فى كلس التركية.. كل الطرق تؤدى إلى حلب

الكاتب : داليا شمس
التاريخ : ٢١ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 7190


فى كلس التركية.. كل الطرق تؤدى إلى حلب

أشجار اللوز والكرز والزيتون تنتصب فى خلاء كامل بطول الطريق من مطار غازى عنتاب إلى مدينة كلس الحدودية، جنوب شرق تركيا وشمال حلب... لا شىء ينبأ بأن هذه البلاد تشهد لحظات تحول مواطنين سوريين إلى لاجئين، وصل بعضهم إلى تركيا منذ شهور وأيام، وقد جاوز عددهم المائة ألف رسميا، أما على أرض الواقع فهم يفوقون ذلك بكثير، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المتسللين الذين عرفوا قسوة البرارى والبرد والرصاص. تشابه اللجوء يجمعهم... فماذا يفعلون باليأس؟

 

مدخل المدينة ببناياتها وقد زينت بعضها وحدات الفسيفساء ومساجدها القديمة التى يرجع تاريخ بعضها للقرنين السادس عشر والتاسع عشر يذكرنا بهويتها العربية، فقد أخضعتها تركيا وفقا لمعاهدة لوزان، بعد أن تناوب السيطرة عليها كل من العرب والبيزنطيين منذ القرن الخامس، حتى أصبحت المنطقة خاضعة للعثمانيين فى القرن الخامس عشر.

وهو ما يفسر إحساس السوريين الذين أتوا إليها مؤخرا عندما يقولون «أنت فى كلس وكأنك فى حلب!»، طبعا لا يمحو ذلك شعور الغربة والمرارة، ولكنها على ما يبدو جملة «تطمينية» يطلقونها كلما اشتدت بهم الظروف أو طال بهم الأمد، فبعضهم نجح بالفعل فى إيجاد فرص عمل داخل المدينة ولكن بأجور أقل ودون تأمينات أو حقوق، والبعض الآخر فرض حاله بشكل أفضل لامتلاكه المال اللازم، وخاصة الذين دخلوا بصفة رسمية أو بجواز سفر نظامى وتنتشر سيارتهم الحديثة بالشوارع ومسجل عليها «ملاكى حلب أو دمشق».

ارتفعت الإيجارات، خاصة بعد نزوح العديد من أهل حلب على مدى الثلاثة أشهر الأخيرة، فالشقة التى كانت تساوى 100 ليرة شهريا أصبحت تستأجر بـ1000 ليرة.. كما تبدلت أحوال فنادق كلس الأربعة، فزادت تسعيراتها بعد الإقبال عليها سواء من النزلاء السوريين أو الصحفيين الذين يتوافدون لتغطية الشأن السورى وعبور الحدود أو تفقد أحوال مخيمات اللاجئين على الأطراف.

فندق «اسطنبول» على سبيل المثال تضاعفت أجرته لتصل إلى أربعين وخمسين دولارا فى الليلة، رغم تواضعه الشديد.. بطاطين ذات ورد ملونة، وسرير يحمل فوقه اتجاه القبلة، وشبشب أزرق «مريب» وضع إلى الجوار ليتناوب عليه الزائرون.. أما صاحب الفندق الذى تجاوز الثمانين فيجلس فى البهو الصغير تحت رسومات أهداه إياها الزبائن تصوره بهيئات مختلفة ونياشين ينافس بها أتاتورك الذى تزين صورته الجدران دائما أبدا. بعض الصبية يتحدثون القليل من العربية داخل المكان ويساعدون الضيوف على التفاهم، لكن يتردد على الفندق أيضا حسن و(أ) اللذين يجيدان التركية كما العربية، ويصطحبا بعض الوفود الأجنبية سواء هيئات إغاثة دولية، منظمات إنسانية، أو ميديا.. ليقوما بدور يشبه إلى حد ما «الخرتية» بوسط القاهرة... ترجمان ودليل فى آن، ولكن بشكل غير رسمى.

قراصنة حلب

حسن ولد لأب تركى وأم سورية، وقد أتى من أزمير خصيصا منذ ثلاثة أشهر للعمل بالمدينة، فى ظل رواج سياحة «اللجوء» إذا جاز أن نسميها كذلك... أما (أ) فله قصة مختلفة تماما، رغم أنه وصل إلى كلس خلال الفترة نفسها. يقال له «أبو الرز» وأسماء أخرى، وكان قد كون هو وسبعة من الأصدقاء مجموعة «قراصنة حلب» أى هاكرز مهمتهم التصدى لجيش بشار الإلكترونى الذى دأب على اختراق حسابات فيس بوك، هو متخصص بالروبوت والفيروسات بحكم دراسته الجامعية، ويرفض حاليا التعاون مع الجيشين النظامى أو الحر، موضحا: «قراصنة (هاكرز) السعودية عرضوا على المساعدة، لكننى لم أقبل، فأنا مقدم على الهجرة إلى كندا ولدي عرض عمل بشركة بلاك بيرى، فسأتوجه قريبا إلى أنقرة وحتى ذلك الحين أترجم وأساعد الصحفيين، أهلى لايزالون بحلب».

جاء الاثنان إلى مقهى وبار «دريا» المجاور للفندق بصحبة زبائن. صاحب المقهى التركى اختار أن يرحب بالأبطال السوريين على لافتة محله بالعربية، فربما يأتى إليه البعض لتدخين «الأرجيلة»، ولجذب المارة فهو يشغل موسيقى تركية عالية من وقت لآخر وحتى الواحدة صباحا.

حكايات القصف المستمر لمدة عامين أصبحت تروى كيوميات الحزن العادى.. والحرص هو دائما سيد الموقف عندما يكون الأهل لا يزالون بالداخل..لا أحد يعلم كيف ستكون النهاية، وفى مثل هذه الظروف طبيعى أن تلتقى قناصا شابا هرب من التعاون مع قوات بشار.. لا يتحدث سوى قليل حتى تشك أنه يفهم العربية، وقد ارتسمت على وجهه علامات الغموض والسكينة وهو يجلس ضمن المجموعة يأكل فى مطعم المشاوى الأشهر بكلس.. الطباخ هو الآخر من حلب، تحديدا من مدينة إعزاز الحدودية: «الأصناف هنا تختلف قليلا، فالأتراك يستخدمون الخضراوات أكثر فى حين نعتمد نحن على اللحم.. وبعض الأطباق لا يعرفونها بالمرة»، يقول رشيد مقداد ذلك على استحياء، فقد كان شيف مطعم «الشعار» الشعبى بدمشق...

تنازل بعض الشىء بالنسبة لموقعه داخل المطبخ، لكنه يحمد الله على أنه استطاع أن يعمل بشروط موفقة: 900 ليرة شهريا و3 ساعات أقل فى الدوام، مما يجعله مساويا لنظيره التركى الذى يحصل على 1200 ليرة مقابل ساعات أطول، وهكذا دواليك..

فى حمام «الخوجة» مدلك سورى، وفى محال البهارات بياعين من حلب.. تغيير العملة.. فول وفلافل.. الأنشطة والدكاكين تتنوع والنازحون ينتشرون بحكم طبيعة الجغرافيا السياسية، حتى أصبح من الطبيعى أن نرى فى الشوارع إعلانات عن قرب افتتاح مقهى مثل «جنة حلب» بإدارة سورية كاملة، ولافتة تؤكد «يوجد لدينا زيت حلو»، أو إشارة واضحة عن بيع قواميس تركية ـــــ عربية بعد أن زاد عليها الطلب.

حلب اليوم

الشارع الرئيسى بكلس يقودنا إلى منطقة أكثر خصوصية، المدينة القديمة وجامع التكية وبيت الوالى الذى يرجع تاريخه إلى حوالى 1320 هجرية.. سراديب ودهاليز، بعضها كان يؤدى إلى حلب أيام زمان.. أما الآن فنحن على موعد مع طاقم قناة «حلب اليوم» التليفزيونية والتى تحظى بثلاثة ملايين مشاهد داخل حلب..

أوامر الشغل والمحتوى يخرج من هنا بمساعدة ستين مراسلا غير احترافى بالداخل ينتمون لشبكات مختلفة وليس بالضرورة لطاقم القناة، أما البث فمن دولة أخرى، وعن قريب جدا سينتقل الفريق (حوالى 6ــ10 من الشباب الذين أتى معظمهم تهريب) للعمل بمدينة أكبر..

فالقناة مقبلة على مشروع توسع، حتى تبث إلى جانب الصور الثابتة وشريط الأخبار بعض النشرات ومقاطع الفيديو والتقارير المصورة، ولو بإمكانات ضعيفة، فهناك استوديو جديد قيد التجهيز.

شاشة كبيرة تتصدر البهو الذى خلا تقريبا من الأثاث.. أجهزة لابتوب متناثرة هنا وهناك، فالفريق يعتمد على غرف سكايب للتواصل وعلى التليفون الجوال.. يصل الخبر للمحرر فيدخل على أكثر من مصدر للتأكد من صحته، ثم يصيغه وفقا لقواعد القناة ويرسله، فنستقبله نحن على تردد 11555 عمودى ــ نايل سات، ترميز ¾.

«فى البداية كنا نلتزم بكلمة (اللجان الشعبية) بدلا من (الشبيحة)، ونذكر عدد (القتلى أو الضحايا) بدلا من استخدام (شهداء)، كنا نريد أن نجذب مشاهدين من الجانبين فى مرحلة أولى، أما الآن ومن ثلاثة أشهر تحديدا بدأنا نقول (شبيحة)..

كذلك اعتدنا فى السابق أن نقول (ناشطون يصفونها بالمجزرة) أما الآن لم يعد هناك داعٍ لذلك، نسمى الأشياء بأسمائها. وعندما نبث أى فيديو يصور عمليات عسكرية ننزع اللوجو الخاص بالألوية المختلفة وننسبه فقط للجيش الحر، هكذا اكتسبنا ثقة المشاهد فإذا وقع انفجار إلى جانب منزله يفتح فورا (حلب اليوم) ليرى ما حدث».

القناة هى عبارة عن وقفية تقوم على التبرعات، لديها مجلس أمناء يضم عددا لا بأس به من الإخوان المسلمين، ورئيس تحرير دارس للإعلام ــ سامر كنجو ــ الذى سيغادرهم خلال أيام لخلاف فى وجهات النظر، فالأخير يرفض إلحاق القناة بأحد المجالس الثورية وإن ظل على علاقة جيدة بالعاملين.

معظم هؤلاء كان على صلة سابقة بالسيد كنجو الذى دشن من قبل موقعا إلكترونيا بعنوان «مدينتنا» يتناول أخبار سوريا بشكل عام، كما يذكر أحد شباب العاملين الذى يدرس الشريعة والحقوق.

«كنت أعمل معه فى التحرير والتدقيق اللغوى بموقع (مدينتنا) منذ 2011 دون أن أعرف أنه له صلة بقناة (حلب اليوم)، بسبب التكتم الأمنى طبعا. ثم انتقلت إلى هنا للعمل بالقناة مؤخرا، فهناك تغيرات فى الفريق وإعادة هيكلة»، لم يكن لهذا الشاب العشرينى أى خبرة بالتصوير أو بالعمل الصحفى إلا أنه كالعديد من أبناء الشعب السورى تحول لشاهد عيان ومتظاهر ومشارك فى الثورة، وهو يصور أحيانا بعض الأحداث ليتركها ذكرى لأولاده كما يقول: «صورت عندما جاء المراقبون الدوليون إلى ساحة الجامعة ونزع الناس صور بشار وحافظ الأسد.. كذلك صورت إسعاف مصاب بصلاح الدين وأنا أقوم بذلك من خلال كاميرا التليفون».

العاملون فخورون بما حققوا من سبق، خاصة يوم تفجير مبنى الأمن القومى وتسجيلهم لاستخدام الكيماوى بريف حلب، ويضيف أحدهم: «عملت مقابلة مع شخص وكان معه قطع من هذه المادة الكيماوية.. مثل الخيوط العنكبوتية».

القناة تطورت سريعا خلال السنة الأخيرة كما يوضح سامر كنجو (أبوراز الحلبى): «للدخول فى المجتمع الحلبى المغلق بدأنا بمحتوى صوتى وبعض الأغانى الحلبية القديمة وإعلانات التجار..

وبعد شهرين بثينا أول شريط أنباء أسفل الشاشة يتضمن أخبار المعارضة بشكل طفيف، واستخدمنا مصطلحات متوازنة».

والآن يعرض علينا أحد شباب العاملين ذى الميول اليسارية فيلما قصيرا من إنتاجهم بالتعاون مع تليفزيون أورينت بعنوان «أربعة أسئلة فى استراحة شاى» مع مقاتل ملتحٍ من عنجار.

المدينة تأخذنا أبعد وأبعد حيث شوارع وأزقة أكثر عشوائية ولكنها لا تخلو قطعا من السوريين، مستوصف بسيط للجرحى والنازحين.. حديقة تجمعهم..

وأيضا ميكروباص ينقلهم مقابل ليرة ونصف إلى مخيم كلس الحدودى حيث أوجعتنا إشارات النصر المرسومة بأصابع الصغار.. حيث نوع مختلف من اللجوء.

حكايات المخيم

صمت رهيب البوابة الحدودية على مرمى البصر.. غرف الزيارة تتراص على الجانب الأيمن من المخيم، فرغم أن هذا الأخير يعرف دوما على أنه «مخيم خمس نجوم» فإن النظام فيه أشبه بالسجن ربما لوقوع اشتباكات من قبل بين الأهالى والسلطات التركية، فلا يسمح للزائرين بالدخول إلا فى أضيق الحدود.

وبالتالى من يأتى لزيارة ذويه دون أن يكون مثبتا لديهم يلتقيهم فى هذه الغرف التى يلاصقها على طرف الرصيف دكان عم «أبو محمود» حيث يقوم بشواء اللحم وتقديم الوجبات، إضافة إلى خدمات وتسهيلات أخرى، فهو أحد الشخصيات المحورية بمخيم كلس الذى أنشأ فى عجالة ليستوعب النازحين، على مساحة 36 هكتارا، ليضم حاليا 15 ألف لاجئ ولا يسع المزيد.. وهو ضمن 13 مخيما منتشرة على الحدود التركية-السورية التى تمتد حوالى 900 كم. يدرك المقيمون فى المخيم أنهم أوفر حظا من آخرين، فمن يشاغب مثلا يعاقب بإرساله إلى مخيم أورفا ( أيضا فى الجنوب الشرقى)، الذى يعد الأسوأ بين المخيمات التركية، ولكن هذا لا يمنع طفلا مثل خلف أن يعلن تفضيله لمخيم الريحانية حيث استقر فى البداية، لأنه كان يأوى الكثيرين من أبناء بلدته وعدد من رفاقه، أما هنا فهو يشعر بالغربة بين العائلات التى أتت من إدلب وجسر الشعور وتل رفعت وإعزاز وغيرها من المناطق المنكوبة بفعل فاعل.

يضع كارت الهوية الخاص به، فتظهر كل المعلومات المتعلقة بشخصه، إضافة لصورته التى تسطع على الشاشة المثبتة أعلاه، يفتح الباب الحديدى وينطلق خلف إلى حال سبيله بين كرافانات المخيم البيضاء التى تتكرر إلى ما لا نهاية. فهم الناس أن الإقامة هنا قد تطول، لذا كيفوا عيشتهم وصنعوا حياة من حولهم، حتى لو تكدس من 7 إلى 15 شخصا فى الغرفة الواحدة منذ حوالى السنة، يكفيهم أنهم معا.. أقام البعض «بسطات» وحولوها إلى دكاكين صغيرة تسقفها الأقمشة والبطاطين، يبيعون الشكولاته والسجائر والخضراوات والملابس البسيطة إلخ.. يكتب البعض على أبواب الكارفان اسم اللواء الذى ينتمى إليه الوالد مثلا، أو بعض الشعارت الدينية التى تؤيد الثورة وتعد بالنصر.

لا ينتمى هؤلاء بعد إلى المخيم بأى شكل من الأشكال، فهم لا يصفون أنفسهم أبدا على أنهم أبناء مخيم كذا كما هو الحال بالنسبة لبعض الفلسطينيين الذين هدمت قراهم أو طمست من على الخريطة، بل يذكرون على الفور اسم بلدتهم ويدعونك إلى زيارتهم فى المسجد الأموى عن قريب.. «لسنا بحاجة إلى شىء، فقط اعطونا أمل.. حدثونا كيف أتت ثورتكم برئيس وما هى الأحوال لديكم!»، تتكرر الجملة على لسان معظم الناس، ومعظمهم من النساء والأطفال، إذ التحق الشباب والرجال بالجيش الحر، يذهبون ويجيئون كلما سمح لهم الوقت بذلك.

سامية تحاول إقناع ابنها (12 عاما) بأنه مازال صغيرا وأن سنه لا تسمح له بالجهاد، بل عليه فقط الذهاب إلى المدرسة.

تعرف سامية أنه قد يلقى نفس مصير أبناء بعض الجيران والأحباء الذين يحملون على هواتفهم الجوالة فيديوهات تصور موت أحدهم، تلطخه الدماء وتصاحبه موسيقى بعض الأغانى الوطنية، كليبات عدة مصورة بهذا الشكل يتداولها ليس فقط أهل الشهيد بل كل من حوله. «انظرى، هذا هو ابنها..!». يبادرنى القول أحد الأطفال، ثم يروى معظم الموجودين كيف باغته الجيش النظامى وهو فى الجبل وكيف وكيف وكيف..تفاصيل موجعة تنتهى دوما بمصرع أحدهم، ودموع أم أو أخت أو خالة تجهش بالبكاء فى هدوء. هكذا يرحلون دون ضجيج.

مدرسة وحقيبة وذكريات

سندس تعمل فى المدرسة، فقدت أخيها ابن التاسعة عشرة، كان قد تطوع فى الجيش الحر... وقتل... وهى لا تستطيع أن تضع نقطة وتبدأ من أول سطر، كما تطلب من تلاميذ المدرسة أن يفعلوا.

«كان علينا أن نغير قليلا فى المناهج خاصة التاريخ والجغرافيا إلخ... ونحذف الأجزاء التى تتعلق بعائلة الأسد»، تشرح المدرسة المحجبة ذلك بين فترتين، فالمواد المختلفة، بما فيها اللغة التركية، تدرس هنا على فترتين لاستيعاب أكبر قدر من الطلبة، وفقا للمرحلة العمرية، الإناث فى مدرسة والبنين فى أخرى، أى هناك أربع مدارس داخل المخيم، بالقرب من مكتب المدير بك، و3700 طالب و144 معلما.

وقد استطاعت الإدارة أن تحصل على اعتراف من اليونيسف بالشهادات التى تصدر عن هذه المدارس، بل ويزورها من وقت لآخر وزير التعليم التركى.

فى رمضان الماضى اجتمع نحو 12 مدرسا من أهل المخيم وقرروا أن يشكلوا مديرية تعليمية مصغرة، وأجروا انتخابات للناظر والمعاونين، فوقع الاختيار على الأستاذ مرعى يونسو لتولى منصب الناظر، خاصة أن لديه خبرة سابقة إذ شغل موقع النظارة فى إحدى مدارس إدلب الابتدائية، وتحديدا فى المدرسة التى كتب على جدرانها بعض الشباب «يسقط بشار الأسد.. يسقط ابن بائع الجولان»، وكانت تلك هى الشررة الأولى للثورة، إذ تزامن ذلك مع وقوع الشىء نفسه تقريبا فى درعا.

يحكي الأستاذ مرعى كيف كان بعثيا رغم أنفه: «لم يكن ممكنا أن أتوظف لو لم أكن بعثيا، خاصة أن لدىّ أقرباء كثرا ينتمون للإخوان، كان علىَ أن أبرهن أننى لست منهم».

انضم للثورة منذ البداية وطُلب فى عدة فروع أمنية، بل ووجهت له تهمة الإتجار بالسلاح.. هرب وفى أول يونيو 2011 انضم للجيش الحر.. مكث فى الجبل مع أسرته لمدة  12 يوما، ثم اتجه إلى مخيم الريحانية بتركيا.

«بعد ثلاثة أشهر ونصف الشهر، زوجتى أصيبت بانهيار عصبى.. حماى مع النظام، أخذها على سوريا، أما أنا فمكثت هنا أنا ووالدتى والأولاد»، من حين لآخر يذهب الأستاذ مرعى إلى إدلب ليتفقد أحوال البيت الذى خضع للتفتيش..

لكنه وجد أشياءه وذكرياته كما هى، فأتى ببعضها تحسبا لغدر الزمان: دفاتر مذكرات وكتاباته النثرية وشرائط كاسيت لكاظم الساهر وأم كلثوم، ركوة قهوة من الفضة، والأهم خواتم فضية يلبس أحدها، « هذا ذكرى من حب قديم، قبل الزواج»، حنين لما كان قبل رفيقة الدرب التى تركته لأن أهلها مع نظام بشار.

زينو زعيم الشبيحة

العديد من الأسر قد تحمل وصمة عائلاتها الأكبر والبعض يبرهن على عدم انتمائه لهذا الفرع أو ذاك نظرا لاختلاف المواقف السياسية. هذا هو الحال بالنسبة لمن يحملون لقب «برى».. اجتمعت النسوة لشرب القهوة العربية على باب أحد الكرافانات، بعد أن رجعن من السوبر ماركت الخاضع لإشراف برنامج الغذاء العالمى والهلال الأحمر التركى.. كل واحدة تحمل بطاقتها الإلكترونية التى يتم شحنها شهريا تبعا لعدد أفراد الأسرة وتستخدمها لشراء السلع الغذائية.

بعضهن فرغ لتوه من حصة الغسيل اليدوى، بعيدا عن الماكينات العملاقة المخصصة لذلك، نظرا لانتشار الأمراض مثل أبوصفير والجديرى، على حد قولهن.

جلسن على الأرض ومررن فناجين القهوة فى انتظار أن ينضج الطعام، ذكرت إحداهن عند رؤية بنت الجيران أنها تأكدت أنه لا علاقة لهم بآل البرى وتحديدا زينو البرى، زعيم شبيحة حلب الذى أعدم فى أغسطس الماضى، فزينو البرى ينتمى لعشيرة الجيس المشهورة بعلاقاتها الوطيدة مع النظام وكانت تكافئ دائما بمقعد فى البرلمان وضمان حصرية عدة أنشطة تجارية بالمدينة، أما جيران اللجوء فهم من التركمان...

تنفس الجميع الصعداء، فليس بينهم خائن. مع أول خيوط الليل تنتشر العربات المدرعة لحماية المكان، ويلعب الصبية ما يشبه العسكر والحرامية وهم يشهرون سيوفهم الوهمية فى الهواء، وكأنهم ينتصرون لبلادهم.

يرتفع صوت الآذان فيلبى بعضهم النداء على الفور.. هنالك شعور قوى لديهم أنه لم يبق لهم غير الله.. سجود تحلم أن تعود وتدرس الشريعة التى تعلمتها.. تقول إنه بفضلها قد تحقق العدل المفقود، فماذا لو عبرنا الحدود السورية؟..

 

المصدر: مجمل

المصادر: