موسكو والإعداد لما بعد الأسد

الكاتب : برهان غليون
التاريخ : ٧ ٢٠٢٠ م

المشاهدات : 2840


موسكو والإعداد لما بعد الأسد

تتزايد المؤشرات الصادرة عن مصادر صحافية وتقارير مؤسسات روسية، كان جديدها ما نشره "المجلس الروسي للشؤون الدولية" عن احتمال وجود توافق روسي أميركي لتنحية بشار الأسد، وتشكيل حكومة انتقالية تشمل المعارضة والنظام وقوات سورية الديمقراطية (قسد). مع كل الاحتياطات والتحفظات التي ينبغي أن نأخذها قبل أن نغذي مثل هذا الأمل على تفاهم دول لم يُظهر أكثرها أي اعتبار للمصالح السورية الوطنية والشعبية. وعلى الرغم من العقد الكثيرة التي تجعل التوصل السريع إلى مثل هذا الاتفاق بين دول متضاربة المصالح ومتنافسة في ما بينها على استخدام سورية ورقة للتفاوض، ومسرحا لامتحان القوة وتصفية الحسابات التاريخية، ومع ضرورة التمسك، أكثر من أي وقت مضى، بالحذر من بيع الأوهام التي عانينا منها كثيرا، لا يمكن لنا، كسوريين معنيين بالخروج من النفق الذي وضعتنا فيه الحرب الدموية، ألا نفكر في هذا الاحتمال وألا نتعامل معه بجدّية، فبصرف النظر عن هذه التسريبات، كان من الواضح منذ أن أخفقت الحملة الروسية الإيرانية على إدلب، وتم التوصل إلى وقف ولو هش لإطلاق النار، أن الحرب قد وصلت إلى خاتمتها، ليس لأن الروس والإيرانيين حققوا أهدافهم الرئيسية، ولكن لأن توازنات القوى أوصلتها إلى طريقٍ مسدود، لم يعد يستطيع أي طرف أن يحقق فيها أكثر مما حققه من قبل، وبالتالي لم يعد من الممكن لموسكو استرجاع ما كانت تحلم به من سيطرة كاملة على التراب السوري وإجبار الأطراف الأخرى على القبول بالحل الذي تمليه عليهم بحسب مصالحها. وأصبح من المفيد أكثر وقف الاستثمارات الإضافية فيها، والسعي إلى قطف ثمار ما بذلته من جهود، قبل أن تضيع هي ذاتها.
تدفع في هذا المنحى أيضا عوامل أخرى، أهمها الانتخابات الرئاسية السورية في منتصف العام المقبل (2021)، فطالما لم تتبلور خطة الخروج من الحرب قبل هذا الموعد، ستجد موسكو نفسها أمام تمديد أوتوماتيكي للأسد لن يترك بعد ذلك فرصة للتسوية أو للتفاهم مع أي طرف من الأطراف الدولية، والولايات المتحدة بشكل خاص. وهناك الضغط المتزايد الذي يشكله تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية وشلل حكومة الأسد في مواجهتها، ومخاطر الانفجارات الاجتماعية، ما يهدد بانفلات الأوضاع والفوضى وتجدد أعمال العنف، من دون أن يستطيع أحد السيطرة عليها. وليس هناك شك أيضا في أن الأزمة الصحية التي تسبب بها وباء كورونا، وما تبعها من أزمة اقتصادية أضيفت آثارها إلى نتائج المقاطعة والعقوبات التي لا تزال موسكو ترزح تحت ثقلها، ثم الانهيار الذي شهدته أسعار النفط، وهو المصدر الرئيسي لدخل الدولة الروسية، لا يمكن لذلك كله إلا أن يدفع موسكو إلى التخفف من الأعباء الإضافية وتجميد الحروب "الثانوية"، والتوجه إلى البحث عن مزيد من التعاون الدولي، للخروج من الأزمة العالمية الكبرى. وليس للتسريبات الصحافية حول استياء الرئيس الروسي من الأسد سوى هدف واحد، هو استدراج عروض غربية للدخول في مفاوضات وحوار تتجاوز أهدافه القضية السورية بكثير.
ومع ذلك، ليس مؤكّدا أن موسكو قد اكتشفت الصيغة التي تساعدها على التخفيف من عبء الأزمة السورية ومخاطر استمرارها. كما أنه ليس من المضمون أيضا أن تُفضي المفاوضات التي لم تبدأ بعد مع واشنطن إلى نتيجة سريعة، فالأميركيون المعنيون أكثر من أي طرف دولي آخر بالتنزيلات الروسية في ثمن السلعة الأسدية ليسوا بالضرورة في عجلةٍ من أمرهم. ولا أحد يعلم حتى اليوم ما الذي يريده الأميركيون في سورية. هل هو الاستمرار في تعقب ما تبقى من تنظيم الدولة الإسلامية، أم بالفعل القضاء على الوجود الإيراني على أراضيها، أم تحقيق حد أدنى من الحكم الذاتي للكرد السوريين، أو الحفاظ على السيطرة على الموارد النفطية السورية، أو تعزيز سيطرتهم الإقليمية؟ وكيف يستقيم ما جاء في تقرير "المجلس الروسي" المذكور من حديث عن اتفاق بين الروس والأميركيين والإيرانيين والأتراك حول تسوية سورية قادمة وحكومة انتقالية، إذا كان إخراج الإيرانيين من سورية لا يزال هدفا رئيسيا للسياسة الأميركية، اللهم إلا إذا كان قد حصل، في الوقت نفسه، اتفاق إيراني أميركي بشأن مصالح إيران في سورية المقبلة، وحجم وجودها وطبيعته، وفي ما يتجاوز ذلك أيضاً. وبالمثل، ليس من الواضح كيف يمكن إدراج قوات سورية الديمقراطية (قسد) طرفا في الحكومة الانتقالية العتيدة، في الوقت الذي لا تزال تركيا تعتبر هذا التشكيل منظمة إرهابية تهدّد أمنها القومي، بينما لا يزال الكرد السوريون في "قسد" يرفضون الانفصال عن قيادة حزب العمال التركي المرفوض من أنقرة، أو التفاهم مع المعارضة السورية على حدود المناطق التي يريدون تقرير مصيرهم فيها، هل هي أراضي الإدارة الذاتية الراهنة التي تضم أغلبية ساحقة عربية، أم هي مناطق الكثافة السكانية الكردية التي أصبحت، إلى حد كبير، تحت سيطرة السلطات التركية المباشرة أو غير المباشرة؟
وعلى الرغم من ذلك، لا ينبغي التقليل من أهمية نافذة الفرص الجديدة التي فتحت، وسوف تزداد انفتاحا على الأغلب، لا بسبب توصل الأطراف المعنية إلى اتفاقٍ يبدو لي أنه لا يزال بعيد الحصول، وإنما بسبب غياب الخيارات الأخرى، ومخاطر التدهور المتزايد في الأوضاع السورية والعالمية أيضا، والخوف من تراجع الفرص في المستقبل، وجعل الخروج من المأزق، بالنسبة للروس بشكل خاص، أكثر كلفة بكثير، وربما مع تهديدهم بخسارة المكاسب التي حققوها حتى الآن.

المصادر:

صفحة الكاتب في فيسبوك