الشمس ستشرق من غوطة الشام

الكاتب : لبيب النحاس
التاريخ : ٢٤ ٢٠١٨ م

المشاهدات : 2792


الشمس ستشرق من غوطة الشام

من الصعب بمكان في مثل الظروف التي تمر بها الغوطة الشرقية وأهلنا فيها أن نجد ما نقوله للتخفيف عنهم وهم يواجهون جحيماً من الظلم والقتل والقهر لم تشهده البشرية في تاريخنا المعاصر، ولعل ما ينفعنا في مثل هذه اللحظات بعد التوكل على الله وتعليق آمالنا به وحده سبحانه وتعالى هو أن ننظر لعبر ودروس الماضي وأن نقرأ الواقع كما يجب حتى نتمكن من اتخاذ القرارات الصحيحة وأن نهيئ أنفسنا لما هو قادم.

لن أستحضر سيرة أعظم البشر ولا صحابته الأبرار ومن تبعهم حتى لا يقول البعض إننا أتينا بأمثلة لا طاقة لنا بها، بل حتى لن أستحضر مثال "قطز" وقتله لرسل هولاكو وتعليق رؤوسهم على أبواب القاهرة لقطع الطريق أمام أي تفكير بالاستسلام أو حتى التفاوض وسط اجتياح المغول لبلاد المسلمين بطريقة لم تعرفها البشرية من قبل، لن أستحضر أياً من هذه الأمثلة، بل سأستحضر تاريخ رجل ليس من أبناء جلدتنا ولم يمر على وفاته الكثير.

وينستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، رجل قصير القامة، عُرف بإدمانه على التدخين والشرب، وتبنيه لآراء حادة بل مهينة في بعض القضايا فضلاً عن عنصريته، إلا أنه كان كاتباً ومؤرخاً من الطراز الرفيع، والأهم من ذلك أنه أنقذ بلاده وأوروبا من النازية بعد أن فُقد الأمل وهيمنت الانهزامية.
في عام ١٩٤٠، النازية اجتاحت معظم أوروبا الغربية ووصلت إلى شواطئ فرنسا، وحاصرت حوالي ٣٠٠ ألف جندي بريطاني بشكل كامل على سواحل “دنكيرك”، مصيرهم الفناء المحتم وسط انهيار عام للجيش البريطاني، ووسط ضغوط هائلة من قيادات بريطانية على تشرشل للتفاوض مع هتلر والقبول بشروط كانت ستؤدي بطريقة أو بأخرى إلى تسليم بريطانيا للنازية، بعد أن سلمت فرنسا ومعظم دول أوروبا، بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية خارج المعركة كلياً حينها.

في ظل هذه الظروف التاريخية القاتمة بل اليائسة، ووسط قناعة السياسيين بضرورة التفاوض بل والتسليم لهتلر، أبلغ تشرشل شعبه أنه "ليس لدي ما أقدمه سوى الدماء، الكدح، الدموع والعرق"، وبعد أن تمكن من خلال خطة عبقرية وجريئة من إخراج مقاتليه المحاصرين في فرنسا، خطب تشرشل خطبته التاريخية في البرلمان البريطاني وقال جملته الشهيرة: "سنحارب في فرنسا، سنقاتل في البحار والمحيطات، سندافع عن أرضنا مهما كان الثمن، سنحارب على الشواطئ، وسننازل العدو في المهابط، ونبارزه في الميادين ونشتبك في الشوارع، بل سنصل للتلال ولن نستسلم أبداً، لنعد أنفسنا لأداء واجباتنا ونتحمل معاً، فإن استمرت الإمبراطورية البريطانية سيقول الرجال إن تلك اللحظة هي أروع اللحظات التي مرت بهم" وبعد خمس سنوات من هذا الخطاب، انتحر هتلر وهزمت النازية، واليوم أوروبا هي التي نعرفها وتخيلها تشرشل.

اليوم، في سوريا الثورة، وفي سوريا النازية الأسدية والروسية، نعيش نفس الظروف بل وأقسى، ولكن ليس أمامنا سوى نفس الخيارات مهما كانت مؤلمة ومكلفة، لقد كان رأي معظم سياسيي فرنسا وبريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية ميالاً بل ضاغطاً للتفاوض مع هتلر والتسوية معه، ولا شك أن غالب المدنيين كانوا ضد الفاتورة العالية التي كانت تنتظرهم في حال واجهوا هتلر، ولكن الجميع ـ اليوم ـ متفق دون أي شك أو خلاف أن قرار المواجهة كان القرار الصحيح بل الخيار الوحيد، ,وأن الغاية التي تم تحقيقها استحقت كل التضحيات وهي تضحيات أقل بكثير مما لو خضع تشرشل وهادن هتلر.

إن اللحظات التي نعيشها الآن لا تحتمل الكثير من التحليل السياسي أو النظريات أو الخطابات العاطفية، هذه ليست لحظة خيارات، بل هي لحظة قرار مصيري وخيار واحد لا نملك غيره: وهو الصمود حتى نكسر إرادة العدو، ولكن نصمد ونحن على بينة من عدة أمور أهمها أننا سندفع ثمناً باهظاً اليوم، ولكنه سيكون أقل من أي ثمن سندفعه إذا استسلمنا، وهذه أهم حقيقة يجب أن تترسخ في عقولنا وقلوبنا، وهي أننا ندفع اليوم ثمن مستقبل أولادنا والأجيال التي ستلينا حتى لا تذكرنا الأجيال القادمة كما ذكرنا نحن من سبقنا.

لقد أعطى الروس النظام مهلة زمنية محدودة للقضاء على الغوطة الشرقية وأهلها وتركيعهم، وهو أسلوب يعكس حالة يأس وتخبط في الحقيقة بسبب فشل مخططات الروس السياسية حتى الآن في سوريا، وهذه ليست أول مرة يقومون فيها بخطوة من هذا القبيل، فقد أمهلوا النظام والايرانيين عدة أسابيع في درعا لتحقيق حسم عسكري بعد معركة "الموت ولا المذلة"، واليوم يكررون نفس السيناريو بعد معركة "بأنهم ظُلموا" في الغوطة، فرموا الكرة في ملعب النظام ومهدوا له الطريق سياسياً وعسكرياً ليرتكب الجرائم ويحاول الحسم في الغوطة.


تعويل النظام والروس حالياً هو على كسر الإرادة الشعبية وعلى إلحاق أكبر أذى وضرر ممكن بالمدنيين لإجبارهم وإجبار الفصائل الثورية المسلحة من ورائهم على الاستسلام (حتى وإن حاولوا استعمال ألفاظ مختلفة) لا سيما أن النظام قد فشل بشكل واضح وفاضح في تحقيق أي تقدم عسكري، هذه هي الاستراتيجية الحقيقية للنظام وهذا ما يجب أن ندركه قبل اتخاذ أي قرار.
إن المجتمع الدولي لن يتحرك بالسرعة المطلوبة، ولن يتحرك فعلياً إلا عندما تبلغ التضحيات مستوىً معيناً وعندما يرى العالم أن النظام عاجز عن تحقيق أي تقدم، وبأن الفاتورة السياسية والإنسانية لإجرام الروس أكبر من أن تتحملها روسيا نفسها أو المجتمع الدولي، الروس يعولون على تكرار سيناريو حلب، لذلك يجب أن نعيد النظر في أسباب سقوط حلب الشرقية وهي ثلاثة بشكل أساسي أولاً: انقسام الفصائل والعدوان فيما بينها قبيل وأثناء سقوط حلب وتأخرها في حسم أمرها واتخاذ قرار القتال والثبات مهما كلف الأمر ولإصغائها لوعود كاذبة أو التمسك بسراب المفاوضات، وثانياً: عدم تحرك باقي سوريا عسكرياً بالقدر الكافي والمطلوب، وثالثاً: ضعف الحراك السياسي الموحد والمنسق يومها للضغط على المجتمع الدولي.

لا شك أن سقوط حلب كان نتاج أشهر طويلة من سوء الإدارة والتخطيط من قبل فصائل حلب، وهذا قد ينطبق على الغوطة لا قدر الله إذا لم تتدارك قيادات الغوطة العسكرية أولاً والمدنية ثانياً الأمر وتحسم قرارها وأمرها وتهيِّئَ نفسها والمدنيين لمعركة الصمود والعض على الأصابع، في هذه المعركة هناك ثلاث خطوات أساسية يجب أن نتخذها:

أولاً: توحيد القرار العسكري وخروج قيادات الفصائل أمام الناس للإعلان عن وحدة القرار والمصير، وطي صفحة الماضي، وإنشاء غرفة عمليات مشتركة لكامل الغوطة.

ثانياً: إعلان الغوطة الشرقية منطقة خالية من أي مسمى من مسميات "النصرة" أو "الهيئة" وذلك من خلال الضغط عليهم لحل أنفسهم وذوبانهم في مكونات أخرى مع تقديم كل الضمانات اللازمة على مستوى الأفراد، وذلك لحرمان الروس والنظام من أهم عناصر خطابهم السياسي في تبرير قصف الغوطة الشرقية.

ثالثاً: تشكيل تمثيل سياسي موحد للغوطة مهمته العمل على مدار الساعة للتواصل والضغط على مراكز صنع القرار الدولية والإقليمية والدول الضامنة لاتفاقية "خفض التصعيد"، ووضع تصور كامل لكيفية إدارة الأزمة على صعيد الخطاب والعمل السياسي، وكيفية حشد واستثمار جهود السوريين وشبكات علاقاتهم المبعثرة في اتجاه واحد، وهي مهمة لم يتم القيام بها على وجهها الصحيح وكان التعاطي معها في معظم الأحيان على مبدأ ردّ الفعل.

يجب على الحراك السياسي الثوري بشكل عام والمتعلق بالغوطة بشكل خاص إنهاء حالة "أحادية القطب" في الملف السوري والهيمنة الروسية عليه، وذلك بتوفير الشروط اللازمة لتدخل أمريكي إيجابي أكبر يعيد "ثنائية القطب" إلى الحرب في سوريا ويحقق توازناً لصالح الثورة.

وبما أن المستهدف الأساسي هم المدنيون يجب أن تكون الغاية الأساسية من كل التحركات الميدانية والسياسية هي التخفيف عنهم ما أمكن، وعلى قادات الفصائل أن يدركوا هذه الحقيقة ويعملوا وفقاً لها، وهذا قد يستوجب على أهل الغوطة أن يعيشوا في الأنفاق والملاجئ تحت الأرض لفترات طويلة -على قلة وضعف البنية التحتية-، وسيتوجب عليهم وهم يواجهون أهوالاً أقرب ما تكون لتوصيف أهوال يوم القيامة أن يتكاتفوا أكثر من أي وقت مضى، عليهم أن يعلموا أنهم يدفعون ضريبة حرية وكرامة سوريا بأكملها، وأن يعلموا أيضاً أنهم لن يكونوا لوحدهم بإذن الله.

فمع بغي عصابة الجولاني على الشمال السوري من جديد وتحييد كتلة عسكرية هامة للثورة كانت قادرة على فتح الجبهات، تتوجه العيون والقلوب إلى مهد الثورة، إلى رجال حوران، إلى درعا، الكل مدرك لحقيقة الضغوط التي تتعرض لها فصائل حوران حتى لا تتحرك وتقوم بواجبها الثوري والأخلاقي والديني تجاه إخوانهم في الغوطة، ونعلم تماماً الواقع الذي تم ترسيخه في الجنوب من قبل أطراف دولية وإقليمية، ونعلم أن أي خطوة في الاتجاه الصحيح من قبل الفصائل الثورية هناك هي مخاطرة كبيرة وربما سيكون لها تبعات، ولكن…..

ألم تكن ثورتنا كلها مخاطرة كبيرة؟ ألم نعلم أن لها تبعات؟ ألم نعلم أيضاً أن تبعات عدم التحرك أكبر وعواقب القبول بأنصاف الحلول أو التوقف في منتصف الطريق أسوأ من الاستمرار مهما كلف الأمر؟ انتهى زمن الخيارات الآمنة والنتائج المضمونة، بل انتهى زمن النمطية والبيروقراطية في تعاملنا مع الواقع والأحداث: إن أي قرار صائب ومطلوب تتخذه الثورة سيكون محفوفاً بالمخاطر، ولكن ليس أمامنا من خيار سوى ذلك، وهو أن نتحرى القرار الصحيح، وأن نأخذ بأسباب النجاح ودرء المفاسد، ومن ثم الاستعداد لدفع الثمن، وهذا ما تنتظره الثورة من فصائل حوران، هذا ما تنتظره سوريا من مهد ثورتها.


قال تشرشل في حديثه عن حفنة الطيارين في سلاح الجو البريطاني الذين كان لهم الدور الأساسي في بداية هزيمة النازية: "لم يسبق في تاريخ النزاعات البشرية أن كان هذا العدد الكبير من الناس مديوناً بهذا القدر الكبير لهذه الحفنة القليلة"، ليس عندي أدنى شك بأن فضل الغوطة الشرقية وأهلها على الثورة وسوريا سيكون على نفس المستوى الذي ذكره تشرشل، وليس عندي أدنى شك من أن باقي سوريا ستهب للنجدة، ولكن يجب أن يستمر الضغط على الجميع ويجب وضع الجميع أمام مسؤولياتهم وتسمية الأمور بمسمياتها، فالنظام والروس لن يتوقفوا ما لم يتم إيقافهم، والشعب السوري مخير بين أمرين: إما أن يقاتل تحت القصف لتحقيق حريته ومستقبل أبنائه، أو أن يموت ببطء في أقبية تعذيب النظام أو مخيمات التشرد والضياع في المنفى.

لن أقول أنقذوا الغوطة، بل أنقذوا أنفسكم، أنقذوا سوريا، ولا تنتظروا الوعود والضمانات ولا تصغوا لها، واعلموا يقيناً أنه سيتم استخدام "فيتو" لأي قرار لصالح الغوطة حتى يرى العالم والروس عجز النظام، ولن نحصل على أي مكسب من خلال السياسة إلا بعد أن نَثبت على الأرض، ولن تكون هناك مفاوضات ذات معنى وقيمة حول الغوطة إلا إذا اقتنع العدو أن تكلفة الاستمرار أكبر من أي خيار آخر، ولن تأتي الدول لدعمنا إلا بعد أن يوقنوا أننا لن نُكسر.

المصادر:

نداء سوريا