الوسطيةُ كيفَ شوِّهت

الكاتب : رابطة خطباء الشام
التاريخ : ٢٦ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 6319


الوسطيةُ كيفَ شوِّهت

مقدمة:
إن هذه الأمة وسطٌ في كلِّ شيء، وسط في العقائد والعبادات والعادات، لا إفراط فيها ولا تفريط، أمة صالحة لأن تقود الأمم كلها في أقصر مدة وأيسر سبيل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بنى الأمة في صرح شامخ في مدة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً، وما تزال هذه الأمة إلى اليوم في اتساع وامتداد رغم عوامل الهدم والعداء والكيد لها منذ أن ولدت..
في حين نرى أكبر الحضارات قد تهاوت وانقرضت وأصبحت في عالم النسيان رغم دعم العالم بأجمع لها؛ وما ذاك إلا لأنها من صنع البشر.

أما أمتنا فمن صنع رب البشر، وما تأخرها إلا بسبب عبث أبنائها بها، وتنكرهم لعوامل نهضتها وثباتها.

1- من معاني الوسط
أمة الإسلام، هي خير الأمم، كما ذكر الله ذلك في كتابه، ولكن ما عساها اليوم هي في دركات الهاوية؟
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143].
والوسط في كل شيء أعلاه وأفضله، {أمة وسطاً} في التصور والاعتقاد، لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح، وتعطي لهذا الكيانِ المزدوجِ الطاقاتِ حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
{أمة وسطاً} في التفكير والشعور، لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة، ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.
{أمة وسطاً} في الارتباطات والعلاقات، لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة، ولا تطلقه كذلك فرداً جشعاً لا هم له إلا ذاته، فتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادماً للجماعة والجماعة كافلة لحقوق الفرد في تناسق واتساق...
{أمة وسطاً} هذا نظير قوله جل في علاه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. حيث اختار الله جلّ في علاه أن تكون هذه الأمة في أعلى المراتب، وأسمى المنازل، وخير الأمم، ولكن بشرط، {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، والمعروف الذي تأمر به، هو كل خير، والمنكر الذي تنهى عنه هو كل شرّ، وليس الأمر مقتصرا على النهي عن التدخين، والأمر بإغلاق المحال التجارية وقت صلاة الجمعة، فالأمر أوسع من ذلك بكثير، فبمقدار ارتفاع نسبة التطبيق لهذه الآية بمفومها الواسع، بمقدار ما ترتفع مكانة هذه الأمة، وبمقدار التقصير في تطبيقها، بمقدار ما ينخفض مؤشر هذه الأمة.

2- أدواء تنخر في جسد الأمة
- الجهل:
فمما جعل أمتنا تتنكب عن تلك المرتبة والمكانة التي يحب الله أن تكون فيه، هو بعدنا عن الآية الأولى، النازلة على المصطفى عليه الصلاة والسلام {إقرأ} أمتنا اليوم أمة لا تقرأ، كيف يريد الطالب أن ينجح إذا لم يجد ويثابر؟ وكذلك الأمة لن يكون لها النجاح إلا بالعلم، فديننا دين إقرأ، إقرأ وتعلم وبلغ. كيف لأمتنا أن تقرأ والأمية تنخر في جسدها، أمية ليست على مستوى القراءة فحسب، بل أمية في الصناعة، والاقتصاد، والسياسة... إذا أردنا أن ننهض فهيا بنا نعود إلى الآية الأولى {إقرأ}..
{إقرأ وربك الأكرم} إقرأي أيتها الامة المسلمة والله يمدُّكِ بكرمه في كل شيء صناعةً وتجارةً وسياسة واقتصاداً وعسكرةً وفي كل ميدان من ميادين الحياة.
- التنفير:
وإن مما جعل أمتنا تتنكب عن تلك المرتبة والمكانة التي يحب الله أن تكون فيها، هو ميلنا في تطبيقنا للإسلام عن أهم خصائص هذا الدين، ألا وهي التيسير، لكننا بتنا نستبدلها في كثير من الأحيان بالتعسير، والتنفير، والتنطع والغلو، فرأيي هو الحق وما سوى ذلك فسق وضلال!!
مهلا أيها الحبيب فديننا دين التيسير، وليس المقصد أن نتجاوز حدود شرع الله، ولكن طالما أن في المسألة خلاف فلا يمنع أن تأخذ برأي وآخذ برأي آخر، ومع ذلك نبقى إخوة متحابين.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم، بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن فقال: (يَسِّرا ولا تُعَسِّرا. وبَشِّرا ولا تُنفِّرا. وتطاوعَا ولا تختلِفا). [1] فإذا أردنا أن نعيد لأمتنا مكانتها فهيّا بنا ندعوا إلى الله ببشر وتيسير، لا بعسر وتنفير.

- الظلم:
وإن مما جعل أمتنا تتنكب عن المرتبة والمكانة التي يحب الله أن تكون فيها، هو خوضها في مستنقع الظلم الذي نهانا الله عنه، وابتعادها عن العدل الذي جاء به شرع الله الذي نؤمن به،
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
فبقدر التزامنا بالعدل فيما بيننا، ومع غيرنا، بمقدار ما ترتفع مرتبة الأمة، أما أن يكون حالنا ظلم وظلمات بعضها فوق بعض ثم نطمع بأن نكون خير الأمم فهذا وهْم.
بل إن الله لا يمكنُّ للأمة الظالمة حتى لو كانت مسلمة، فمن مقومات بقاء الأمم هو العدل في كلِّ شيء،
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13]. {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59].
إن لم ننتصر للمظلوم أيا كان قوياً أو ضعيفاً، غنياً أو فقيراً، قائد فصيل أم عنصراً، مشهوراً أو من عامة الناس مغموراً، فلا خير فينا، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تأخذ فوق يديه». [2]
فإذا أردنا للأمة أن تعود لمكانتها، لابد من أن نتلزم العدل مع الجميع، وأن يلتزم به الجميع.
- النزاع:
وإن مما جعل أمتنا تتنكب عن المرتبة والمكانة التي يحب الله أن تكون فيها، هو بعدها عن الألفة والمحبة التي أمر بها الله، وهي من نعم الله التي لا تقدر بثمن، ومخادع من يصور لك أننا مع وجود الشحناء والفرقة يمكن أن ننتصر، قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62-63]. فالنصر محتاج للألفة، الألفة بين المجاهدين بعضهم مع بعض، وبينهم وبين الناس، والألفة بين عامة الناس بعضهم مع بعض، وخاصة الألفة بين القادة، وما أحوجنا اليوم إلى القائد المجاهد الذي يحمل في قلبه مشاعر المحبة والتقدير لأخيه المجاهد قائد الفصيل الآخر، وبالتالي سنهج كل عناصر فصيله مثل نهجه وسيرته. فإذا أردنا لأمتنا أن تعود لمكانتها، لنعيد وشائج الألفة فيما بيننا، ولنحذر مما حذرنا منه ربنا، لاسيما وأن ماحصل في الغوطة ليس عنا ببعيد، يقول سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [ألأنفال: 46-48}.

- التعصب:
التعصب لم يات على الامة إلا بالويلات والأزمات والنكبات، التعصب داءٌ مريرٌ فتك في جسد الأمة فأنهكها وأمرضها وجعلها قصعة مستباحة للأمم.

أيها الناس.. أيها المجاهدون.. يا طلاب العلم ويا أيها العلماء:
إن التعصب ينبغي أن يكون للإسلام، التعصب ينبغي أن يكون لهذه الأمة، لا لفصيل ولا لمذهب ولا لمدرسة.
أيها الناس: ينبغي علينا أن نعلم جميعاً أن القرآن والسنة الصحيحة هما مرجعنا، وهما أصلان ثابتان لا يتغيران،
ولكن الأفهام والعقول تختلف في فهمهما، وستبقى تختلف إلى يوم القيامة، وهذا الاختلاف مما شرعه الله وخفف به عن الأمة حتى يتناسب التشريع مع عصرها واحتياجاتها،
وإلا فلماذا اختلف المفسرون في تفسير كلام الله؟ ولماذا مئات التفاسير بين أيدينا؟
أليس ربنا قادرٌ على أن يحسم الأمر من عنده ويكون الرأي واحداً؟
ينبغي علينا أن نعلم ونفهم أن الرؤية التي يقدمها أحدنا عن الإسلام ليست هي الرؤية الوحيدة التي يرتضيها الله، فهناك مئات بل آلاف الرؤى الصحيحة كذلك تنهل من معين القرآن والسنة..
وكثير من هذه الرؤى اتخذت من هذين الأصلين مبدأ ثابتاً لها، ولكن الأفهام تختلف والعقول تتفاوت، وما يصلح في هذا البلد قد لا يصلح في بلد آخر، وتأمل كيف أنزل الله القرآ، على سبعة أحرف تخفيفاً على الناس ومراعاة لاختلاف ألسنتهم، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
إن كل ما نراه اليوم من مذاهب ومدارس وفصائل وحركات لا تمثل كل واحدة منها الإسلام كله، بل ينبغي أن تعمل كلها للإسلام العظيم الذي يجمعها والتي هي جزء منه.
هذه أمثلة من أدواء تنخر في جسد الأمة، فلا بد من علاجها، لا تنتظر أيها السامع أحدا، ابدأ واعمل في الإصلاح على قدر استطاعتك، وأبرئ الذمة أمام الله، اللهم اجعلنا هادين مهديين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا على أعدائك.

--------------------------------
1 - البخاري/ 3038، مسلم/ 1733
2 - البخاري/ 2444

المصادر: