الأمة وثقافة الانهزام

الكاتب : رقية القضاة
التاريخ : ٩ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 5481


الأمة وثقافة الانهزام

منذ أن استخلف الله الإنسان في الأرض، وأقامه فيها لعبادته وإعمار أرضه، سخّر له كل ما فيها لكي يفكر ويستنتج، ويعمل كل ما من شانه أن ينفعه ويجعل من الأرض مستقرّاً صالحاً للعيش الطيب، وتتابعت الرسل والرسالات على الأرض لكي يظل الإنسان مرتبطاً بالله، حاكماً بشرعه ونهجه الذي ارتضاه له، وتنوعت وتعاقبت الأمم كذلك في سلّم الحضارات، فمنها حضارات عاشت وأمدت البشرية بأنماط من الآثار المتباينة، ومنها ما خلّده التاريخ لحسنه ونفعه للبشرية، ومنها ما ذهب أدراج الرياح، ونسيه التاريخ وأسقطه من حسابه فطواه النسيان.

ولأننا أمة لها من الحضارة والتميّز ما يضعها في قمّة سلّم الأمم، بفضل عقيدتها البنّاءة، وشريعتها المرنة، ومنهجيتها في التفكير الإبداعي القائم على تحرير العقل وإطلاق القدرات الفاعلة، والحث الدائب على العمل الجاد الدؤوب لكل ما فيه مصلحة الإنسان، دون النظر إلى ما بين البشر من التباين العقائدي والاجتماعي والعرقي، وذلك لأن الإنسان في هذه الحضارة مكرم كإنسان، فإنه لمن المؤسف أن يتراجع أداؤنا، ويضعف دورنا، ولكننا أبداً لن نتلاشى وأبداً لن تغيب شمسنا بإذن الله وبما أن الدوام والاستمرارية على نفس الحال من القوة أو الضعف من المحال، فإن ما يعتري الأمة المسلمة اليوم من التراجع الحضاري أمر طبيعي ناجم عن عدة عوامل، لعل أبرزها تهميش دور الدين في حياتنا العامة والخاصة، وانشغالنا بالفرعيات والجزئيات والمسائل الخلافية، إضافة إلى تكالب الأمم علينا، وإشغالنا بحروب دائمة منهكة ومتتابعة، ممّا جعل جهد الأمة موزّعاً على أكثر من صعيد، إلا أنّ هذا لا يستدعي التوقف المتهاون عن العمل الدائب في مشروع الأمة النهضوي، والسعي إلى استرجاع كرسي الأستاذية، الذي ظل ولقرون طوال ملكاً لها تتوارثه جيلاً بعد جيل، كما أنه لا يعني أبداً أن نتيح المجال للمحبطين والناعبين على الخراب، أولئك الذين يبثون في أجيالنا ثقافة الانهزام وروح اليأس والاستسلام لثقافة ومنهجية شرعة الآخر، وهو ما يسعى إليه ويبتغيه كل أعداء الأمة، وهو ما نلمسه أيضاً من تكالب الأمم على أمة الإسلام لإيهانها وإفناء فكرها ومقومات نهضتها. وإنه لمن الخطأ الشنيع أن ترتفع هنا وهناك أصوات تندب حضارتنا، وتنعى وجودنا، وتضعنا جنباً إلى جنب مع الحضارات البائدة والأمم المندثرة، وهي دعوات تتباين أهدافها وتتعدد مصادرها، فمنها تلك الأصوات المشفقة التي ظنّت أن الأمة في طريقها إلى الفناء الحضاري، كنتيجة حتمية لبعدنا عن تعاليم الله، وعدم أخذنا بأسباب التقدم، وضعف التأثير في الآخر، بل ومسارعتنا إلى السير في ركابه، وهي معطيات من وجهة نظر المشفقين تنذر بالضياع إن لم تكن ضياعاً حقيقياً، وهنا تبدأ الآراء المتشائمة والتفسيرات المحبطة والدعوات المستسلمة لتصل إلى أجيال الأمة جيلاً فجيلاً، وتتناقل الأمة الفكر الانهزامي كواقع لا مفر منه، ووضع يصعب التخلّص منه، وتنطلق الأفكار الاستسلامية في دعوة صريحة للأمة أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان فلنجلس وننتظر ما يأتي به المستقبل، والذي هو أيضاً من نفس وجهة النظر قاتم ولا يبشر بخير، ومن هناك تنطلق أصوات الظلام تفح وتنفث سمومها في أوساط الأمة التي تعرف أنها ضعفت وتدرك أنها تراجعت وتعي أنّ واقعها لا يسرّ ولا يرضي، فتسمع أصواتاً هنا تلقي باللائمة على الدين ككلّ، لكي يتسنّى لها الوصول إلى نقطة اتهام الإسلام بالتحديد، كعقيدة وشريعة، بالتخلف الحضاري الذي وصلت إليه الأمة، فالدين هنا أفيون الشعوب حيناً، ومشاعر صبيانية حيناً آخر، وإيديولوجيا متحجرة تتلاعب بمشاعر الناس، وتحجر على أفكارهم، وهو في أحسن حالاته قيد اضطهادي يحجم دور المرأة، ويقيد مشاعرها، ويجعلها جارية مملوكة للرجل، وهو أيضاً سبب الحروب، ومثير الفتن بين بني آدم كلّهم في الشرق والغرب، وهذا كلّه يتم وفق برامج محددة الهدف خبيثته، واسعة الأساليب متعددتها ومتطورتها، بل لربما وضعت كل الإمكانات في خدمة برنامجها المدمّر للأمة، وفي حرب ناعمة حيناً وشرسة أحياناً، يهاجم الإسلام ويغزى في قلوب أبنائه وأفكارهم، ويسعى أعداؤه إلى تدميره بكل قيمه ورقيّه وواقعيته وإيجابياته، فالحرب الحقود لا تتوقف، والوسائل المؤثرة لا تنفك تسفر عن كل جديد وخبيث، كل هذا ونحن نسهم في مسح أدمغة أبنائنا، ولا نضع لأنفسنا منهجاً يساعدهم على التعرف إلى مقوّمات حضارتهم وروعة تاريخ أمتهم ورحابة دينهم وقدرته على استيعاب الكون بما فيه ومن فيه، كل ذلك في نسق إنساني وحضاري وعقائدي راق وبنّاء ومتفهّم.
حقاً يكفينا تباك على ما فات، واستسلام للوهن والخور، ورضا بكل ما يقذفه لنا الغرب والشرق من تفاهة الفكر وانحطاط الأخلاق واستهانة بالدين، ولنركّز على استعادة ثقة أجيالنا بالمستقبل، واتخاذهم من دين الله سبباً ووسيلة للرفعة والعزة، ومن ماضينا البديع وصنّاعه المبدعين قدوة ومثالاً، ولنحي في الأمة روح الحرية والكرامة التي لم تتحقق لأمة من الأمم كما تحققت لأمة الإسلام، تلك الروح التي جعلت البسطاء يتصدون للخلفاء فينزلون على رأيهم الصائب دون أن يشعر الخليفة بالصغار والمهانة، ولنزل ركام الوهم الذي غرسه فينا أعداؤنا، حين أوهمونا بأن شمسنا أفلت وأن زماننا ولّى وأن حضارتنا محض وهم زال ولن يعود، ولنتحدّث إلى أمتنا والدنيا بأسرها بلسان الحق الواضح الجلي، أليست هذه مآذننا التي تصدح في كل بقاع الأرض بالوحدانية؟ أوليست هذه الجموع التي تدخل جماعات ووحداناً في الإسلام كل يوم هي رافد غزير وشاهد حيّ على بقائنا ونمائنا وحياتنا المعطاءة للإنسانية ؟
يا أمة الإسلام وارثة أنت للأرض ومنصورة أنت في الأرض ومقيمة أنت لشرع الله في الأرض، فلا تقعدنك الكبوة، ولا تردنّك الهفوة، ولايستضعفنك المرجفون، ولا يثنينك عن خوض غمار المعالي وهن الموهنين.

 

المصادر: