السُبُلُ النَّافِعَةُ في اجتماعِ الأُمَّةِ وائتِلافِها(5): العدل والإنصاف

الكاتب : فايز الصلاح
التاريخ : ١١ ٢٠١٧ م

المشاهدات : 3386


السُبُلُ النَّافِعَةُ في اجتماعِ الأُمَّةِ وائتِلافِها(5): العدل والإنصاف

ومن السُبُلُ النَّافِعَةُ في اجتماعِ الأُمَّةِ وائتِلافِها:إعمالُ العدل والإنصاف على مستوى الأفراد والجماعات، فإنه واجبٌ مع جميع الخلق حتى مع الكافر، ويتأكَّدُ هذا الواجب في حقِّ من يَتصدَّى للحكم على الآخرين في الخصومات والمقالات من حكّامٍ وقضاةٍ ودعاةٍ،قال شيخُ الإسلام في "منهاج السنة النبوية" (4/ 337):" وَالْكَلَامُ فِي النَّاسِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ، لَا بِجَهْلٍ وَظُلْمٍ، كَحَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ".
وقد أمر الله بالعدل في الأمور كلها فقال عزَّ وجلَّ:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
وأَمَرَ به مع القريب والبعيد، والصديق والعدو, قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة : 8]. قال الطبري في تفسيره :" يعني بذلك جلَّ ثناؤه:يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله محمد ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله،شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم،ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ماحددتُ لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم،ولا تقصروا فيما حددتُ لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم ، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي واعملوا فيه بأمري".وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في" منهاج السنة" 5/127:" وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمورٌ به، فإذا كان البغضُ الذي أمر الله به قد نُهيَ صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويلٍ وشبهةٍ أو بهوى نفس؟! فهو أحقُّ أن لا يُظلم، بل يُعدل عليه".
ولما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة يخرصُ ثمرَ خيبر قال لهم عبد الله رضي الله عنه :"والله لقد جئتكم من أحبِّ الناس إليَّ ، ولأنتم أبْغَضُ إليَّ من عدَّتِكُمْ من القِردَةِ ،والخنازير، ولا يحْمِلُني بُغضي إياكم على أن لا أعدل عليكم ، فقالُوا : بهذا قامت السماوات والأرض"،أخرجه البخاري.
ورتَّبَ الله الأجر العظيم للعادلين المنصفين ففي صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص- رضي اللّه عنهما- قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :"إنَّ المُقْسِطِينَ عند الله على مَنَابِرَ من نُورٍ عن يَمينِ الرَّحْمنِ - وكلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - الَّذينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وأَهْلِيهمْ وَمَا وَلُوا".
والظلمُ مرتعُه وخيمٌ في الدنيا والآخرة ،فالله لا يحبُّ الظلم والظالمين ،قال تعالى:{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [آل عمران: 57] , ولعظم الظلم فقد حرَّمه الله على نفسه فقال في الحديث القدسي:"يا عبادي إني حَرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّما ، فلا تَظَالموا "،رواه مسلم.
ومن نفائس كلام شيخ الإسلام في"مجموع الفتاوى" (28/ 146):"وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم". فالباغي يُصرَع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة".
قلت:ياليت أهل الغلو من الفصائل المقاتلة في الشام وغيرها تعي هذا الكلام وتعمل به،فإنَّ ماتراه من اندحار داعش وأخواتها إنما سببه الأعظم البغي والظلم.
لقد عمّ عدل المسلمين حتى غمر أهل الذمة من اليهود والنصارى، ويُذكر أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله كتب إلى واليه على البصرة يقول له:"ثم انظر من قِبَلك من أهل الذمة قد كَبُرت سِنُّه، وضعفت قوته وولّت عنه المكاسبُ، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمرَ رضي الله عنه مرّ بشيخ من أهل الذمةِ يسألُ على أبواب الناسِ فقال: ما أنصفناك إن كنَّا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيّعناك في كِبرك، ثم أجري من بيت المال ما يصلحه".
ولقد تميَّز أهلُ السنة والجماعة خاصةً من بين الفرق بالعدل والانصاف وخاصة مع مخالفيهم،قال شيخ الإسلام في" منهاج السنة" (5/158).: "أهل السنة يستعملون مع أهل الأهواء العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإنَّ الظلم حرام مطلقاً، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون به".
وهذا العدل والإنصاف له صوره المتعددة التي كانت قديما عند سلفنا وينبغي علينا اليوم إحياؤها ونشرها حتى تكون ثقافة عامة بين جميع طبقات الأمة ،ومن هذه الصور:
1- من ظلمنا فكفَّرنا أو بدَّعنا فلا يجوز لنا أن نكفَّره أو نبدَّعه ردّاً لظلمه، وإنما نحكم عليه بما هو أهله، قال شيخ الإسلام في"الرد على البكري" (2/ 492):" فلهذا كان أهل السنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك؛ ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله. وكذلك التكفير حقٌّ لله فلا يُكفَّر إلا من كفَّره الله ورسوله".
2- ومن العدل والإنصاف أن لا ننسب للأفراد أو الجماعات مالم يقولوه ويعملوه، وخاصة منهم العلماء والجماعات والهيئات الإسلامية، فإنَّ نسبة الباطل لهم ظلم وجهل ويؤدي إلى الشحناء والبغضاء فالتفرق والاختلاف.
3-ومن العدل والإنصاف أن لا نجعل جميع المخالفين لنا من كافرين ومبتدعين في طبقةٍ ومرتبةٍ واحدةٍ، فهناك الكافر المقاتل لنا والمسالم، وهناك من هو بدعته مغلظة ودون ذلك ،قال شيخ الإسلام في"الفتاوى" 35/201:" كلّ من كان مؤمنا بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم فهو خير من كلّ من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة سواء كانت بدعة الخوارج والشّيعة والمرجئة والقدريّة أو غيرهم، فإنّ اليهود والنّصارى كفّار كفرا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنّه موافق لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا مخالف له لم يكن كافرا به، ولو قدر أنّه يكفّر فليس كفره مثل كفر من كذّب الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم".
4- ومن العدل والإنصاف أن نعلم أن الشخص الواحد تجتمع فيه الحسنات والسيئات، فلا يجوز لنا أن نلغي حسناته من أجل سيئاته،ولا نلغي سيئاته من أجل حسناته بل يعامل بما يقتضيه الشرع،قال شيخ الإسلام في" مجموع الفتاوى" (27/478):"من أصول أهل السنة التي فارقوا فيها الخوارج أن: الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات، فيثاب على حسناته ويعاقب على سيئاته، ويحمد على حسناته، ويُذَم على سيئاته، وأنه من وجه مرضيٌّ محبوب، ومن وجه بغيض مسخوط، ومذهب أهل السنة والجماعة: أنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد  الذنوب، ولا بمجرد التأويل، بل الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله"، وقال أيضا في"مجموع الفتاوى"(11/96):"وأهل السنة والجماعة يقولون: ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو أن المؤمن يستحق وعد الله وفضله الثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وأن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يُثاب عليه وما يُعاقب عليه، وما يُحمد عليه وما يُذم عليه، وما يُحب منه وما يُبغض منه؛ فهذا هذا".
5- ومن العدل والإنصاف أن نقبل الحقَّ ممن نطق به ولو كان عدواً، وأن نردَّ الباطل ولو كان من القريب الحبيب، فالعبرة بالقولِ لا بالقائل، وفي قصة الشيطان مع أبي هريرة رضي الله عنه حين وكَّله الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، ومجيء الشيطان إليه أكثر من مرة حتى علّمه أن يقرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه، وأنه بذلك يكون محفوظاً من الله ولا يقربه شيطانٌ حتى يصبح، في هذه القصة صدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم القول وإن صدرَ من الشيطان حيث قال: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب"،رواه البخاري.
قال ابن حجر في"الفتح" 4/616:" إن الحكمة قد يتلقّاها الفاجرُ فلا ينتفع بها، وتؤخذُ عنه فينتفع بها، وإن الكافرَ قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن ولا يكون بذلك مؤمناً، وبأن الكذّاب قد يصدُقُ".
ومن روائع كلام ابن القيم رحمه الله في"طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص: 393) قوله:"على أن عادتنا فى مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض ولا نتعصب لطائفة على طائفة، بل نوافق كل طائفةٍ على ما معها من الحق ونخالفها فيما معها من خلاف الحق. لا نستثنى من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك، ونموت عليه ونلقى الله به، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
ومن وصايا ابن مسعود رضي الله عنه :"اعْبُدِ اللهَ وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَزُلْ مَعَ الْقُرْآنِ حَيْثُ زَالَ، وَمَنْ أَتَاكَ بِحَقٍّ فَاقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، وَمَنْ أَتَاكَ بِبَاطِلٍ فَارْدُدْهُ وَإِنْ كَانَ حَبِيبًا قَرِيبًا"،المعجم الكبير للطبراني (9/ 102).
ومن قمة التجرد عند الإمام الشافعي رحمه الله قوله:"ما ناظرت أحداً إلا قلتُ: اللهمّ أجرِ الحقّ على قلبه ولسانه، فإن كان الحقُّ معي اتبعني، وإن كان الحقُّ معه اتبعته".
ومن العجيب أن بعض الناس يتمنى لخصمه أن ينطق بالباطل ليطعن به وينفر منه وهذا خلق ذميم.
6- ومن العدل والإنصاف أن تعرف أن في المخالفين لأهل السنة من هو معذور ويستحق المغفرة ودائرة الإيمان تسعه لتشمله المغفرة كما نص على ذلك شيخ الإسلام بقوله في"منهاج السنة النبوية" (5/ 162):" وإذا قال المؤمن: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان،يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوَّله فخالف السنة أو أذنب ذنبا فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان فيدخل في العموم وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلقٌ كثير ليسوا كفارا بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته ولم يقل إنهم يخلدون في النار فهذا أصلٌ عظيم ينبغي مراعاته فإنَّ كثيراً من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج".
وقال أيضا في"مجموع الفتاوى"(28 / 234):"من عُلم منه الاجتهاد السائغ؛ فلا يجوز أن يُذكر على وجه الذم والتأثيم له؛ فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه: من ثناء ودعاء وغير ذلك؛ وإن عُلم منه النفاق، كما عُرف نفاق جماعة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل عبد الله بن أُبي وذويه، وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة: عبد الله بن سبأ وأمثاله، مثل عبد القدوس بن الحجاج، ومحمد بن سعيد المصلوب؛ فهذا يذكر بالنفاق، وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقاً أو مؤمناً مخطئاً ذُكر بما يُعلم منه؛ فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصداً بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثماً".

 

 

نور سورية 

المصادر: