وفاة الباحث المحقِّق والداعية المصلح عبده كوشك (1374- 1436هـ / 1954- 2015م)

الكاتب : أيمن أحمد ذو الغنى
التاريخ : ٥ ٢٠١٥ م

المشاهدات : 3624


وفاة الباحث المحقِّق والداعية المصلح عبده كوشك (1374- 1436هـ / 1954- 2015م)

بسم الله الرحمن الرحيم

إنا لله وإنا إليه راجعون.
ببالغ الأسى تلقَّيت نبأ وفاة الأستاذ الفاضل، الباحث المحقِّق، والخطيب المصلح، الشيخ عبده كوشك الدَّاراني، أحد وجوه مدينة دارَيَّا الكبرى في غوطة دمشق الغربيَّة، إثر حادث أليم وقع له في مُهاجَره مدينة الإسكندرية بمصر، عقب زيارة للشيخ مصطفى العدوي بمدينة المنصورة، صُحبةَ عمِّه والد زوجه الشيخ المحقِّق حسين سليم أسد الدَّاراني، ليلة الخميس الثاني عشر من رجب 1436هـ (30/ 4/ 2015م) عن 62 سنة، وكان الدفن عصر الخميس في المسجد العتيق بمدينة بُرج العرب في الإسكندرية.

رحمه الله تعالى رحمةً واسعة، وغفر لنا وله، وجعل ما قدَّم من عمل في خدمة التراث الإسلاميِّ شافعًا له يوم الحساب.
وعجَّل بشفاء عمِّه الأستاذ حسين أسد مما أصابه من كسر في الحوض وغيره ورضوض في جسده من جرَّاء الحادث.
وأحسن الله عزاء الشام عامَّة ودارَيَّا خاصَّة،
وعزاء طلاب العلم والباحثين المنتفعين بتحقيقاته،
وعزاء أبنائه الحفَّاظ أحمد وأسامة ووائل،
وعزاء عمِّه شيخنا المحقِّق حسين سليم أسد.
إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمًّى.

ترجمة موجَزة:
هو عَبدُه بن عليِّ بن مصطفى كُوشَك الدَّاراني.
وُلد بدارَيَّا دمشق (دارَيَّا الكبرى) عام 1374هـ (1/11/ 1954م).
تخرَّج في كليَّة الاقتصاد والتجارة بجامعة دمشق، عام 1981م.
وعمل سنوات طويلة مفتِّشًا في الجهاز الماليِّ للرَّقابة والتفتيش، ثم استقالَ للتفرُّغ للعمل العلميِّ والتعليميِّ والدعوة والإصلاح.

طلب العلم الشرعيَّ في مسجد سيِّدنا زيد بن ثابت الأنصاريِّ بدمشق، بين عامي 1972 و1980م، فدرس الفقه الشافعيَّ وأصولَ الفقه والتفسيرَ وعلوم القرآن، وفي جامع المِنبَر في دارَيَّا الذي كان يحضُر إليه للتدريس شيخُنا محمد سعيد كوكي رحمه الله، وتخرَّج في علم الحديث والتحقيق بعمِّه الشيخ أبي سليم حسين سليم أسد، وتأثَّر بشيخنا المحدِّث عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله وأفاد منه. 

من مشايخه:
- رائد النهضة المسجدية بدمشق الشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله.
- الشيخ محمَّد عوض رحمه الله.
- الشيخ شوكت الجِبالي رحمه الله.
- الشيخ عبد الفتَّاح السيِّد حفظه الله.
- الشيخ جمال الدين السَّيرَوان حفظه الله.
- شيخنا أسامة بن عبد الكريم الرفاعي حفظه الله.
- شيخنا محمَّد سعيد كوكي رحمه الله.
- شيخنا المحدِّث عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله.
- الشيخ المحقِّق حسين سليم أسد الدَّاراني حفظه الله.
- وأفاد من صحبة العالم والمؤرِّخ الموسوعيِّ الفلسطينيِّ الأستاذ محمَّد محمَّد حسن شُرَّاب نزيل دارَيَّا رحمه الله، وقرأ عليه كتاب (الكامل) للمبرِّد وغيره.

في مَيدان الدعوة والإصلاح:
تولَّى خِطابة (جامع المصطفى) بدارَيَّا منذ تأسيسه مدَّة عشرين سنة، وكان مديرًا للمعهد الشرعيِّ فيه لتحفيظ القرآن الكريم، ومن ثمرات رعايته للطلبة تخريجُ أجيال من حفَّاظ كتاب الله كلَّ عام.

وكانت له يدٌ طُولى في الإصلاح والعمل الخيريِّ بدارَيَّا، من ذلك:
- أسهم في بناء عدد غير قليل من المساجد فيها، مثل: جامع نور الدين الشهيد، وجامع التوبة، وجامع حُذيفة بن اليَمان، وجامع السَّمْح بن مالك الخَولاني، وجامع الحسن والحسين.
- أسهم في إنشاء (جمعيَّة الشِّفاء الخيرية) فيها.
- أسهم في إنشاء (مشروع كفالة اليتيم) فيها.
- أسهم في إنشاء أكبر مكتبة في دارَيَّا بجامع المصطفى.
- أسهم في (العُرس الجماعيِّ) الذي زُوِّج فيه قُرابة خمسين شابًّا من أبنائها.
وله نشاط دائب في حلِّ مشكلات الأهالي، والسَّعي في حوائجهم، وكان بيته مقصِدًا لليَتامى والأرامل والمساكين، جزاه الله عنهم خيرًا.

من شمائله:
عُرف من وقت مبكِّر من حياته بالجِدِّية والعصاميَّة، فأشرف على تربية إخوته بعد وفاة أبيه، وتنشئتهم التنشئةَ السويَّة، جامعًا بين الدراسة والعمل، لضيق ذات اليد.
واتَّصف بشدَّة الحرص على وقته، فكان ينكبُّ على الكتب؛ قراءةً ودراسةً وتحقيقًا، بما لا يقلُّ عن 17 ساعة يوميًّا، لا يصرفه عن الكتاب إلا السعيُ في شؤون المحتاجين والمُعوِزين القاصدين مساعدتَه.

وكان منظَّمًا في شؤونه وأعماله، لكلِّ مهمَّة في جدوله وقتٌ معلوم، حتى وجَبات الطعام لها وقتٌ محدَّد لا يحيد عنه.
ولم يكن يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت، يميل إلى الزهد والتواضُع، ولا يهتمُّ بما يوضَع له من طعام، فحسبُه أن يتناولَ منه ما يقيم أوَده ويعينه على أداء رسالته.

ولا يكاد يشغله همٌّ عن حال الأمَّة والنهوض بها وبشبابها؛ رجالِ المستقبل وبُناته. مع حرص شديد على رفع مستوى أبناء بلدته دارَيَّا علميًّا وفكريًّا وسلوكيًّا. وكان سَمحًا سهلاً، يؤثر العفوَ عن المسيء، وجمعَ الكلمة ونبذَ الفرقة. 

وكان رحمه الله رقيقَ الحاشية سريعَ العَبرة، قلَّما ذكر الله إلا فاضت عيناه خشيةً وإخباتًا، ومذ توفِّيَت أمُّه قبل عشرين عامًا لم يذكرها مرَّة إلا سبقته الدموع، حزنًا على فقدها.
ولبناته لديه منزلةٌ ومحبَّة خاصَّة، ما إن تدخل إحداهنَّ المنزل حتى يسارعَ إليها لاستقبالها والترحيب بها، بحنان غامر.

تحقيقاته العلميَّة:
- الشمائل المحمَّدية، للإمام الترمذي (279هـ).
- طبقات الأسماء المفردة من الصحابة والتابعين وأصحاب الحديث، لأبي بكر البَرْديجي (301هـ).
- جزء الحافظ محمَّد بن بشَّار فيما رواه عن شيوخه، برواية أبي يعلى المَوصلي (307هـ)، من سلسلة لقاء العشر الأواخر.
- الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عِياض (544هـ).
- تهذيب الأسماء واللغات، للإمام النووي (676هـ)، في 4 مجلَّدات.
- روضة الطالبين وعُمدة المفتين، للإمام النووي، في 8 مجلَّدات.
- التِّبيان في آداب حمَلة القرآن، للإمام النووي.
- رياض الصالحين، للإمام النووي.
- الأذكار، للإمام النووي.
- الكبائر وتبيين المحارم، للحافظ الذهبي (748هـ).
- تحفة المودود بأحكام المولود، للإمام ابن قيِّم الجَوزية (751هـ).
- بلوغ المرام من أدلَّة الأحكام، للحافظ ابن حجَر (852هـ).
- الروضة الريَّا فيمن دُفن بدارَيَّا، لعبد الرحمن العِمادي (1051هـ).
- نور اليقين في سيرة سيِّد المرسَلين، لمحمَّد الخُضَري (1345هـ).
- محاضرات في تاريخ الأمم الإسلاميَّة الدولة الأموية، لمحمَّد الخُضَري.
- محاضرات في تاريخ الأمم الإسلاميَّة الدولة العباسيَّة، لمحمَّد الخُضَري.
- إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، لمحمَّد الخُضَري.  

وله في التأليف:
- المقصِد الأعلى في تقريب أحاديث الحافظ أبي يعلى (وهو ترتيبٌ لأحاديث مسند أبي يعلى المَوصلي على أبواب الفقه)، في 3 مجلَّدات.
- رَوض الخمائل على الشَّمائل.
-  دنيا النساء الصالحات، كلمات ومواقف.
- أنيس الأخيار في المواعظ والأخبار.
- صفَحات مشرقة من تاريخ أعلام الأمَّة.

وشارك عمَّه الأستاذ حسين أسد في إخراج عدد من الكتب، منها:
- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبَّان، للحافظ الهيثمي (707هـ).
- معجم شيوخ أبي يعلى المَوصلى.

أمَّا آخر ما حقَّق فكتاب (جامع العلوم والحِكَم) لابن رجب الحنبلي (795هـ)، وهو في الطباعة الآن.
وأمَّا آخر ما ألَّف، ووضع عنه القلمَ قبل يومين من وفاته فهو كتابٌ عن أعلام مدينة دارَيَّا، بعنوان (جَولةٌ مع شخصيَّات شاميَّة دارانيَّة) وكانت آخر ترجمة في الكتاب لأستاذه محمَّد محمَّد حسن شُرَّاب رحمه الله.

أولاده:
رزقه الله ذرِّية صالحة أحسبُهم كذلك ولا أزكِّيهم، عِدَّتهم ثلاثةُ أبناء وثلاثُ بنات، كلُّهم حافظ لكتاب الله تعالى، هنيئًا له بهم، وجزاه عنهم خيرًا.
وهم:
المهندس أحمد بن عبده كوشك، مهندس مدني.
المهندس أسامة بن عبده كوشك، مهندس ميكانيك.
الطبيب وائل بن عبده كوشك، طبيب أسنان.
الأستاذة أسماء بنت عبده كوشك، متخصِّصة باللغة العربيَّة.
الأستاذة آلاء بنت عبده كوشك، متخصِّصة باللغة العربيَّة أيضًا.
الطالبة دعاء بنت عبده كوشك، تدرس في المرحلة الجامعيَّة فرع الإعلام.
وفَّقهم الله جميعًا، وسدَّدهم للسير على درب أبيهم العالم الصالح.

وصيَّته:
لشدَّة ولع الشيخ عبده كوشك بكتاب (الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى) صلَّى الله عليه وسلَّم، للقاضي عِياض، ودوام صُحبته له، أوصى أن يوضَعَ معه في قبره نسخةٌ من تحقيقه له، ليكونَ رفيقَه حيًّا ومَيتًا!
وقد أُنفذت وصيَّتُه، بوضع الكتاب عند رأسه يرحمه الله.

خاتمته:
كان امتُحن الأستاذ عبده كوشك رحمه الله في أحداث الثمانينيَّات الميلادية ولوحق وأوذي، ولكنَّ الله لطَف به وأنجاه.
ومع اندلاع الثورة الشعبيَّة في سوريا على الظُّلم والاستبداد، عام 2011م، وقف موقفًا جريئًا في نُصرة الحقِّ وأهله، وفي إثر خُطبة عصماء هاجم فيها الظلمَ والظلاَّم، عُزل عن الخِطابة، واقتُحم بيتُه، وسيق إلى المعتقَل، بيدَ أن لطف الله أحاط به مرَّة أخرى؛ إذ أُفرج عنه في اليوم التالي.
ثم اضطُرَّ مُكرهًا إلى الخروج من الشام مهاجرًا إلى الإسكندرية، في الشهر التاسع عام 2013م، عقب المجزرة المروِّعة بدارَيَّا، التي ذهب ضحيَّتَها زُهاء ألف بريء من الأهالي العُزْل، تقبَّلهم الله في الشهداء الأبرار.

ولم يكد يستقرُّ في مصرَ حتى ابتُلي بالقُلاب (داء القلب)، وأصيب بأزمة شديدة، أُجري له على إثرها جِراحةُ قلب مفتوح.
ولكنه مع ذلك لم يدَع القلم ولم يركن إلى الراحة، بل مضى على سنَّته في الشام يواصل الليلَ بالنهار في تحقيق كتب الحديث والعلم الشرعيِّ، شكر الله جهوده وكتب لها القَبول.

وفي الأشهر الأخيرة من حياته حُبِّب إليه قيامُ الليل ومناجاة الخالق سبحانه في السَّحَر، وبات يجد فيه أُنسَه وراحة باله وطُمأنينة فؤاده.

وفي الأيام الأخيرة من عمُره المبارك نشط مع عمِّه وأستاذه الشيخ حسين سليم أسد في زيارة بعض علماء مصرَ من المشتغلين بعلم الحديث، فكانت لهم زيارةٌ للشيخ المحدِّث أبي إسحاق الحُوَيني، وزيارة للشيخ مصطفى العدَوي في المنصورة، وعقب عودتهم إلى الإسكندرية من الزيارة الأخيرة وقع لهم الحادثُ المشؤوم؛ إذ دخل في سيارتهم (تراكتور) زراعي، أصاب الجالسين في الخلف إصابات بليغة، أدَّت إلى تهشُّم جُمجُمة الأستاذ ووفاته، أسبغ الباري عليه الرحَمات، وله الحمدُ دومًا على قضائه وقدَره.

ويذكُر أحد رُفقاء رحلته أن الشيخ كان مضطربًا في طريق العودة، يبدو عليه القلق وضيق الصدر، وقد طلب من الإخوة إغلاقَ النوافذ، وقال لهم: الأحسن إذا متنا أن تكونَ النوافذ مغلقة! فكأني به قد أحسَّ بدنوِّ الأجل وقرب لقاء ربِّه!

وأخبرهم المغسِّل: أنه حين أخرج جُثمانه من ثلاجة المشفى كان جسدُه على خلاف المعهود دافئًا وكأنه لم يوضَع فيها! وكان مُحيَّاه مشرقًا بابتسامة رضًا، يُرجى أن تكونَ بُشرى خير بحُسن الخاتمة.

وفي يوم الجمعة التالي لدفنه، جعل عددٌ من خُطباء الجمعة في مدينة بُرج العرب خُطبتهم عن الشيخ وعن جهوده العلميَّة، ودعَوا له بالرحمة والمغفرة.

كلمات وفاء:
كتب ابنُ شيخه الأخُ الحبيب الأستاذ محمد الطيِّب بن سعيد كوكي كلمات وفاء في رحيله قال فيها:
((تشهد لك كتبُك وإخوانك ومعارفك بعلم رصين وتواضُع جمٍّ ونُكران للذات.
تدخل المكانَ وتخرج فلا يلحَظ الموجودون إلا طيفًا لطيفًا دخل وخرج.
وتراسل العلماء وتتواصل معهم فلا يجدون منك إلا غاية الاحترام والتقدير.
وتسلِّم على أقرانك ونظرائك فلا تُشعرهم بتفوُّقك عليهم.
واليومَ تنتقل بحادث سيَّارة كالذي كان قدَر سيِّدي الوالد فيه!
كنت أشهد محبَّتكم الصافية النقيَّة، وألمح بريقَ عيون الوالد رحمه الله لدى ذكرك كما ألمحها عند لقائك... رحمكما الله.
لا أملك اليومَ مع دمعتيَّ الساخنتَين إلا أن ألتجئَ إلى المولى سبحانه أن تلتقيَ مع سيِّدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تجتمعَ مع أحبابك من المشايخ والعلماء في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
واللهَ نرجو أن يعوِّضَ الأمَّة الإسلاميَّة خيرًا.
وإنا لله وإنا إليه راجعون)).

وكتب أحدُ أحبابه شاعرُ الثورة السورية الأستاذ أنس الدُّغَيم كلمة مؤثِّرة قائلاً:
((كلُّ من حفظ القرآن في ‫دارَيَّا سيقول اليوم: إنا لله وإنا إليه راجعون! ‬
ربما قُصِفت ودُمِّرت كلُّ المساجد التي كنت تُقيم فيها حِلَقَ الذِّكر والعلم، وتؤسِّسُ فيها للجيل القرآنيِّ الجديد، ولكنَّ تلاميذَك اليومَ يعمُرون الجبَهات بقلوبهم وقرآنهم وإيمانهم.
عرفتُكَ محبًّا لله وللإسلام، حاملاً لهموم البلد والأمَّة، محدِّثًا عن رسول الله، محقِّقًا فيما جاء عنه، مربِّيًا للشباب، أستاذًا في مكارم الأخلاق.
كان لقبُ شاعر الإسلام كبيرًا عليَّ، وعندما كنت تقدِّمني به إلى الناس، كان يكبرُ عليَّ مرَّتين.
كان يومُك في سبيل الله أكثرَ من 24 ساعة، وكان قلبُك في سبيل الدين والأمَّة أمَّة.
فكان ما ألَّفتَ من رجال أكثرَ ممَّا صنَّفتَ من كتب.
أحببتُكَ كما لم أحبَّ عالمًا قطُّ، لأنك كنت عاملاً بعلمك، كريمًا بأدبك، طيِّبًا بكرمك.
أستاذي وشيخي، المحدِّث الكبير والمربِّي الفاضل، عبده الكوشك أبو أحمد /دارَيَّا.
سقاكَ الغيثُ إنكَ كنتَ غيثًا   =   و يُسرًا حينَ يُلتَمَسُ اليَسارُ
تلميذك الذي أحبَّك وأحببتَه: أبو معاوية أنس الدغيم)).

أمَّا صهرُه الأستاذ خالد سيِّد سليمان الداراني زوجُ ابنته آلاء، فقد عبَّر عن لوعته بكلمات تقطُر حزنًا، قال:
((عمِّي... شيخي... كُحل عيوني... قُدوتي... صديقي... مغيِّر حياتي.
والد زوجتي الصالحة... جدُّ أولادي الرؤوف العطوف... الجواد الكريم... العَلَم كالجبل الشامخ... العالم المتواضع... العلاَّمة المحقِّق.
من أين أبدؤها؟
كيف لي أن أصدِّقها تلك الحقيقة المرَّة؟!
والله يحكمُ لا معقِّبَ لحُكمه.
نزلتُ إلى قبره لأسجِّيَه بيديَّ هاتين ولا أصدِّق!
أفكُّ رِباطَ قدميه لأهويَ على تقبيلهما، وأمرِّغَهما بوجهي.
أحاول أخذ يديه لأفعلَ ما هممتُ بقدميه.
يده تلك التي قبضَ بها على يدي وقال لي معلنًا أمام العدول: زوَّجتك وأنكحتك فِلذةَ كبدي آلاء.
أناديه: عمِّي قُم معنا، لا ترحل عنَّا، لا تتركنا؛ فإنا بحاجة لنصحك وتوجيهك, عمِّي... معلِّمي... تعال معي يا عمِّي!
ما زلتُ أناديه رغم أني بيديَّ هاتين سجَّيته في قبره!
وضعتُ عند رأسه كتابًا لعشق المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، بتحقيق عينيه، وبيديه المتوضِّئتين (الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى)، كان عمِّي ذاك الكتابَ يمشي على الأرض, أراده شفيعًا وعملاً يقدَمُ به على أرحم الراحمين.
ارتجفَت يداي وذرفت دموعي غِبطةً له وحسرةً على نفسي!
لمثل هذه الساعة كان يعيش.
لمثل هذه اللحَظات استعدَّ واجتهد، ويا حسرةً علينا!
تذكَّرت حينها موقفًا لا أنساه، عندما قلتُ له: يا عمِّي، أرِح نفسَك في رمضان واعتذر ممَّن يقصدك لحاجة، فصحَّتك لها حقٌّ.
فألمحني نظرات الطامع برضا الله وقال لي: والله يا أبو أحمد، (بطق) إذا دقُّوا البابَ وما قضَيت حوائجهم، وأعرف أنه ذنبٌ من ذنوبي حرمني ذلك!
مَن للأرملة والمسكين من بعدك؟!
مَن لليتيم من بعدك؟!
مَن لبناء المساجد من بعدك؟!
مشاريع الخير مَن لها؟!
لا أزكِّيك على الله، ولكن هذه شهادتي فيك، أقف بها يوم القيامة.
معلِّمي، كنتَ على خُطا الحبيب؛ عزيزٌ عليك نوائبُ الدهر فينا وبالمسلمين, حريصٌ علينا وعلى نهضة الشباب, رؤوف رحيم.
كيف لا، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم حبيبُه؟!
دارَيَّا أحبَّتك، بل دمشق عشقتك كما عشقتَها وطلبتَ الموت فيها.
رحلتَ عنَّا فجأة دون مقدِّمات، راحةً لك، وليس ذلك إلا للمؤمن.
عزاؤنا فيك خاتمتُك الحسنى، وعلمك الذي أسأل الله العظيم أن ينفعَنا والمسلمين به.
بل عزاؤنا ما تركتَ من زوجة لم أعرف مثلها في خُلقها وفي أدبها وبرِّها بك وبوالدَيها.
بل ما تركتَ من ستَّة أولاد يحفظون كتابَ الله عن ظهر غيب، كلُّ واحد منهم يُلبسك الله به تاجًا يوم القيامة، بأخذهم القرآنَ عملاً وخُلُقًا.
تركتَ للأمَّة نموذجًا رائعًا من أسرة عملاقة بنَّاءة.
رحمك الله يا عمِّي وجعل قبرَك روضةً من رياض الجنَّة، وجمعَنا جميعًا مع المصطفى صلواتُ الله وسلامه عليه في الفردوس الأعلى، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
والحمد لله ربِّ العالمين)).

وأمَّا ابنُه البارُّ الحافظ أحمد بن عبده كوشك فخطَّ بوَجيب قلبه المكلوم:
((أبتِ الحبيبُ الغالي...
ما كنتُ أعلم أن الموت قد كان أسبقَ للقياك منِّي!
فوالله، لأنتَ روحي وقلبي!
رحلتَ يا أبتِ سريعًا دون أن أودِّعَكَ، وأنا بعيدٌ عنك!
رحلتَ يا أبتِ وأنا لا أدري كيف يقوى بَناني على رثائك؟!
أم كيف تخرُج الكلمات حزينةً لفقدك؟!
رحلتَ يا أبتِ بعد مسيرة من العطاء والتفاني.
أرثيكَ يا أبتِ وكم أتمنَّى لو كنتُ عندك أغسل عن قدمَيك.
أرثيكَ يا أبتِ وأنت الذي تشهد لك أعمالك.
أرثيكَ يا أبتِ وأنت الذي تشهد لك مساجدُ كنت ببنائها قائمًا.
أرثيكَ يا أبتِ وتشهد لك أرملةٌ قمتَ بكسوتها.
أرثيكَ يا أبتِ ويشهد لك يتيمٌ مسحت على رأسه.
أرثيكَ يا أبتِ ويشهد لك مريضٌ كنت سببًا في علاجه.
أرثيكَ يا أبتِ ويشهد لك جيلٌ قمت بتنشئته مذ كانوا أطفالاً إلى أن صاروا رجالاً.
أرثيكَ وأرثيك وأرثيك...
وعزاؤنا أنك والدُنا،
نشهد فيك أنك أفنيتَ عمرك لله، ولخدمة دينه، وحفظ حديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
فجزاك الله خيرًا، وغفر لك بكلِّ دمعة يتيم مسحتَها، وبكلِّ لَبِنة مسجد أسستها، وبكلِّ عمل خير قمتَ به.
وإن القلب ليحزَن، وإن العين لتدمع.
فوالله لك من صلاتي دعاؤها، ومن عملي صدقة جارية.
جمعك الله مع الحبيب المصطفى)).

وأختم بحروف قُدَّت من حُرقة سطَّرتها بيراعة الألم صُغرى بناته الأخت دعاء بنت عبده كوشك:
((بابا...
بقيتُ ليلتين أنتظرك على الأريكة لتدقَّ الباب، لم تأتِ!
بقيتُ يومين أنتظر أن تكلِّمَني، تحدِّثَني... أيضًا لم تأتِ!
أرواحٌ تتلو أرواح، وكأني في وهَم!
كلُّهم يقول:
- عظَّم الله أجركم.
- شكر الله سعيكم.
وأنا أتساءل ببلاهة: مَن ؟!
صرت آلةً تسعى، (روبوتًا) يمشي على الأرض، جسدًا بلا روح، رأسًا بلا عقل!
حقيقيةُ أنني لن أراكَ مجدَّدًا لا تروقُ لي، ولا تدخل في مخِّي!
أسألهم: حقًّا بابا مات؟! يصمتون!
جلبوا إليَّ جسدًا قد كساه البياض، مدَّدوه على الأرض، ونادَوا: وَدِّعي أباك!
بابا...
لم أجرؤ أن أقتربَ منك، ولا حتى أن ألمسك!
لم أصدِّق أنه أنت وما زلتُ كذلك!
كان لديَّ الكثير لأخبرَك به، الكثير لأحدِّثك عنه..
كنت أريد أن أحرِّكَك، أن أُنهضَك، أن أخبرَك بأنني مدلَّلتك الصغيرة التي لا يُعجبها العجَب! ودِدتُّ لو أنني أرتمي بين أحضانك وأقبِّلك!
لكنَّهم سلبوك مني، أخذوك بعيدًا عني... نعم يا بابا... بعيدًا جدًّا جدًّا!
لو كان الموتُ إنسانًا لقتلتُه!
آه يا بابا، لو كانت تعيدُك إليَّ المراثي لكتبتُ فيك ألفَ ألف قصيدة!
للوَّنت الدنيا باسمك! لكتبت حتى تنضُبَ كلماتي! حتى يتوقَّفَ قلبي عن الخفَقان! وقد توقَّف بفقدك.
بابا... لن تُطوى صفحتُك بإذن الله...
أنت بدأتها ونحن سنُكملها، لن تموتَ أحلام الرجال بموتهم، هذه المرَّة وعدَ رجال صدِّقني.
رحمكَ الله.. آنسكَ الله.. عوَّضك الله!
عزائي بفقدك دعواتُ الأرامل واليَتامي لك.
جِباه المصلِّين التي تصلِّي في المساجد التي سعَيت في بنائها.
دموع المحتاجين الذين أعطيتَهم حاجتَهم.
دعَوات المحبِّين.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
حسبُنا الله ونعمَ والوكيل)).


 

الأستاذ عبده كوشك رحمه الله


 

الأستاذ عبده كوشك رحمه الله إلى اليمين، مع عمِّه الشيخ حسين أسد عافاه الله
في زيارة لفضيلة الشيخ المحدِّث أبي إسحاق الحويني، الجالس شفاه الله
وبينهما أبو يحيى الحويني ابن الشيخ أبي إسحاق
في 18 جُمادى الآخرة 1436هـ

 


نموذج من خطِّ الأستاذ عبده كوشك
من غلاف آخر كتاب أنجزه قبل يومين من وفاته رحمه الله

 

 


الأستاذ عبده كوشك إلى اليمين رحمه الله
مع عمِّه الشيخ حسين سليم أسد عافاه الله

المصادر: