسمحوا لنا بالشرب، وبعد ست ساعات على هذه الحال أوقفونا، وبدؤوا بأخذ أسمائنا. بقينا واقفين لنحو الساعتين، طلبت خلالهما دخول الحمام أكثر من عشر مرات، وفي النهاية قالوا لي: (فلتبل في ثيابك)، وبعدها بدقائق أخذوا بعضاً منا للحمام، وهناك فكت العصبة عن عيني، فطلبت من أحد العناصر أن يربطها لي، فقام بضربي على قدمي من الخلف بخشبة عريضة كالتي تستعمل في أعمال البناء.. عند الضربة الثالثة وقعت على الأرض، فقام عنصر آخر بضربي على بطني برجله قبل أن يعيد ربط العصبة على عيني، وقال لنا أحدهم: (تريدون أن تسقطوا النظام؟ إن الله لا يستطيع ذلك، ألا تعلموا أن بشار الأسد هو من نصب الله إلها)؟ وهنا، ساقونا إلى غرفة في الملعب تحت المدرجات معدة للرياضيين ولا تتسع لأكثر من 100 شخص ولكنهم وضعوا نحو الألف منا فيها. جلسنا على الأرض وأجلسونا بعضنا خلف بعض بشكل خطوط ليفتحوا ممرات للدخول، بعضنا تبول في ثيابه بعدما رفض الأمن أخذه إلى الحمام. ولكن أبشع ما حدث معنا هو حين قامت مجموعة منهم بخلع سراويلهم ليبولوا علينا وهم يشتموننا ويسبوننا، وفجأة لقم أحدهم بندقيته ووجهها صوبنا، لم أعد قادراً على رؤية شيء سوى فوهة البندقية، متخيلاً شكل الرصاصة التي ستخرج منها وتصيبني، فكرت في والدي وإن كان ما زال حياً، عاد إلي صوت والدتي وهي تدعو لنا: (الله يحميكم ويرجعكم سالمين)، وبدأت أردد: يا الله يا الله". بقي الوضع على هذا المنوال حتى الثامنة من صباح اليوم الثاني، يقول محمد: "حين دخل ضابط في الجيش وبدأ بتلاوة أسماء أطفال تحت السادسة عشرة من العمر ومسنين فوق الخمسين من العمر، وقاموا بالإفراج عنهم".
ويتابع: "بعدها بساعتين عاد الضابط وقرأ اسم 70 شخصاً وأقتادهم دون أن نعرف وجهتهم. قيل لنا: إن هؤلاء مطلوبون في حادثة رأس النبع التي أعلن التلفزيون السوري عن وقوع شهداء للجيش فيها بعدما تعرضوا لكمين، والحقيقة كما يعلمها كل أهالي المنطقة هي أن الأمن أطلقوا النار على عناصر للجيش بعدما رفضوا أوامر بإطلاق النار على المدنيين. بعدها لم يقترب أحد منا طوال ساعات حتى قاموا بالإفراج عنا على دفعات. لم أكن أستطيع السير، كانت قدماي تؤلماني وقد تحول لون الجلد إلى الأحمر القاني بعدما تورمتا إثر نزيف داخلي فيهما، فقام جيراني ممن كانوا معتقلين بحملي وأوصلوني إلى البيت". يضيف محمد بكثير من الألم: "كانت رائحة البول تفوح مني، وأذناي ممتلئتان بالدم، وقد فقدت القدرة على السمع بالأذن اليسرى لعدة أيام، قبل أن تتحسن تحت تأثير العلاج.
وصلت إلى البيت منهكاً، دموعي تنهمر وكأنها تحاول غسل المشاهد العالقة في عيوني، قبلتني أمي وخلعت عني ملابسي، بينما قام والدي الذي أفرج عنه سابقاً بتقبيل يدي وفرك جسدي بالماء من أجل تنظيفي. وبعد أسبوع، استطعت أن أعاود المشي بشكل بطيء، فأصر والدي على مغادرتي البلاد بينما أنا قادر على ذلك، وبالفعل هذا ما كان، وها أنا ذا أجد نفسي في بلاد لا أعرفها، مفتقداً طعم الحرية التي تذوقتها هناك في مدينتي على مدى عدة أسابيع كنا نخرج فيها للتظاهر من أجل إسقاط النظام". تدمع عينا محمد وهو يظهر آثار الضرب على قدميه، تذكرت جملة للروائي ميلان كونديرا: "إن صراع الإنسان ضد السلطة، إنما هو بالدرجة الأولى صراع الذاكرة ضد النسيان". هذا ما كان يفعله محمد عندما كان يروي قصته.
نيوز سنتر
فرنس برس
حذيفة عبد الله عزام
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة