إضاءات على صلح الحديبية.. التفاوض السياسي كامل الأركان

الكاتب : عباس شريفة
التاريخ : ٣ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 5343


إضاءات على صلح الحديبية.. التفاوض السياسي كامل الأركان

في قراءة السيرة علينا أن نراعي محذورين، التوظيف السياسي للنص الذي يجعل من النص طوعاً للغرض السياسي، وبين تعطيل الاعتبار من التجربة السياسية النبوية فنحجر واسعاً ونهدر مصلحة، فعلى سبيل المثال كان صلح الحديبية نموذجاً للعمل السياسي، الذي راعى المصلحة الراجحة ووازن بين المنافع والمفاسد مع الثبات على المبادئ ومرونة الوسائل.

ولكن عند الخوض في غمار السياسة لا يجوز أن نلغي خيار القوة فهي من الأوراق الضاغطة التي تقوي موقفنا السياسي، ولنتذكر أن الأيادي التي امتدت لكتابة صلح الحديبية هي نفسها التي امتدت لتعطي بيعة الموت تحت الشجرة حين جاءهم الخبر بأن قريشاً قتلت عثمان رضي الله عنه، يومها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه [لا نبرح حتى نناجز القوم].
‏لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ‏صلح الحديبية بقتل من ‏ارتد عن دينه إن التحق بالكفار، وفي ذلك جوازٌ للتنازل عن بعض الحدود لمصالح عليا، كما في المرتد، إذا ذهب للمشركين فلا يُرد ولا يكون ذلك من التنازل الذي يخل بالإسلام.
فأحياناً، نستطيع أن نحقق بالسياسية ما لا نستطيع تحقيقه بالحرب، وإن إرجاء الهدف المقدور مع كثرة الخسائر وهشاشة المكاسب لحينٍ تقل فيه الخسائر وتعظم المكاسب يعتبر شأناً من الحنكة السياسية، فقد كانت الحديبية فتحاً مبيناً فُتحت معه السدود والحدود أمام الدعوة لتكتسح العالم بأكمله، وهذا ما سماه القرآن فتحاً [إِنَّا فَتَحنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]، والذي كان من نتائجه لاحقاً فتح مكة وقيام الشوكة والتمسك بها، فقد كانت حكمة الله تعالى في عدم الإذن للمسلمين يوم الحديبية بالقتال، أن لا يتأذى من يستخفي بإيمانه من الرجال والنساء من المسلمين في مكة.
لم يُخفِ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كرههم للشروط التي رأوها مجحفة، إلا أن تلك الشروط كانت خيراً للإسلام وخيراً لهم أيضاً، فقد تغلغل الإسلام في مكة رغماً عن مشركيها و لم يخرج أي مسلم من المدينة مرتداً عن دينه.
في السياسة، يجب أن نميز بين المكسب الصلب وبين المكسب الهش، فالاعتراف السياسي بالمسلمين مكسب صلب، فيما يصبح تحرير أسير مسلم من يد الكفار مقابله مكسباً هشاً، فمن نظر للصلح على أنه إعطاء للدنِيّة، كان كمن لم ير إلا المكسب الهش، وقد أثبتت الأيام بُعد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبسياسة نبوية ملهمة تضاعف عدد المسلمين من فترة صلح الحديبية وحتى فتح مكة عشرة أضعاف، الأمر الذي يؤكد فكرة أنك قد تحقق بالسياسة ما لا تحققه بالحرب.
وبالنظر إلى ردود الأفعال نستطيع مع تدبر قول عمر رضي عنه “ألسنا على الحق! أليسوا على الباطل!” نصل مجدداً إلى فكرة أن ما نتوصل إليه بالسياسة لا يشترط دائماً أن يكون عدلاً مطلقاً واستيفاء الحق فيه كاملاً، أما حين أخذ رسول الله ﷺ برأي أم سلمة وبدأ بالتحلل دون أن ينظر إلي رأي أصحابه والذي كان سبباً لاجتماع كلمة المسلمين نجد حكمة رسول الله وحسن قيادته في تمرير الصلح إلى نفوس الأتباع، فيما كان بعث النبي الهدي المشعرة في وجه الحليس لما جاءه مفاوضاً دليلاً على البراعة الإعلامية في استمالة الخصم والدخول إليه من مواطن التأثر العاطفي، وجاءت كلمة “امحها يا علي” خطوة تكتيكية للوراء لأجل قفزة استراتيجية باهرة للأمام، فمحو وصف الرسالة عن شخصه الكريم لن يغير من الحقيقة شيئاً، وما يكتب في الدساتير والمواثيق ليس هو ما يحدد هوية الأمة ومرجعيتها بل هو مدى التزامها بمبادئ الرسالة وتشريعاتها.

 

 

راصد

المصادر: