في مطلع ربيع جديد

الكاتب : عصام العطار
التاريخ : ٣٠ ٢٠٢٠ م

المشاهدات : 2031


في مطلع ربيع جديد

تقول لنا نواميسُ الطبيعةِ والحياة :
كلُّ شِتاءٍ يَعْقُبُهُ ربيع، إلاّ شتاءَ الشيْخُوخةِ لا يَعْقُبُهُ أبداً ربيعُ شَباب.. لا يعقبُه إلا الموتُ أو هَرَمٌ أقسى من الموت؛ ولكنّ ربيعَنا الأَبْقى والأَسْمى والأَحلى -نحنُ الشيوخَ- وراءَ حدود هذه الحياة، عندما تنفتحُ لنا أبوابُ رحمةِ اللهِ وقد صِرْنا إلى الله، نَجْتَني من أزهارِ وثمارِ وَبَركاتِ عفوِهِ وفضلِهِ وكرمِهِ، ما لا يقاسُ بهِ أيُّ ربيعٍ في هذه الدنيا

*
أزهارُ الحبِّ في قلبِ المُحِبِّ، ونَسَماتُه النَّدِيَّةُ العذْبةُ، لا تُماثِلُها ولا تُقاربُها أنضرُ أَزاهيرِ الدنيا، ولا تذبُلُ ولا تموتُ لِوَقْدَةِ الْحَرِّ وصقيعِ البَرْد.. مهما امتدّ بقلبِ المحبِّ الصادقِ العُمر
*
ما أجملَ أن تَرَى في شَيْخُوختِكَ الربيعَ وتعيشَهُ وتسعدَ بهِ من خِلالِ أجيالٍ حَبيبةٍ جديدةٍ، يبتسمُ بها ثَغْرُ الحاضرِ والمستقبل، وَيَخْضَرُّ بها وَجْهُ الأرضِ والحياة، وتَزْدَهِرُ بها الأَزاهيرُ والأَغاريدُ والأماني، وتملأُ ألحانُها الحُلْوةُ، وأريجُها الطيّبُ، ما بينَ السماءِ والأرض
*
كلُّ عامٍ جديد، كلُّ ربيعٍ جديد، كلُّ نهارٍ جديدٍ يطلعُ عليك فجْرُهُ، وتُشرِقُ عليكَ شمسُهُ وأنتَ حَيّ.. هِبَةٌ ثمينةٌ من اللهِ عزَّ وجلَّ، وفُرْصَةٌ جديدةٌ وإمكانيّةٌ جديدةٌ لمتعةٍ جديدةٍ بالحياة، أو سعادةٍ تبعثُها في القلوب، أو بُذورٍ طيّبَةٍ تغرسُها حَوالَيْك، أو عملٍ صالحٍ تقدّمُه بين يديك، ولو وافاكَ أجلُكَ معَ المساء
*
كنتُ في ماضياتِ أَيّامي أفرحُ بمقْدَم الربيعِ، وجَوِّ الربيعِ، وروحِ الربيعِ، وبَراعمِ الوِرادِ والأَزهار، وأقتطفُ أوّلَ زهْرَةٍ أو ورْدَةٍ أراها، وأُسارِعُ لأُقدّمَها إلى «بنان»!
رحمكِ اللهُ يا «أمَّ أيمن»! لم يَعُدِ الربيعُ بعدكِ هو الربيع! ولم يَعُدْ لي بعدَكِ مَنْ أقتطفُ له الوِرادَ والأزهارَ وأُقدّمُها إليه!
***

أشتاقُ إلى الربيعِ بعدَ بَرْدِ الشتاء.. أشتاقُ إلى شمسهِ ودِفْئِه، ونَفَحاتِهِ وبَسماته، وإلى الحياةِ تَنْبَثِقُ في كلِّ مكان، والنشاطِ يَدِبُّ في كلِّ مخلوق؛ ولكنِّني أشتاقُ أكثرَ وأكثرَ إلى ربيعِ الحريّةِ والكرامة، والحقِّ والعدالة، والإنسانيّةِ والحُبّ، يولَدُ ويَرْبـُو في قلوبنا، وفي أرضنا، وفي عالمِنا..
يا ربيعَ الحريّةِ والكرامة.. ما أشدَّ ارتقابَنا لكَ وشَوْقَنا إليك
يا ربيعَ الحريّةِ والكرامة.. وَدِدْتُ لو سَقَيْتُ تُرْبَكَ دَمي لِتُنْبتَ لنا أرضُكَ الحياة، وتُسْرِعَ وِرادُكَ الحمرُ بالنموّ
يا ربيعَ الحريّةِ والكرامةِ أين أنت؟! لم يَعُدْ لنا صبرٌ على القيودِ والأغلال، والظلم والهوان
وكلُّ ربيعٍ جديد يُذَكِّرني بـ « دمشق » وأيامِنا الحلوةِ في دمشق، ويبعثُ في نفسي كَوامِنَ الشجون والأشواق..
كلُّ ربيعٍ جديد ينقلني إلى البيتِ الذي نشأتُ فيه، وإلى بيوتِ الأقرباءِ والأصدقاءِ التي عرفتُها في طفولتي.. فأرى تَفَتُّحَ الفُلِّ والياسمينِ وأزهارَ الكَبّادِ والنارنج - أكادُ أَشُمُّ رائحتَها الطيّبة الآنَ وأنا أخُطُّ هذه الكلمات، وأرى هؤلاء الأطفالَ الصغارَ، الذين يتراكضونَ ويلعبون في «الدِّيار» حولَ «البَحْرَة»، أو في الحديقةِ خَلْفَ البيت، وأسترجعُ بعضَ أحلامِهم: أحلام يقظتِهم، وأحلام نومِهم عندما يُغمِضُ عيونَهم الليلُ إلى الصباح -
من يُصَدِّق؟!
هؤلاء الأطفالُ الذين أراهُمُ الآنَ بعينِ الذاكرةِ والخيال هم: أنا وإخوتي، وأبناءُ أعمامي، وبعضُ رفاقنا الصغار.. فارَقَ بعضُهم هذه الدنيا، وما يزالُ بعضُهم يحملُ أعباءَ شيخوختهِ ويتابعُ رحلةَ الحياة
كلُّ ربيعٍ جديد ينقلُني إلى «الرَّبْوَةِ» و«دُمَّر» و«الغُوطَتيْن» وبساتينِ دمشق التي كانت من أعاجيب الدنيا، فقتلها الظلمُ والبَغْيُ والجشَعُ والجهْلُ.. كما قتلَ شعبَنا وبلادَنا، فلم يَبْقَ منها -كما أسمع- إلاّ ذكريات..
وينقلُني الربيعُ الجديد إلى فُتُوَّتي وشبابي، وأصدقاءِ الفُتُوَّةِ والشباب. أُبْصِرُهُمُ الآنَ كأنّهم أمامي، وأتأمّلُهم، وأتابعُ مَسيرتَهم ومصائِرَهم فَرْداً فرْداً.. وما أفجعَ بعضَ هذه المصائر!!
لِمَ بدأتُ أتذكّرُ وأكتب؟!
إذا كان من الذكريات ما يشرحُ الصَّدْر، ويَفْرُجُ الشفتين عن بسمةٍ صادرةٍ من القلب، فمن الذكريات ما يَحُزُّ حَزَّ السكّين، ويُثيرُ ما لا حَدَّ له من الآلام..
وأينَ أنا الآن مِنْ دمشقَ.. وأينَ دمشقُ منّي؟!
أينَ أنا مِنْ أصدقائي وأهلي؟!
أين أنا من النارنجِ والفُلِّ والياسمين، وألوانِ الوردِ والأزاهير، وأصنافِ النباتاتِ والأشجارِ التي لا يُحْصيها العَدّ؟!
أين أنا من «الغوطتين» و«بردى» و«قاسيون»؟!
بل أين أنا من رياضِ الأرواح والقلوب: أينَ أنا من المسجدِ الأُمَويِّ، ومسجدِ العفيفِ، ومسجدِ نافِذ، ومسجدِ الجامعة.. ومجالسِ العلمِ والفكرِ والأدبِ؟!

طالَ اغترابي وما عانَيْتُ مِنْ نَصَبِ...والبَغْيُ قدْ جَدَّ في حَرْبي وفي طَلَبي

والشوْقُ في أَضْلُعـي نارٌ تُذَوِّبـُني...مَا أفْتَكَ الشَّوْقَ في أَضْلاعِ مُغْتَرِبِ

أينَ الأَحِبّةُ ما بَيـْنـي وبَـيْنَهُمُ ...... لُجُّ البحـارِ وأَسْوارٌ مِنَ الرَّهَبِ

عَزَّ اللقـاءُ فَلاَ لُقْيـا ولا نَظَـرٌ ...... ولا حَدِيثٌ على بُعْـدٍ ولا قُـرُبِ

كَمْ ذا أحِنُّ إلى أَهلي.. إلى بَلَدي.....إلى صِحابي، وعَهْدِ الجدِّ والَلعِبِ

إلى المنازِلِ مـِنْ دينٍ وَمِنْ خُلُـقٍ ... إلى المناهِلِ مِـنْ عِلْمٍ وَمِنْ أَدَبِ

إلى المساجدِ قد هامَ الفـؤادُ بهـا...إلى الأَذانِ كَلَحْنِ الخُلْدِ في صَبَبِ

اللهُ أكبـرُ هَلْ أَحْيـا لأَسْمَعَها ..... إنْ كانَ ذلكَ يا فَوْزي ويا طَرَبي

إنّي غَريبٌ غَريبُ الرّوحِ مُنْفَرِدٌ...إنّي غَرِيبٌ غَرِيبُ الدارِ والنَّسَب

عَفْوَكُم أيُّها القرّاء الأعزّاء

ما ذَنْبُكُم حتى أُغْرِقَكُم في بعض شُجوني، ودُنيا العربِ والمسلمين، بل الدنيا كلُّها مَليئةٌ بالشجون والدموع

دَرْبٌ سَــلَكْناهُ والرَّحْمـنُ غايَتُنـا ..... مَا مَسَّـنَا قَـطُّ في لَأْوائِـهِ نَـدَمُ*

نَمْضِي ونَمْضِي وإِنْ طالَ الطريقُ بنا ... وَسَـالَ دَمْـعٌ عَلَى أطْرافِـهِ ودَمُ

يَحْلُـو العَـذَابُ وعَيْـنُ اللهِ تَلْحَظُنـا ... ويَعْذُبُ المـوتُ والتشـريدُ والأَلَـمُ


أمّا أحَبُّ أزهارِ الربيعِ إلَيّ، وأبْلَغُها أثَراً في نفسي، وأكثرُها إثارةً لِشَجْوي.. الأزهارُ التي أحوطُها بضلوعي، وأسقيها بروحي ودموعي، وتبعثُ في نفسي أَرَقَّ العواطفِ والمشاعر، وتوحي إليَّ أعمقَ المعاني والخواطر، وتنقلُني إلى عالمٍ أبعدَ من عالمِ الناس، فهي تلكَ الأزهارُ الحبيبةُ التي تُغَطّي تُرابَ القبرِ الحبيبِ في مقبرةِ «هُلْس» في مدينةِ آخن في ألمانيا، هذا القبرُ الذي يعيشُ معي على امتدادِ السنين، في السّفَر والحَضَر، والسُّرورِ والحَزَن، واليقظةِ والنوم.. هذا القبرُ الذي ضَمَّ ثَراهُ الحبيبةَ الشهيدةَ «أمَّ أيمن» رحمها الله
*
وكُلّما رأيتُ في واقعِ الحياةِ كيف تَميلُ امرأةٌ تافهةٌ فاسدةٌ -أحياناً- بزوجٍ صالحٍ عن طريقِ الواجبِ والصواب، وكيف يَميلُ رجلٌ تافهٌ فاسدٌ -أحياناً- بزوجةٍ صالحةٍ عن طريقِ الواجبِ والصوابِ.. ازْدَدْتُ تقديراً وإكباراً لـ «أمّ أيمن» رحمها الله
كانتْ ضميرَنا الحَيَّ اليقظَ الْمُرْهَفَ على الدوام، ما إنْ تَتَوهَّمُ فُتوراً في سُلوكِنا، أو انْكِماشاً طفيفاً في خُطانا عن طريقِ الواجبِ العسيرِ الخطير، حتى تبادِرَ بفكرِها وقلبِها، وغَيْرَتِها وحُبّها، وإرادتِها وعملِها، إلى شَحْذِ الهِمَم، وتقويمِ المَسار، ولو كان في ذلك فقدُ الأمنِ والصِحّةِ والاستقرار، وكلِّ ما يتهافتُ عليه الناسُ من متاع الدنيا
***
ورحمَ الله تلكَ الأيّام!
كان ربيعُنا مَعَنا حيثما كنّا.. ربيعُ الإيمانِ والمودّةِ والرَّحمة، وربيعُ الطفولةِ البريئةِ العَذْبَة، والأسرةِ المتعاطفةِ المتماسِكَة
إنْ غابتْ عنّا أزاهيرُ الأرض اجْتَنَيْنَا أَزاهيرَ الحُبّ،
وإنِ اشْتَدَّتْ بنا الحاجَةُ استَعَضْنا عن غِنى الجيوبِ بغِنى القلوب
وشعرنا في الغُرَفِ الحقيرةِ التي سكنّاها في الغُربةِ -أحياناً- بسعادةٍ لا يملكُ مثلَها سُكّانُ القصور
ورأيْنا رحمةَ اللهِ ولُطْفَهُ وفضلَهُ في كلِّ جُرْحٍ مِنْ جراحاتِنا، وألمٍ من آلامنا، ويومٍ من أيامِنا..
كانت غايتُنا عندنا - وما تزال والحمدُ لله - أكبرَ من الدنيا، وكنّا بها أكبرَ من الدنيا
وكانت كلُّ لحظةٍ من لَحظاتِنا عملاً في سبيل الله، وكنّا أقربَ ما نكونُ إلى الله
وذهبتْ «بنان» لأنّها رفضت بشموخ أن نتخلّى عن واجبنا الكبير، ونهجِنا الحرِّ القويم، وعملِنا في سبيل الله عزَّوجل!
رحمها الله.. ما أعظَمَها مِن امْرَأَة! وما أَرْوَعَها مِنْ مَثَلٍ كريم! (١)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) من قصيدة لعصام العطار أوائلَ اضطراره للعيش في أوروبا، بعدَ أن لم يَعُد له على الأرض العربية مكان يستقرّ فيه، ويحتفظ فيه بحريته واستقلال تفكيره ونهجه ومواقفه.
(*)
اللأْواء: الشدَّة والمحنة والمرض وضيق العيش
(*) من أبيات لعصام العطار .
(١) نُشرت هذه المقالة لأول مرة في آذار / مارس ٢٠٠٨
أعجبني · · المشاركة

المصادر: