"أنا بطلت ثورة!" .... متى أترك الفَسِيلة؟

الكاتب : ياسين جمول
التاريخ : ١ ٢٠٢٠ م

المشاهدات : 2899


- يكفيني أنني فقدتُ أخي؛ أنا "بطّلت ثورة"!

- وأنا يكفيني أنني خسرت مالي وانتهيتُ مشرَّداً مختوماً على جبيني بختم الدوام: لاجئ؛ أنا "بطّلت ثورة"!

- أنا يكفيني أنني خسرتُ زوجي، وأقف شهرياً ليومين أو ثلاثة أمام الجمعية أخشى أن تفوتني الكفالة لأيتامي؛ أنا "بطّلت ثورة"!

- صحيح أنني لم أكن أكثر من عنصر أمن؛ لكنني كنتُ في خيرٍ وعزّ وسلطة، وأعلنتُ انشقاقي نصرةً للثورة، لكنني انتهيتُ ولا أحدَ يردّ عليّ السلام أو يُلقي لي ثمن الخبز؛ أنا "بطّلت ثورة"!

- صحيح أنني كنت معلّمةً، لكن رواتبنا تحسّنت في آخر فترة، وصرتُ مع زوجي نكسب من الدروس الخصوصية أكثر من الراتب، وترانا اليوم بشهادات تملأ مصنفات ولا شغل؛ نحن "بطّلنا ثورة"!

- بقينا لسنواتٍ في الحصار، ولولا أننا أُخرجنا ما خَرجنا، لكننا ظنّنا أننا في حصارنا وجوعنا ندافع عن البلد كلها، وأن الناس سيحملوننا على أكتافهم، فصرنا نعمل ليل نهار لِنُدرك أجرة البيت ولا ندركها؛ نحن "بطّلنا ثورة"!

- ثورة أيش وأنا وأهلي كل واحد في بلد، حتى موتانا تشتتوا؛ فوالدي تُوفي في لبنان ودُفن هناك فحُرمنا من بركته حيّاً ومن زيارة قبره ميتاً، وزوج أختي تُوفي بالسرطان في مشافي ألمانيا ودُفن هناك فما حضر جنازتَه إلا أبناؤُه وبضعةُ رجال، وأنا إن متُّ هنا فليس عندي غير أولادي وبعض الأصدقاء؛ أنا "بطّلت ثورة"!

- يا أخي! كلهم حرامية ولصوص؛ جرّبتُ العمل مع المشايخ والعلمانيين، يبيعوننا الكلام المعسول ليأكلوا البيضة وقشرتها، ودون أية عقود عمل أو مدونات سلوك أخلاقي؛ إلا اللهم ما نُبرزه للزائرين نضحك عليهم بها؛ "أنا بطّلت ثورة"!

- كلكم أهون حالاً مني؛ فماذا بقي لي وقد خسرت ساقي ويدي، ثم رُميت في دار للجرحى نجاهد أكثر من جهادنا النظام لنحصل على أجرتها شهرياً وقد تركتني زوجتي ولحقت بأهلها؛ "أنا بطّلت ثورة"!

 

لا ثورةَ في التاريخ ينعدم كل ما سبق من بلاء؛ ولربما أكثر إن نظرنا في ثورات الأنبياء في مجتمعاتهم، لكنّ أحداً من الأنبياء أو الصالحين الـمُصلحين قال: "بطّلت"!

الثورة فكرة، والفكرة لا تموت ما دامت سُقيت بالدماء، فلابد أن تنمو وتُثمر، ومحرومٌ مَن يترك "يبطّل ثورة" قبل أن يفرح بالثمرة.

نعم؛ مِن حقّ المصاب المصدور والمبتلَى أن ينفث، و"بطلت ثورة" لا تُحتمل أن تكون أكثر من زَفْرة أو نَفْثة مصدور؛ وإلا فمَن دفع تلك الأثمان من الإصابة والقتل والتشريد أن يقبل بنصف ثورة، لأن نصف ثورة انتحار كما يقال.

نعم؛ أخطأ المشايخ والقادة والمسؤولون في العمل العسكري والعمل الإنساني والعمل السياسي، لكنها أخطاء لا تُسقط الثورة من عيوننا، وإن انصرفنا إلى أعمالنا لإعالة أهلينا وأحبابنا فهذا لا يعني نكران الثورة أو تركها، فلنرجع إلى الإيمان؛ فالجهاد ليس بالسلاح وحده، فقد يُفتح لإنسان في الجهاد بالمال ما يعجز عن مثله في جهاد اليد، وقد يُفتح عليه في جهاد الكلمة ما يفوق مَن يدفع ماله؛ دون إنكار فضيلة الجهاد باليد على أنواع الجهاد كلها.

لكن الحديث وقد طالت المحنة وأُرهقت الناس، وتكاد المواقع تكون ثابتة؛ فمِن مجاهدٍ لا يرضى بالرباط بديلاً، أو عاملٍ في الخدمات الإنسانية ترك شهادته وآثرَ الانتفاع والنفع؛ ولا ضير! ومِن عالمٍ يعكف على الدرس والتحقيق ليخرج للناس بما يهمّهم في النوازل التي تطرقهم ولا أثر لها في كتب الفقه والحديث، أو مشتغلٍ في الدعوة والتعليم يصارع الحياة ليكمل شهره بلا ديونٍ تضطره لترك مهنته، ومِن تاجرٍ رجع إلى تجارته وعمله فهو يحمل نفسه وآخرين معه.

وكل أولئك على خير ما لم يتركوا الثورة وأهلها؛ فالبلد لا تنهض على حِراب المجاهدين وحدهم، ولا بأقلام المتعلمين والمثقفين وحدهم، ولكن!

 لا يُبرر للتاجر عاد إلى عمله أن ينسى المحتاجين أو يتعالى عليهم بما فُتح عليه فيه، ولو أن كل التجار السوريين حملوا مَن يستطيعون لَاكتفى كثيرون عن السؤال والحاجة.

والـمُرابط ارتضى أن يبقى في فوهة البندقية ليقاتل عنّا؛ نعم، يقاتل عنا جميعنا، فبماذا نقابله؟ نخلفه في أهله بخير؛ فنقدّم لهم ما نستطيع من غذاء ودواء ومسكن وتعليم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

والعامل في المجال الإنساني يسعى ويرى مِن الأخطاء ما يبغّض العمل إليه؛ لكن ليتذكر أنه مسؤول عما ائتمن عليه، ولا يسكت عن خطأ أو احتيال وإن كلّفه ذلك تغيير العمل مرات ومرات، ولينظر في فرحة المستفيد ودعواته له، وليصمّ أذنه عن وابل الشتم والسباب؛ فالعامل في الشأن العام لابد أن يتصدق بعرضه، فإن عجز عن الاحتمال ورأى الانصراف إلى عمل تجاري فليس بعظيم ولا خروج عن الملّة؛ وليكن للمحتاجين خيراً مما كانوا عليه مَن آثرَ تركهم لله.

والطالب ينصرف إلى دراسته وجامعته فتح الله عليه؛ ولكن لن يعجز عن مناصرة الثورة والمحتاجين بمنشور أو كلمة طيبة، ولعل بيان الثورة وأهلها في الوسط الذي يدرس فيه يُفتح به أبواب تعجز قوى الثورة كلها عن فتح مغاليقها.

والوالدان مع أولادهم في بلدان اللجوء ما يضرّهم لو أنهم تابعوا أخبار البلد والمحتاجين، فقالوا خيراً وبذلوا ما يستطيعون؛ بعيداً عن البراءة من الثورة وأهلها والطعن في العاملين لأنهم بلغوا برّ الأمان، وكأنهم لذلك ثاروا وخرجوا.

فَلْتقصر الألسنة عن الحديث في الفتنة وغير المفيد، وتطول الأيدي في العمل؛ فما زال الحق غريباً منذ بدأ الدِّين، فلا نعجز لكثرة العاجزين المثبّطين، ولا نسرق لكثرة اللصوص والمارقين، ولنجتهد في الممكن المتاح؛ فهو المنوط بنا والمسؤولون عنه.

محالٌ أن يبقى إنسان على حاله من النشاط والهمّة بشكل متواصل في عمله؛ سواء كان عملاً لكسب القُوت، أو عملاً في وجوه الخير للناس، ولعله في أبواب الخير أجلَى وأوضح؛ فقد يجدّ في كسب النقود وهو يراها بعينه تزيد في رصيده، ويفتر هناك لأن ثمارَ عمله قد تكون غير ملموسة بشكل مباشر!

ولعل العمل الذي تدخل به الجنة لم يأتِ بعدُ؛ فلا تفتر!

لعل الحجر التي سترقَى بها نحو المعالي لم تضعها في البناء بعدُ؛ فأكمِل!

لعل الإنسان الذي إن انتفع بك فيدعو لك دعاء يرفع عنك الله به بلاءً لم تجده بعدُ؛ فلا تقعد!

لعل إنساناً فقيراً أو يتيماً يجلس دون غذاء أو دواء لا يزال ينتظرك لتطرق بابه وتساعده؛ فاذهب نحوَه!

لعل أرملةً أو ثكلَى ما زالت على سجادتها في خيمتها تسأل ربَّها إنساناً يشعر بألمها مع أطفالها يُجزَى بذلك الجنة؛ فبادِرْ وكن أنت!

لعل طفلاً ينتظر مَن يدفع إليهم بحقيبة وقرطاسية ليتعلم، فيكون قائداً في مسيرة الإعمار يرقب مَن يكفله مع ألوف آخرين؛ فاذهبْ نحوَهم ولا تفتر!

ولنذكر حديث ( إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)؛ فهو دستور في الهمّة.

المصادر: