عملية (غصن الزيتون) على عفرين: أبعادها والمواقف الدولية تجاهها والسيناريوهات المتوقعة

الكاتب : مركز طوران للدراسات
التاريخ : ٣٠ ٢٠١٨ م

المشاهدات : 3004


عملية (غصن الزيتون) على عفرين: أبعادها والمواقف الدولية تجاهها والسيناريوهات المتوقعة

 

تريد تركيا أن تثبت دورها الوازن في المنطقة، الذي لا يمكن تجاوزه ولا إلغاؤه بمكائد سياسية أو بعقوبات اقتصادية أو بأحلاف باتت المصالح المتضاربة فيها تهز أساساتها، وتجلى ذلك في التعامل الذي بدا أكثر جرأة مع الملف السوري عسكريا وسياسيا من خلال العملية العسكرية التي قادتها في جرابلس “عملية درع الفرات” وتقديم الدعم لفصائل “الجيش السوري الحر” ومحاربة الإرهاب، لتعيد الكرة ثانية وفق ما هو متاح لها في عملية “غصن الزيتون”، لتبين هذه العملية صعود الخط البياني التركي، وإعلاء شأن مؤسسة الجيش السوري الحر كقوة بديلة عن جيش النظام، وهو ما عكسته تصريحات كافة المسؤولين الأتراك في تصريحاتهم عن العملية التي يشترك فيها الجيش التركي إلى جانب الجيش الحر، هادفة من وراء ذلك لحماية أمنها القومي وبناء مشروعها الإقليمي الذي ترى في سوريا بعد إسقاط نظام الأسد عمقها الاستراتيجي فيه.


لمشاهدة الدراسة بصيغة PDF يرجى الضغط هنا

مقدمة:

بدأت تركيا عمليتها العسكرية على عفرين بتاريخ 20 كانون الثاني من العام 2018م، رغم ما تحمله من تعقيدات ويترتب عليها من عواقب وتبعات، نظرا للارتباط الوثيق بين الميليشيات الكردية والولايات المتحدة الأمريكية وما يضفيه ذلك من احتمالية تطور العملية ونشوب صراع دولي، من خلال التمهيد المدفعي وغارات الطيران والتقدم في عدة محاور، أعلنت رئاسة أركان الجيش التركي أن العملية العسكرية في منطقة عفرين السورية بدأت الساعة الخامسة مساء  تحت اسم عملية “غصن الزيتون"، وذلك بعد تهيئة الظروف المناسبة، واكتمال التخطيط اللازم للعملية وقيامها بعملية حسابية  دقيقة ومعقدة لعواقب العملية على طريقة التحليل الرباعي SOAT)) بالموازنة بين نقط القوة والضعف والفرص والتهديدات، أو طريقة التخطيط باستخدام السيناريو ربما، مع ما سبق ذلك من محاولة إبرام صفقات وتفاهمات من شأنها ضمان نجاح عملية “غصن الزيتون”.

في هذه الورقة البحثية نتعرف على الأهمية الجيواستراتيجية لمنطقة عفرين، وأبعاد عملية “غصن الزيتون” والترتيبات التركية لها، وموقف أبرز اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحة السورية منها، والسيناريوهات المتوقعة لهذه العملية بعد أيام من انطلاقها.

 

أولاً: عفرين … الموقع الجغرافي والبنية الديمغرافية والأهمية الجيواستراتيجية

أ – الموقع والمساحة والتضاريس:

تقع منطقة عفرين في أقصى الزاوية الشمالية الغربية من سوريا قرب الحدود التركية، وتتبع إداريًا لمحافظة حلب، تبلغ مساحتها نحو 3850 كيلومترًا مربعًا، أي ما يعادل 2% من إجمالي مساحة سوريا.

هذا بما يتعلق بحدودها الإدارية، أما بما يتعلق بحدودها الحالية الموضحة على خريطة توزع مناطق السيطرة بين قوى الصراع السوري فتبلغ مساحتها بعد تقدم القوات التركية وقوات الجيش الحر نحو 2300 كيلومترا مربعا، وتمتاز عفرين بتنوع تضاريسها بين الجبال والسهول، ويمر منها نهر عفرين، ويعتبر الجبل الكبير أو ما يعرف بجبل كرية مازن أعلى قممها.

 

ب – السياق التاريخي والبنية الديمغرافية:

كانت منطقة عفرين سابقًا تدعى “جبل كرداغ” وتتبع لولاية كلس التركية، وفي عهد الانتداب الفرنسي تم تقسيم المنطقة بين تركيا وسوريا، واتخذت اسم عفرين تبعًا لمدينة عفرين التي شكلت مركزها.

ومع انطلاق الثورة السورية شارك سكان المنطقة عربا وكردا بالاحتجاجات التي تعرضت للقمع، ومع عدة تحولات انسحبت قوات النظام السوري منها في العام 2012م، وتطورت الأحداث في المنطقة ومرت بعدة تقلبات انتهت بإعلان حزب الاتحاد الديمقراطي في العام 2014م إدارة ذاتية في الشمال السوري على ثلاثة تجمعات: عين العرب/كوباني، والجزيرة شرقا، وعفرين غربا، وفي آب من العام 2016م أطلقت تركيا عملية “درع الفرات” على المناطق المحاذية للمدينة، في كل من جرابلس والباب، إلا أن تلك العلمية كانت موجهة ضد تنظيم الدولة بشكل أساسي، وساهمت في عزل مدينة عفرين.

ووفق الإحصائيات الرسمية فإن عدد سكان عفرين بلغ قبل الثورة السورية نحو 500 ألف نسمة، لكن هذا العدد تضاعف بعد عام 2011، ويشير مسؤولون في “الإدارة الذاتية” إلى أن نصف مليون نازح من حلب وريفها استقروا في عفرين على اعتبار أنها منطقة ظلت آمنة نسبيًا خلال الثورة.

يشكل الكرد غالبية سكان منطقة عفرين، مع الإشارة إلى وجود بعض القرى ذات الغالبية العربية في المنطقة، ولا توجد إحصائيات دقيقة عن نسبة العرب إلى الكرد، لكن مع نزوح نصف مليون نسمة من حلب والمناطق المجاورة فإن ذلك يجعل نسبة العرب في عفرين حاليًا أكبر من الكرد.

ومع سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، أصبح قاصدو المنطقة من خارجها يحتاجون إلى كفيل ليتمكنوا من دخولها، كما تحولت اللوحات الطرقية والدلالات المكانية إلى اللغة الكردية، إضافة إلى أغلب واجهات المحال والمناطق السياحية.

وأوضح الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في  تصريح له نهاية العام الماضي “أن البنية الديموغرافية في عفرين بدأت تعود إلى طبيعتها بعد عودة السكان الأصليين إلى المدينة، لافتاً إلى أن 50 في المائة من سكان عفرين عرب و30 في المائة أكراد، أما البقية فهم من التركمان والمجموعات الأخرى، وعندما يبدأ السوريون بالعودة من مخيمات اللجوء إلى هناك فستعود المدن إلى أصحابها الحقيقيين"، كما أصدر مجلس الأمن القومي التركي بيانا اتهم فيه الوحدات الكردية بمواصلة العمل على تغيير البنية الديموغرافية لسوريا والقيام بعمليات تطهير عرقي، وأُرسلت عدة رسائل “تطمينية” للسكان بأنهم غير مستهدفين بعملية “غصن الزيتون"، واستعانت تركيا بفصائل الجيش الحر تفاديا لإثارة الحساسيات بسبب التركيبة الديمغرافية للمدينة ولذلك لجأت للاستعانة بقوات من الجيش الحر .

 

ج – الأهمية الجيوسياسية والجيواسترتيجية:

رغم أن الموقع الجغرافي ثابت لا يتغير، إلا أن توزع السيطرة وتحالف القوى على الأرض قد يزيد من الأهمية الاستراتيجية لبقعة جغرافية دون أخرى، ويزيد من حساسية موقعها تماما كما هو حال منطقة عفرين التي تمتاز بأهمية كبيرة لدى أطراف الصراع في سوريا:

بالنسبة للمعارضة السورية: تعد عفرين نقطة فصل وعقبة كؤود في وجه تحقيق اتصال جغرافي بين مناطق سيطرة المعارضة في كل من شمال حلب وشمال إدلب، وللسيطرة عليها أهمية بالغة للمعارضة السورية.

بالنسبة للأكراد: تحتل عفرين أهمية استراتيجية في المشروع الكردي، نظرا لأنها تشكل الجسر الجغرافي لوصل هذا المشروع بالبحر الأبيض إذا أتاحت الظروف ذلك، كما صرح بذلك العديد من المسؤولين الأكراد".

بالنسبة لتركيا: تعد المنطقة خطا أحمرا بالنسبة لتركيا التي تؤكد أنها لن تسمح بإقامة كيان كردي على حدود تركيا الجنوبية مع سوريا، وقال الرئيس التركي أردوغان في تصريح له إنه لن يسمح بإقامة “ممر إرهابي يبدأ من عفرين ويمتد إلى البحر المتوسط".

بالنسبة للولايات المتحدة: تعد عفرين المنطقة الوحيدة الخاضعة لسيطرة الأكراد والمرتبطة بحدود مع محافظة إدلب، ما يعطيها أهمية كبيرة للولايات المتحدة في حال الرغبة بأي توسع في المدينة تحت ذريعة الإرهاب لأهداف مختلفة.

يسعى النظام السوري للسيطرة على منطقة عفرين ليزيد من طول الشريط الحدودي المسيطر عليه مع تركيا لزيادة الضغط والتهديد عليها، وذلك لتواجد الحليف الروسي وضعف احتمالية السيطرة على أماكن أخرى من الشريط الحدودي خاصة تلك الواقعة شرق الفرات والممتلئة بالقواعد الأمريكية.

بالنسبة للروس: تعد المنطقة الوحيدة التي تنتشر فيها قوة روسية، وتخضع لسيطرة وحدات الحماية الكردية في آن واحد، ما يجعل الهيمنة الروسية فيها فريدة وعقبة في وجه التمدد الأمريكي، خاصة وأن باقي المناطق الخاضعة لنفوذ الأكراد تعج بالقواعد العسكرية الأمريكية.

 

ثانياً: التخطيط التركي لغصن الزيتون

بدا واضحا ما تشكله الميليشيات الكردية الانفصالية من تهديد للأمن القومي التركي، وضرورة التحرك المدروس لمواجهة هذا الخطر، ومعرفة نقطة الانطلاق وساعة الصفر المناسبتين، وبناء على ذلك بدأت تركيا بالتجهيز للمعركة من خلال جولات الأستانة وقبلها، ولعل أولى الخطى العملية كانت تحييد هيئة تحرير الشام ودخول نقاط المراقبة التركية إلى عمق إدلب في سابقة استثنائية مفاجئة، ولعل ذلك كان بعد تطمينات وتأكيدات تركية لهيئة تحرير الشام أن المواجه القادمة ستكون مع ميليشيات الحماية الكردية، لتتيح لها دخولا آمنا إلى حدود عفرين، وتقتصر نقاط المراقبة على المنطقة هناك حيث ” تواصل القوات المسلحة التركية، منذ منتصف تشرين الأول 2017م، تحصين مواقع نقاط المراقبة على خط إدلب – عفرين، بهدف مراقبة “منطقة خفض التوتر” في إدلب" كهدف معلن يحمل وراءه أهدافا أخرى لعل أبرزها:

1) ضمان عدم تمدد كردي نحو إدلب مدعوم أمريكيا بذريعة محاربة الإرهاب، بهدف إحكام السيطرة على الشريط الحدودي والوصول إلى شواطئ المتوسط وإتمام عزل تركيا.

2) تثبيت نقاط استطلاع ومراقبة متقدمة لرصد ساحة العملية المرتقبة ودراسة التحركات الكردية من مختلف المحاور عن كثب.

3) ترتيب الأوراق لمحور الاقتحام من الجهة الغربية لعفرين انطلاقا من شمال إدلب في حال اقتضت الخطة العسكرية ذلك.

 

ثالثاً: موقف اللاعبين الدوليين على الساحة السورية من العملية التركية

أ – الموقف الأمريكي … بين الصدمة والترقب والحذر والاستدراج:

عمل الأتراك على تهيئة المناخ المناسب للعملية بحيث لا تصطدم بشكل مباشر مع أي من القوى الفاعلة على الساحة السورية، وأولها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث اختارت تركيا بقعة كردية محاصرة  لا تخضع للنفوذ الأمريكي المباشر إذ لا تحتوي أي قواعد عسكرية أمريكية، على خلاف المناطق الكردية شرقي نهر الفرات، والتي سيصل عدد القواعد الأمريكية هناك بحسب تصريح الرئيس التركي ـ في حال إقامة قاعدة جديدة في الرقة ـ إلى أربعة عشر قاعدة، خمسةٌ منها قواعد جوية، والبقية قواعد عسكرية عادية"، ممتدة على طول الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا، ولعل غياب القواعد في عفرين خفف كثيرا من دور اللاعب الأمريكي في المنطقة رغم الدعم الكبير الذي تقدمه الولايات المتحدة للأكراد، إلا أنه من الصعوبة بمكان أن يصل إلى عفرين، وخاصة ذلك العتاد الثقيل، إذا استثنيا شحن الأسلحة التي يتم تهريبها عبر مناطق سيطرة النظام.

 

من جهة أخرى فقد أُحرِجَت الولايات المتحدة من تناقضها المستمر في تعاملها مع الأتراك، أحد الأعضاء المؤسسين لحلف شمال الأطلسي، والذي من المفترض أن يحد من التهديدات الأمنية التي تواجه الدول الأعضاء، إلا أن دولة عضواً هي الأخرى من تقود هذا التهديد، ثم ما تلبث أن تُطمئن الأتراك، ثم تعاود دعم الأكراد لينتهي المطاف بإعلان التحالف “تشكيل قوة قوامها ثلاثون ألف مقاتل بقيادة الوحدات الكردية لنشرها شمال سوريا على حدود تركيا والعراق وعلى نهر الفرات"، ما اعتبرته أنقرة ذروة التهديد لأمنها القومي وأنها لن تسمح بإنشاء “ممر إرهابي” عند الحدود مع سوريا، حيث أعلن مجلس الأمن القومي التركي في بيان له “لن نسمح بتشكيل ممر إرهابي على حدودنا كما أننا لن نسمح بتشكيل جيش إرهابي هناك وسيتم اتخاذ كل أشكال التدابير اللازمة في هذا الصدد"، ليعتبر الأتراك هذا التطور الأخير هو اللحظة المناسبة للتحرك بوجه الولايات المتحدة التي ما لبثت أن عدلت من لهجتها تجاه أنقرة، حيث صرح وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون “نحن مدينون بتوضيحات لتركيا، لا ننشئ أي قوة حدودية في سوريا، وأن بلاده “تسمع وتأخذ بجدية مخاوف تركيا على أمنها القومي". في حين رد وزير الخارجية التركي على تصريحات تيلرسون “لم تشعرنا بالارتياح التام”، موضحا أن “واشنطن لم تف بوعودها بشأن منبج والرقة، وارتيابنا من الولايات المتحدة مستمر".

أما رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، فوجه رسائل قبل بدء عملية عفرين لأمريكا قائلا: “ممارسات الولايات المتحدة في سوريا مخالفة ومناقضة لعلاقات التحالف، رغم أنها حليفتنا في الناتو". لتنطلق العملية العسكرية التركية رغم التودد الأمريكي الأخير، وليأتي إعلان البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دعا نظيره التركي رجب طيب اردوغان خلال اتصال هاتفي إلى “الحد من عملياته العسكرية في سوريا” طالبا أيضا تجنب” أي عمل قد يتسبب بمواجهة بين القوات التركية والأمريكية".

يشكل قرار أنقرة رسالة عملية للرفض التركي ويعبر عن جرأتها ومدى انزعاجها من سياسة الولايات المتحدة المتبعة معها، والتي تهدف بشكل أو بآخر إلى عزلها عن محيطها العربي بكيان كردي يمنع عودة مكانتها التاريخية في المنطقة والتي يتطلع إليها الأتراك.

حيث عكست التصريحات التركية عقب العملية درجة عالية من الثقة لدى صناع القرار التركي، وبحثهم في الخطوات التالية للعملية وكأنها انتهت وحققت أهدافها، إذ صرح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو: “إن الرئيس رجب طيب أردوغان أبلغ نظيره الأميركي دونالد ترامب في الاتصال الهاتفي بضرورة سحب القوات الأميركية من منطقة منبج بشمال سوريا.

 

 

ب – الموقف الروسي … براغماتية منقطعة النظير:

لا شك أن خريطة عفرين وضعت على الطاولة خلال زيارة هكان فيدان رئيس جهاز الاستخبارات التركي، و رئيس هيئة الأركان التركي، الفريق الأول خلوصي آكار، إلى روسيا للقاء نظيره الروسي الجنرال فاليري غيراسيموف لبحث “القضايا الأمنية الإقليمية و  وآخر التطورات في سوريا، بين وزيري الدفاع والاستخبارات لكلا البلدين، ليضعوا اللمسات الأخيرة على التفاهم الروسي ـ التركي الذي أدى بدوره لانسحاب الشرطة الروسية، كضوء أخضر للأتراك لبدء العملية “غضن الزيتون”، وفتح الأجواء السورية أمام المقاتلات التركية، كما صرح بذلك وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إن تركيا تبحث مع روسيا وإيران شن عملية جوية على مدينة عفرين بمحافظة حلب السورية، وفقاً لما ذكره التلفزيون التركي الرسمي.

 ولعل التصريحات الروسية التي تحمل الولايات المتحدة مسؤولية وصول الأحداث إلى نقطة الصراع هذه تدلنا على الضوء الأخضر الروسي، حيث أكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن الإجراءات الأحادية الجانب المتخذة من قبل واشنطن في سوريا هي سبب “غضب تركيا".

وبالرغم من النفي الروسي والتناقض المعتاد في تصريحاتهم إلا أن قراءة سريعة للموقف الروسي في سوريا يدلنا على براغماتية منقطعة النظير يتحرك بها الروس، فتارة يحاربون الأمريكان في الشمال في حين يتفقون معهم في الجنوب، وتارة يتوافقون مع الحلفاء الإيرانيين في الشمال ويتنكرون لهم في الجنوب، ومثل ذلك يفعلونه مع النظام السوري، ومع المعارضة السورية حيث يلعبون دور الصديق الضامن والعدو الغادر في الوقت نفسه.

في حين يتساءل البعض عن ماهية المكاسب الروسية من العلمية العسكرية التركية في عفرين، وعن المقابل الذي قدمته تركيا في هذه الصفقة؛ لا بد من الرجوع في سياق الأحداث إلى اجتماعات الأستانة وما صدر عنها، حيث اعتُبرت المناطق الشمالية خاضعة لسلطة الضامنين الروسي ـ التركي والمنطقة الجنوبية تحت سلطة الضامنين الأمريكي ـ الروسي، في حين بقي محيط دمشق خاضعا لسلطة الإيرانيين والروس، وهو إحدى تنازلات تركيا عما لا تطاله يداها من مناطق خاضعة لنفوذ المعارضة في الجنوب والريف الدمشقي، بل والريف الشمالي لحمص أيضا والاكتفاء بإدلب، إن لم نقل شمال إدلب وعفرين مع جرابلس ومحيطهما.

 

حيث أشارت بعض التسريبات أنه مما نتج عن اجتماع الأستانة جعل المنطقة شرق سكة الحجاز منطقة منزوعة السلاح، تحت حكم المجالس المحلية ونفوذ النظام السوري، وهو ما تُرجم عمليا في المعارك الأخير ة الواقعة في إدلب، دون أن تتغير الخطة التركية في عفرين أو تتأخر على أقل تقدير، حيث إنها تعد مقاتلي الجيش الحر لمعركة عفرين في أثناء سقوط تلك المناطق دون اتخاذ موقف تركي حازم من التقدم الحاصل.

في حين لا يعني ذلك أبدا أن المعركة لا تصب في صالح قوات المعارضة، التي ستحقق لها في حال نجاحها اتصالا جغرافيا بين جرابلس وإدلب مرورا بعفرين التي تبلغ مساحتها نحو 2300 كم، وهي مساحة قد تساوي المنطقة الواقعة شرق السكة والتي تقدر بنحو 3000كم، وعلاوة على ذلك كله ستخضع تلك المناطق للحماية والدعم التركيين، ما من شأنه جعلها منطقة آمنة مرسومة الحدود بشكل يتصف بشيء من الديمومة، وهو ما صرح به البنتاغون مؤخرا، ويمنع طيران النظام السوري ولا يتيح للطيران الروسي من تنفيذ غارات في تلك المناطق، ما قد يتيح عودة للاجئين بشكل نسبي ولو كان ذلك الحل دون طموحات الشعب السوري، إلا أنه ضمن الواقع والإمكانيات سيمنع مزيدا من التقهقر في صفوف المعارضة.
في حين قد يبقى مستقبل هيئة تحرير الشام مشوبا ببعض الضبابية، إلا أنه مع الانقسامات العديدة في صفوف هذا الجسم على مستويات عليا، وسعي البعض لتشكيل فرع لتنظيم القاعدة في سوريا، مع ما يتلاقى فيه هذا التنظيم مع تنظيم الدولة الناشئ في إدلب ينبئ بوجود بذرة فنائه من الداخل وعودة عزلته رغم تحولاته العديدة، بل قد يعاود الاندماج مع أقرب الجماعات إليه وهو تنظيم الدولة، ليؤدي مهمته في قضم الرقعة الخضراء وإيجاد الذرائع الدولية لاستهدافها، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار مدى قدرة الإيرانيين على التحكم بالتنظيم.

 

ج – النظام السوري وإيران … موقف المتفرج:

يعلو الموقفَ الإيراني خيبة أمل عارمة تجاه ما يجري على الساحة السورية، من فقدان لزمام القيادة وعجز عن ترجمة المكتسبات العسكرية والتضحيات البشرية في نفوذ حقيقي سياسي أو اقتصادي، إذ تم إبعاد إيران من أقرب حلفائها في الحرب عن عقود إعادة الإعمار، وهي روسيا، بل وتقليم أظافرها في الجنوب السوري عقب تفاهمات روسية ـ أمريكية سابقة على هامش قمتي هامبورغ وفيتنام وما نتج عنهما.

ولا يختلف الأمر كثيرا إذ يستمر التحجيم الروسي لإيران شمال سوريا، وتأخذ وضع المتفرج أكثر من الفاعل، مكتفية بالتصريح بعدم رضاها بالأداء الروسي والتركي ومجريات الأمور في عفرين، حيث دعت وزارة الخارجية الإيرانية، السلطات التركية إلى إنهاء العملية العسكرية في مدينة عفرين السورية والامتناع عن التصعيد، محذرة من أن استمرار الأزمة قد يؤدي إلى تقوية الجماعات الإرهابية.

وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي إن إيران “تتابع عن كثب وبقلق الأحداث الجارية في مدينة عفرين، وتأمل انتهاء العمليات فوراً والامتناع عن تصعيد الأزمة في المناطق الحدودية بين تركيا وسوريا"، وحمل قاسمي الولايات المتحدة المسؤولية في زعزعة أمن المنطقة بقوله:  “مادامت القوات الأمريكية وحلفاؤها من الجماعات التكفيرية والإرهابية متواجدة في سوريا خلافا للقوانين الدولية والمصالح الوطنية للشعب السوري، فإن هذه الأزمة سوف تستمر"، ما يجعل الاعتراض الإيراني بين اللا والنعم، خاصة مع ارتباط الأكراد بالعدو الأمريكي، والذي أضعف قدرة الإيرانيين على كبح جماح أنقرة، التي أكدت على تنسيق عسكري مع الطرف الإيراني، قد لا يكون تجاوز حد الإبلاغ وتنسيق المجال الجوي.

ولم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للنظام السوري الذي زعم نائب وزير خارجيته فيصل المقداد أن “قوات الدفاع الجوية السورية استعادت قوتها الكاملة وهي جاهزة لتدمير الأهداف الجوية التركية في سماء سوريا"، إلا أن ما نقلته وكالة سبوتنيك الروسية عن نشر منظومة “كورال” التركية للتشويش قرب مدينة عفرين القادرة على مواجهة “إس 400” في الأراضي السورية أفقد تصريحات المقداد مضمونها، وبينت بوضوح أن النظام السوري أسير الموقف الروسي ولا يملك من السيادة على الأراضي السورية أكثر من الادعاء والتصاريح الإعلامية.

 

د – الموقف الأوربي … تباين في الرؤى وتبدلٌ في المواقف:

 بدت بروكسل عاجزة نسبيا عن توحيد الموقف السياسي لدول الاتحاد الأوربي، خاصة تجاه قضية متعلقة بتركيا، التي كانت ومازالت قضية انضمامها للاتحاد محل جدل وخلاف كبيرين، إلا أننا نمر على موقف أبرز اللاعبين الأوربيين؛

فمن جهتها أعربت برلين على لسان نائبة المتحدث باسم الحكومة الألمانية عن قلقها إزاء العملية التركية في عفرين وطالبت بوقفها، لكنها أقرت في الوقت نفسه بـ “المصالح الأمنية المشروعة” لأنقرة، و أعلن وزير الخارجية الألماني، سيغمار غابرييل، الخميس 25 كانون الثاني 2018، أنه طلب من حلف شمال الأطلسي (الناتو) إجراء محادثات داخل الحلف إثر التدخل العسكري التركي في عفرين بكوردستان سوريا، وعن تجميد الموافقات على صفقات دفاعية مع تركيا بينها تطوير دبابات ألمانية الصنع تستخدم في العملية التركية في سوريا ضد وحدات حماية الشعب، وفي ظل هذا التناقض يصعب تحديد الموقف الألماني، هل سيقف لجانب أنقرة عائدا بالعلاقات الألمانية ـ التركية إلى سابق عهدها لتحاكي التحالف العثماني الألماني أيام الحرب العالمية الأولى، أم ستبقي على توتراتها المورثة من مشاكل متراكمة ربما كان آخرها حول قاعدة أنجرليك، من جانب آخر كان الموقف البريطاني أكثر وضوحا في تأييده للتحرك التركي، حيث صرح المتحدث باسم الخارجية البريطانية أن لدى تركيا المنضوية في حلف شمال الأطلسي مصلحة مشروعة في ضمان أمن حدودها، مضيفا أن بريطانيا ملتزمة بالعمل بشكل وثيق مع تركيا وحلفاء آخرين من أجل إيجاد حلول في سوريا، أما فرنسا تحرّكت مباشرة وطالبت بعقد قمّة طارئة لمجلس الأمن من أجل وقف التدهور الأمنيّ في الإقليم والغوطة الشرقية وإدلب، ما وتّر علاقتها بتركيا، وقد يكون مرد ذلك إلى تغير الموقف الفرنسي تجاه القضية السورية ككل مع قدوم إيمانويل ماكرون لسدة الحكم والموقف الأوربي من تركيا بشكل عام، وكذلك البحث الفرنسي عن مدخل للحضور القوي في الملف السوري تمهيدا لنيل استحقاقات إعادة الإعمار، والتي تراها باريس مرتبطة بـ “المناطق التي يسودها حكم مقبول على صعيد الحقوق الأساسيّة” هي إشارة إلى المناطق التي يسيطر عليها الأكراد، كما لفتت النظر إلى ذلك “وكالة الصحافة الفرنسيّة” في حين طالما افتخر الأكراد بأنظمة الحكم التي يقيمونها داخل المناطق التي يحكمونها، وعلى سبيل المثال فإن المجلس التنفيذيّ الخاص بعفرين وهو المجلس الأعلى في الإقليم تترأّسه امرأة، هيفي إبراهيم مصطفى".

 

ﮬ – الموقف العربي … تعارض وضعف:

أعلنت أنقرة أن الخارجية التركية أطلعت رؤساء البعثات الدبلوماسية للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى إيران، على معلومات بشأن العملية، كما تم إبلاغ سفراء الأردن والعراق ولبنان وقطر والكويت والسعودية بالتطورات".

ويمكن استشفاف الموقف العراقي، بمعارضة أقرب للتأييد لما يتشارك فيه مع تركيا من إشكالات مع الإثنية الكردية، في حين “أعادت الخارجية المصرية في بيان لها التأكيد على موقف القاهرة الرافض للحلول العسكرية، والداعي لانخراط كل أطياف الشعب السوري في مفاوضات جادة في إطار عملية سياسية شاملة، والحفاظ على سيادة ووحدة الأراضي السورية".

من جانبها كانت الإمارات أشد اعتراضا على العملية، لما عرف عنها من معارضة للسياسة التركية وصلت لحد المهاترات الإعلامية بين كبار رجال الدولتين، فضلا عن الدعم الذي تقدمه الإمارات للأكراد، على عكس قطر التي كان سكوتها رضى ضمني عن العملية، في حين كان الصمت السعودي عصيا على التحليل.

 

رابعاً: مجريات العملية والسيناريوهات المتوقعة

أمام تناقض المواقف تلك، والتخطيط التركي الدقيق والتحضيرات المتريثة، وخيبة الأمل الكردية من التخاذل الروسي الأمريكي، يبقى المشهد العسكري في عفرين أمام سيناريوهات عدة يحكمها ثبات أو تغيير موقف اللاعبين، وجغرافيا المنطقة، ومدى قدرة الميليشيات الكردية على خوض حرب استنزاف ضد الأتراك وقوات الجيش السوري الحر المتحالفة معها، ويمكن سبر تلك الاحتمالات وفق الآتي:

أ – السيناريو الأول: تحقيق كامل أهداف العملية بالسرعة المطلوبة:

بالسيطرة على كامل عفرين، وفق المخطط التركي والوقت المتوقع للمعركة، دون ظهور أي عقبات في وجه العملية، سواء على الصعيد الدولي أو التصدي الكردي أو الشأن المحلي التركي، أما الميليشيات الكردية، فأمام صدمتها بالموقف الأمريكي والروسي، تعيش حالة من التخبط خاصة أمام الحرب النفسية التي تشنها أنقرة قبل وأثناء العملية، إضافة لذلك تنوع محاور العمل وعدم وجود عمق استراتيجي للأكراد في عفرين أو خطوط إمداد، وعلى صعيد الرأي العام التركي، فقد ساهمت التصريحات المبكرة حول العملية بتهيئة وحشد الرأي العام التركي والتفافه حول القيادة العسكرية والسياسية.

ب – السيناريو الثاني: نجاح جزئي بالسيطرة على شمال عفرين:

في حين قد يعترض سير العملية العسكرية بعض العقبات التي تؤخر تقدم القوات التركية، أو تعيقه لحد لا يسمح لها بالاستمرار، بسبب طبيعة المنطقة الجبلية وإمكانية التحصن فيها والعقيدة العسكرية الذي يتمتع بها العنصر الكردي، وما يشكله عامل الحصار النسبي من دافع للصمود لدى مقاتلي وحدات الحماية الكردية، حيث “أعلنت الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا حالة “النفير العام” دفاعاً عن عفرين، تزامناً مع اشتباكات عنيفة مستمرة في اليوم الرابع من عملية “غصن الزيتون” التي تشنها تركيا وفصائل سورية معارضة على المنطقة، ورغم أن تركيا أعلنت عن مقتل /3/ جنود حتى الآن، إلا أن احتمالية نشوب حرب استنزاف طويلة تزيد من خسائر الجيش التركي، مع ما تتعرض له البلدات التركية الحدودية من قصف كردي مزعج، قد يؤثر على سير العملية، ويجعل أنقرة تنتقل للخطة (ب) التي من المؤكد أنها لن تتخلى فيها عن السيطرة على شمال عفرين والشريط الحدودي على الأقل، فيما يزيد من احتمالية عدم قدرة الأتراك على بسط نفوذهم على كامل المنطقة إفساحُ المجال من قبل الأكراد لنظام الأسد بالتقدم في المنطقة على حساب القوات التركية، إلا أن حسابات عدة تعترض هذه المعادلة، منها الموافقة الروسية ومدى قدرة الأكراد على الصمود دون الاستعانة بالنظام السوري.

ج – السيناريو الثالث: فشل العملية بتحقيق أهدافها وخروج العملية عن السيطرة:

لن تسمح تركيا مهما بلغ حجم القوة الكردية أو الخسائر التركية أو طول مدتها بوقوف المعركة، لما يترتب على ذلك من عواقب وتبعات، إلا أن احتمالا واردا قد يؤذن بفشل العملية، وهو خروج المعركة عن السيطرة التكتيكية، وكبح جماحها دوليا بحراك لحلف الناتو أو مجلس الأمن أو الولايات المتحدة منفردة، خاصة إذا تذكرنا ما قامت به فرنسا من رفع القضية للنقاش في مجلس الأمن وإثارة للملفات الحقوقية ومطالبة برلين لحلف شمال الأطلسي بمناقشة معركة “غصن الزيتون”، ما قد يعيد للذاكرة أحداث حرب الخليج الثانية واستدراج النظام العراقي قبل شن معركة عاصفة الصحراء، كذلك الأمر، حرب تدخل الناتو ضد الصرب في حرب البوسنة، إلى غير ذلك من الأمثلة، إلا أن تركيا بقوتها الحالية وحنكتها السياسية قد تكون تجاوزت بمسافات طويلة ما جرى مع النظام العراقي أو الصربي، يضاف لذلك قابلية تخلي الأمريكان عن المنطقة مقابل تفادي صدام مباشر عالي التكاليف، إذ لا تشكل لهم المنطقة أهمية كبيرة كما تشكله منطقة شرق الفرات في حين قد تسعى الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا كذلك الأمر، إلى تزويد الأكراد بأسلحة نوعية، تعرقل تقدم القوات التركية، خاصة أن العملية بعد مرور اليوم السابع على انطلاقها شهدت هدوءاً حذراً نتيجة الوضع الجوي الضبابي الذي أعاق عملية التقدم  بعد أن تقدمت من عدة محاور وسيطرت على قرى وبلدات في محيط عفرين (شنكل، هاي أوغلو، عرساوا، كورني، بلي كوي، زهران، شيخ خروز، شمالي عفرين، إضافة إلى آدمانلي وبلال كوي وعمر أوشاكي، وقرية حمام من محور جندريس، إلى جانب قرى شيخ وباسي ومرصو وحفتار،  كما تمت السيطرة على تلال في منطقة راجو) التابعة لعفرين في إطار العملية.

 

الخاتمة:

تريد تركيا أن تثبت دورها الوازن في المنطقة، الذي لا يمكن تجاوزه ولا إلغاؤه بمكائد سياسية أو بعقوبات اقتصادية أو بأحلاف باتت المصالح المتضاربة فيها تهز أساساتها، وتجلى ذلك في التعامل الذي بدا أكثر جرأة مع الملف السوري عسكريا وسياسيا من خلال العملية العسكرية التي قادتها في جرابلس “عملية درع الفرات” وتقديم الدعم لفصائل “الجيش السوري الحر” ومحاربة الإرهاب لتعيد الكرة ثانية وفق ما هو متاح لها في عملية “غصن الزيتون”، لتبين هذه العملية صعود الخط البياني التركي، وإعلاء شأن مؤسسة الجيش السوري الحر كقوة بديلة عن جيش النظام، وهو ما عكسته تصريحات كافة المسؤولين الأتراك في تصريحاتهم عن العملية التي يشترك فيها الجيش التركي إلى جانب الجيش الحر، وقد تتابع بعدها تركيا الصعود على نحو أكبر في النسق الدولي، مثبتة بذلك قدرتها على تجاوز القطب الأمريكي، ولو ضمن إطار تكتيكي، مفلتة من العديد من القيود التي تعترضها، في حماية أمنها القومي وبناء مشروعها الإقليمي، الذي ترى في سوريا بعد إسقاط الأسد عمقها الاستراتيجي فيه، مع ما قد يواجهها من صعوبات في مواجهاتها القادمة شرق الفرات.

 

المصادر: