لكيلا يهلكنا الصمت (2)

الكاتب : مجاهد مأمون ديرانية
التاريخ : ٢٨ ٢٠٢٠ م

المشاهدات : 2531


لكيلا يهلكنا الصمت (2)

انتهى الجزء الأول من المقالة بالسؤال المهم الذي أنشأتها من أجله: ما الدور المرتقب من إعلام الثورة؟ وما هي المصافي الإعلامية التي ينبغي على إعلاميي الثورة مراعاتها في المعركة؟

المهمة الأساسية معروفة: الصدق والشفافية في تغطية أخبار الثورة بما يُبقي حاضنتها وجمهورها على اطلاع دائم على ثورتهم ومعرفة وثيقة بما تمر به من ظروف وما تحققه من إنجازات وإخفاقات. هذا هو أصل عمل الإعلام ومن هنا جاء اسمه، فهو "إعلام العامة بما لا يصلون إليه بأنفسهم من أنباء". لكن هذا القدر من الأداء الإعلامي لا يكفي وحده لجعل الإعلام ثورياً، فماذا أيضاً؟ ما الخصوصية التي تميز إعلام الثورة عن سواه؟

إنها طبيعة صياغة الأخبار وتقديمها، فالإعلام الثوري هو رأس الحربة في "الحرب النفسية" التي تتكامل مع معركة السلاح. إن إعلامي الثورة لا يكذب على جمهوره ولا يخفي حقائقَ من حق الجمهور معرفتها ولا يغير الوقائع مجاملة لبعض الأطراف وخوفاً من سواها، ولكنه يستغل موهبته الإعلامية لصياغة الأخبار بطريقة ترفع الروح المعنوية وتدفع الإحباط واليأس عن نفوس أهل الثورة وتصنع العكس مع الأعداء، مع حجب الأخبار الحرجة والأسرار العسكرية التي قد يستفيد العدو من كشفها... إلى آخر البديهيات التي يعرفها كل إعلامي محترف.

ثم تبقى لإعلامنا بعد ذلك إضافة مهمة لا يملكها إعلام العدو ولا يجيدها، لأن معركتنا أخلاقية قبل أن تكون معركةَ سيطرةٍ وغلبة ونفوذ، وما قامت الثورة أساساً إلا من أجل رعاية وتحقيق المبادئ الأخلاقية الكبرى، الحرية والكرامة والعدالة والإنسانية، فلا يجوز لإعلام الثورة أن يتناقض مع أهداف ثورته ومبادئها النبيلة السامية.

من هذا الباب: حماية الأرواح والممتلكات وتوفير الحرية والكرامة لكل الناس والتعامل الإنساني والإسلامي مع المدنيين والأبرياء بغض النظر عن الانتماء العرقي والديني، وإحقاق الحقوق ورد المظالم وكفّ أيدي الجُناة والمعتدين ومحاسبة الظلَمة والمخطئين، وتكريس أم القواعد الشرعية والإنسانية: الانتصاف للضعفاء من الأقوياء والانتصار للمظلومين على الظالمين.

فمَن خالف هذه القواعد الشرعية والإنسانية من الفصائل وغيرها وجب تشغيل آلة الضغط الإعلامي عليه حتى يفيء إلى الحق، ومن لم يستجب وأصرّ على الظلم وتلبّسَ بالفساد فينبغي أن يصبح مادة دائمة للإعلام الثوري، يلاحقه في كل صعيد حتى يَصلح ويُصلح أو يفارق الثورة ويكفّ أذاه عن الناس، فليس أحدٌ فوق الحق، وويلٌ لثورة يأكل فيها القويُّ الضعيفَ ولا يجد المظلومون فيها ناصرين على الظالمين.

* * *


بقيت ملاحظة أخيرة عن "صحافة الثورة الصفراء". هل تعرفون ما الصحف الصفراء؟ إنها تلك التي تبحث عن القراء والمتابعين من خلال المبالغة في نشر الأخبار الشاذة العجيبة، ليس لأنها أخبار مهمة بل لأنها تُرضي فضول الناس، وليس لأنها أخبار صادقة أو نافعة وإنما لأنها تزيد أعداد القراء والمتابعين فحسب.

ولكن التركيز على هذا النوع من الأخبار ليس عملاً مهنياً شريفاً ويغلب أن يتسبب في تشويه الحقائق والإساءة إلى أفراد وجماعات ومجتمعات. في وقت ما أردت معرفة أخبار بلد عربي فتابعت موقعاً أخبارياً محلياً فيه لا أسمّيه، وبعد بعض الوقت بدأت أشعر أن البلد ليس فيه إلا فساد وسرقة وسطو مسلح وانتحار وقتل وتهريب مخدرات وسوى ذلك من الآفات. ولكني أعرف أنه بلد نظيف آمن وأن أهله أهل نخوة وشهامة وأنهم قوم طيبون مسالمون، فمن أين أتى هذا الانطباع السلبي؟ إنها مشكلة في "بوّاب الموقع" الذي تقمص أسلوب الصحافة الصفراء، فهو يختار عشر حوادث قبيحة شاذة ويهمل عشرة آلاف حادثة خيّرة جميلة، لأن الغاية الأساسية من النشر ليست تقديم صورة حقيقية صادقة عن مجتمعه وإنما هي تقديم أخبار مثيرة تُرضي فضول القراء.

إذا كانت هذه الممارسة مُعيبة وضارة في مجتمع السلم فإنها مدمرة في مجتمع الحرب، لأنها يمكن أن تقتل المعنويات وتكشف الأسرار وتسم الثورة والثوار بأقبح السمات وتتسبب في كوارث لا يعلمها إلا الله، كل ذلك من أجل سبق وخبر وزيادة القراء والمتابعين! فمن صنع ذلك في ثورتنا فلا يستحق شرف لقب "إعلام ثوري"، سواء في ذلك الأفراد والمواقع والصفحات.

* * *


الخلاصة: إن الإعلام الثوري هو بوصلة الثورة وحارسها الأمين، وهو المطالَب بدفعها إذا انطلقت في طريقها الصحيح وردّها عن الخطأ إذا ضلت الطريق، وهو رأس الحربة في الحرب النفسية التي ترفد الجيوش على الأرض. فلا يجوز له أن يسلك سبيلاً يخذّل الهمم ويُضعف النفسيات ويوهن القلوب، ولا أن يتغاضى عن أخطاء الثورة ويتصالح مع الفاسدين، لأن الخطر إذا جاء من خارج الجسم الثوري وعجزنا عن دفعه بقدراتنا الذاتية لم نملك إلا أن نلجأ إلى بالله بالدعاء والرجاء وإلى الناس بخطاب التشجيع والتصبير ورفع المعنويات، أما عندما يأتي الخطر من داخل الجسم الثوري فعلينا أن نملك ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بالخطأ، وما يكفي من الحكمة والبصيرة للبحث عن العلاج قبل فوات الأوان.


اقرأ أيضاً

لكيلا يهلكنا الصمت (1)

 

 

المصادر:

قناة الكاتب على تلغرام