ليلة زفاف فتاة حمصية

الكاتب : سلوى الوفائي
التاريخ : ٢٣ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 2970


ليلة زفاف فتاة حمصية

بعد شهر خرجت من المعتقل، بنصف جسد، ونصف روح، ونصف عقل... لكنها خرجت بكامل كرامتها وكبريائها وشرفها، كانت تحلم أن تجاهد مع المجاهدين في الساحات، تحلم أن تذود عن أعراض أخواتها، وتداوي جراح إخوتها، وتكون الفداء لهم.


سارت إلى بيت زوجها كسيف من سيوف الله المسلولة، مرصع بأسمائه الحسنى، وعلى عتبة بيتها بكت، وبكت معها حجارة الأرصفة وأشجار الطرقات المنكسرة، كانت شاحبة، منهكة، متآكلة من الداخل والخارج، تنزف كالنجوم المعلقة في السماء ساعة الغياب، نقص وزنها عشرة كيلوغرامات فازداد وزن شرفها آلافاً من الأطنان، سرقوا نصف دمها، لكن النصف الآخر تحول إلى نهر من ياقوت يروي تراب العدية، وتمخر عبابه كلّ السفن العربية المهاجرة إلى العار... مارسوا عليها كلّ أنواع القهر، والقسر، والذلّ، والسادية، جرّدوها من كلّ أسلحة الأنثى، فجرّدتهم من جميع صفات البشرية، سيقت إلى المعتقل أسيرة تسحلها أيادي الغدر على الحجار السود، تلّم بفستانها الأبيض كل أوحال الطغاة، ورجس السفلة، استطاعت هذه الطاهرة أن تعطي يوم زفافها العادي بعداً غير عادي، وأن تعطي سرير الزوجية محطة للتاريخ، تزود السائرين على درب الحرية بوقود الكرامة... شبيحة الغابات تفننوا بتعذيبها، وكسر مقاومتها، وإلغاء ذاكرتها، وزعزعة وجدانها، وقد أفلحوا في تدمير كلّ شيء فيها إلا كرامتها، لتقرع كلّ الأجراس، ولتضيء كلّ المآذن، ولينادي المؤذن معلناً "وفاة الضمير الإنساني"...
اعتقلوها عروساً تزهو بفستانها الأبيض، وأطلقوا سراحها بعد شهر كامل وقد لطخوا بياضها بسواد جريمتهم البشعة، خرجت من معتقلها الصغير إلى المعتقل الكبير... الوطن... من سجن صغير إلى سجن كبير... الألم..... من غربة عن العائلة إلى غربة عن الروح.... وأصبح الهذيان هو التعبير المهذب لوصف صمتها الأشبه بصمت الموت... لم تكن الصفقة رابحة... أعطوها الحرية... لكن سلبوها أعز ما تملك... كم تمنت أن ترفض الحرية... كم توسلت أن لا ترى النور... كم تاقت إلى ظلام القبور... فأن تدفن حيّة أهون ألف مرة من أن تحيى ميتة... تمنت أن تكون حبة قمح جافة ترمى على تراب الأرض لتلد آلاف السنابل الخضراء اليانعة... فالموت الفردي لا أهمية له إذا كان سيؤدي إلى حياة أمة... لم توجعها جدران السجن بقدر ما أوجعتها جدران الحقد والكراهية المتأصلة في النفوس المريضة التي طالت زهرة شبابها... لم تشتك ظلم الوحوش الضارية قدر ما اشتكت صمت ذوي القربى، وسكوت الساكتين عن الحق...
وحين عادت إلى بيتها، هرع العرب إليها... واحد يقبّل يدها.... اعتذراً لأنوثتها... وآخر يحمل سلّة ورد أبيض.. وثالث يحمل برقية مواساة من رئيس دولة عربية... ورابع قلّدها وسام الاستحقاق الجمهوري.. وخامس قرر استصدار طوابع بريدية تخلد ذكرى مصيبتها... أما هي فقد ردّت إليهم ورودهم وبرقياتهم وطوابعهم واعتذاراتهم، كلّ ما أرادته هو أن يعود زوجها الذي لم تتزوجه إليها... بحثت عنه في كل مكان... لم تجد سوى آثار خطواته المبعثرة على الطرقات... سارت خلفه بنصف عقل... ومضى أمامها بلا عقل....
عذراً أيها السادة إن جنّ الحبيب... فبعض الحب جنون..

المصادر: