تكفير الموقعين في مؤتمر الرياض "تطبيقات جديدة للغلو المعاصر"

الكاتب : سلطان العميري
التاريخ : ١٣ ٢٠١٥ م

المشاهدات : 5497


تكفير الموقعين في مؤتمر الرياض

في يوم 28 /2 /1437هـ دعت السعودية عددا من الفصائل المجاهدة وغيرها للاجتماع في الرياض , فحضر منها من حضر وغاب من غاب , وبعد أيام من اجتماعهم أعلنوا عن نص المعاهدة التي وقع عليها كثير من المشاركين , ولا نريد أن نخوض في هذه الورقة في الوقف الشرعي والسياسي من ذلك الاجتماع ما نتج عنه , فهذه مسألة لها أهلها من السياسيين والخبراء.

وإنما نريد في هذا البحث أن نقف مع موجبة عاتية اشتدت عواصفها بعد إعلان نص الميثاق مباشرة , فما إن أعلن الميثاق , حتى ظهرت عصابة تبنت آراء خاطئة في التكفير , وطفقوا يوزعون أحكام التكفير , بين الصريح والمباشر منها , وبين المبطن والخفي , وأطلق كثير منهم عبارات التخوين والتضليل بكمية كبيرة جدا .

فالبحث إذن ليس المراد منه تحديد الموقف الشرعي من نص المعاهدة قبولا ورفضا , وإنما الغرض الأساسي لها : تحديد الحكم الشرعي في التكفير بالتوقيع على تلك المعاهدة فقط , فهو يجب على سؤال واحد محدد , هو : هل يصح أن يحكم على من وقع على تلك المقالة بالوقوع في الكفر الأكبر أم لا ؟

وأما من كان معترضا على البيان من جهة التحريم الشرعي أو المناقضة للمصلحة الشرعية من غير أن يصل إلى التكفير والإخراج من الإسلام , فالحديث ليس متوجها إليه من حيث الأصل .

كتب أبو قتادة الفلسطيني يقول :"بيان فيه الكفر , فالتعدد ليس بين المسلمين , بل بين أصحاب أديان متعددة" .

وكتب طارق عبدالحليم قائلا :"ليس في حكم بيان الرياض شبهة على الإطلاق , فهو بيان كفري لا رائجة لإسلام فيه , تحت أي زعم ممن يدعي اجتهادا او مصلحة أو حكم نوازل أو غيره" .

ويقول أبو محمد المقدسي معلقا على البيان :"يرقعون سوءاتهم حجة جلوس النبي مع الكفار للتفاوض , أين الدلالة في ذلك على تسويغ قبلوهم بالديمقراطية والتعددية بعدم التمييز بسبب الدين وسيادة القانون" .

وكتب غيرهم تعليقات لا تخرج في الجملة عما ذكره هؤلاء الرموز المنظرين .

وإذا قمنا بتحليل تعليقاتهم  نجد أن أهم المسوغات التي اعتمدوا عليها ترجع إلى أن البيان تضمن القبول بالديمقراطية , وهي نظام كفري يناقض أصول الإسلام ويتضمن تشريعات توجب الكفر كالتعددية الدينية وغيرها كما يقولون .

وبيان ما في تعليقاتهم ومسوغاتهم من أغلاط في الفهم والاستدلال لا يصلح فيه المعالجات الجزئية , وإنما لا بد فيه من معالجة كلية تأصيلية بنائية .

وأصول الغلط عند المكفرين بالتوقيع على ذلك البيان ترجع إلى أصلين أساسيين :

الأصل الأول: الإعراض عن اعتبار شروط التكفير وموانعه , فإن من كفر أعيان الموقعين على البيان – نصا أو تلميحا – غفل عن حقيقة ظاهرة للعيان , وهو أن أولئك الموقعين يعيشون حالة من الاضطرار الشديد في دفع العدو الصائل عليهم .

فعلى التسليم بأنهم وقعوا في أمر مكفر فإنهم لم يقعوا فيه باختيارهم , ولم يأتوا إلى الرياض رغبة منهم وترفا , وإنما جاؤا وهم في حالة من الاضطرار الشديد يبحثون عما يمكن أن يزيل عنهم عنف العدو الصائل أو يقلله عنهم وعن أهلهم في سوريا على الأقل .
ولا يشك عاقل أن الحالة التي وصل إليها الإخوة المجاهدون في سوريا بلغت مرحلة من الاضطرار كبيرة جدا , فهم لا يستطيعون تطبيق الشريعة كما أمر الله , ولا يملكون القوة للدفاع عنها ضد العدو الصائل , فلم يأتوا إلى الرياض بحثا عن الديمقراطية ورغبة في التعددية الدينية وتقديما لأحكام البشر على شريعة الله ورغبة عن حكم الله وشريعته , وإنما جاؤا بحثا عما يمكن أن يخلصهم من الضرر الكبير الذي حل بهم وبقومهم , ويفتح لهم شيئا من الأمل في مسيرتهم نحو تطبيق شريعة الله في الواقع . 

ثم على التسليم بأن أولئك المكفرين لا يرون الموقعين على البيان مضطرون , فإنه لا يشك عاقل أن توصيف الحالة السورية بالاضطرار وعدم الاضطرار من الأمور الاجتهادية التي تخضع للنظر والاجتهاد على الأقل .

فإذا كنتم لا ترون ما هم فيه قد بلغ إلى مرحلة الاضطرار , فهم وغيرهم كثير من علماء الأمة ومفكريها يرون أنهم بلغوا إلى تلك المرحلة التي تبيح لهم فعل بعض المحرمات في الشريعة لأجل تحقيق مصلحة رفع الضرر الكبير عنهم وأن طائفة كبيرة من المسلمين , فلماذا لا تعتبرون هذه المواقف وتعدونها من محال النظر والاجتهاد والتأمل ؟!!

الأصل الثاني: فضلا عن تلك المعاني كلها , فإن المكفرين وقعوا في غلط كبير من أغلاط التكفير , وهو التكفير بالأفعال والأقوال المحتملة , فإن غاية ما ذكروه من مسوغات ا أن البيان تضمن القبول بالنظام الديمقراطي والسعي إلى تطبيقه .

وهذه القضية – أعني التكفير بالديمقراطية – من المسائل الكبار التي توسع الدارسون في بحثها ومناقشتها , وكتبوا فيها كتابات كثيرة جدا , فإثارتها الآن ليس أمرا خاصا ببيان الرياض , وما أثير إنما هو تطبيق لآراء مقررة منذ زمن .

وقد كتبت في بحث "أغلاط التكفير" – وهو بحث قاربت على الانتهاء منه بحمد الله- مبحثا تأصيليا يعالج هذه القضية بتفصيل وبين أصول الغلط عند الواقعين فيها بعدد من الأوجه , وما ذكر فيه يصلح أن يكون نقضا مفصلا لمواقف الذين كفروا بالتوقيع على البيان , فلم يكن ثمة حاجة لكتابة بحث جديد في القضية , فأحببت أن أنقل إلى القراء الكرام ما كتب في ذلك البحث اختصارا للجهد والوقت :
ودونكم نصه :
"كثر الجدل حول الديمقراطية في العالم الإسلامي , وتشعبت الحوارات حول الموقف منها كثيرا , واحتدت الآراء المختلفة فيه وتصاعدت المقالات في ساحاتها , وفي هذا الموضع من البحث سنناقش قضية واحد محددة هي : هل الدعوة إلى النظام الديمقراطي التي تبناها بعض العلماء المسلمين ومفكريهم كفر أكبر أم له ؟ ولن ندخل في أي قضية أخرى .

فالسؤال الذي سنجيب عنه هنا هو : بماذا نحكم على من يدعو من علماء المسلمين إلى الأخذ بالديمقراطية ؟ هل نحكم عليه بأنه وقع في الكفر الأكبر  أم بأنه لم يقع فيه أم نفصل ونفرق ؟

فالبحث إذن منحصر في حكم على الديمقراطية بالكفر وليس له تعلق بحكم استعمال لفظ الديمقراطية ولا بحكم نقل لفظها إلى العالم الإسلامي ولا بحكم تداوله والتحدث به , والحجج الذي سنذكرها ونناقشها هي الحجج المتعلقة بحكم التكفير بالديمقراطية ولن نتعرض للحجج التي تحرم الديمقراطية أو تمنع من استعمالها , فالبحث إذن منحصر في تحرير مناطات التكفير بها ولا علاقة بها بتحرير مناطات الإباحة والتحريم المتعلقة بها .

وقد ذهب إلى إطلاق التكفير بالدعوة إلى الديمقراطية عدد كبير من المنظرين والمفكرين في العصر الحديث , وذهبوا إلى أن الداعي إليها واقع في فعل يوجب الكفر والخروج من دائرة الإسلام , وتبنى هذا الموقف أصناف مختلفة في منطلقاتهم واتجاهاتهم , فقد تبناه كثير من المنظرين , وكذلك عدد كبير من  العلماء المشتغلين بالتعليم والتدريس وغيرهم .

وفي بيان حقيقة هذا القول يقول أبو محمد المقدسي :" ترجمة كلمة (الديمقراطية) الحرفية هي: (حكم الشعب) أو (سلطة الشعب) أو (تشريع الشعب)..

وهذا هو أعظمُ خصائص الديمقراطية عند أهلها... ومن أجله يلهجون بمدحها، وهو يا أخا التوحيد في الوقت نفسه من أخص خصائص الكفر والشرك والباطل الذي يناقض دين الإسلام وملَّةَ التوحيد أشدَّ المناقضة ويُعارضه أشدَّ المعارضة... لأنك قد عرفتَ فيما مضى أنَّ أصل الأصول الذي خُلق من أجله الخلق وأنُزلت الكتب وبُعث الرسل، وأعظم عُروة في الإسلام هو توحيد العبادة لله تعالى واجتنابُ عبادة ما سواه.. وأنَّ الطاعة في التشريع مِن العبادات التي يجب أن تُوّحد لله تعالى وإلا كان الإنسان مُشركاً مع الهالكين..

وسواءٌ طبقت هذه الخاصية في الديمقراطية على حقيقتها، فكان الحكم للجماهير أو غالبية الشعب، كما هي أسمى أماني الديمقراطيين من علمانيين أو منتسبين للدين.. أو بقي على ما هو عليه في الواقع اليوم ، حيث هو: حكم الملأ من الحكام وعصابتهم المقربة إليهم من عائلاتهم أو كبار التجار (الهوامير) والأثرياء الذين بيدهم رؤوس الأموال ووسائل الإعلام ويستطيعون بواسطتها أن يصلوا أو يُوصلوا إلى البرلمان (صرح الديمقراطية) من يشاؤون... كما يستطيع مولاهم أو ربُّهم (الملك أو الأمير) أن يحلَّ المجلس ويربطه في أي وقتٍ شاء وكيفما شاء...

فالديمقراطية على أي الوجهين كفرٌ بالله العظيم وشركٌ بربِّ السماوات والأرضين ومناقضةٌ لملِّةِ التوحيد ودين المرسلين"([1]).

ويجعل الديمقراطية دينا مقابلا لدين الإسلام , فلا يمكن أن يتوافقا بحال , فيقول بعد أن شرح عددا من التفاصيل :"هذه يا إخوة التوحيد هي حقيقة الديمقراطية وملتها ..دين الطاغوت .. لا دين الله ...وملة المشركين ... لا ملة النبيين .. وشرع أرباب وآلهة متفرقة متنازعة ... لا شرع الله الواحد القهار"([2]).

ويكرر أبو بصير الطرطوسي التنبيه على  أن الديمقراطية شرك أكبر مخرج من الملة , وأن الداعي إليها داع إلى الشرك بالله , بل يجعلها دينا مقابلا لدين الله , ويعد الداعي إليها داع إلى غير دين الإسلام , فيقول :" الديمقراطية دين قائم بذاته، تدخل في معنى ومسمى الدين بكل ما تعني كلمة الدين من معنى؛ إذ هي طريقة في الحكم والحياة، لها تفسيرها وتصورها الخاص عن الوجود، تخضع لنظم وقوانين وأحكام لا بد لمعتقديها ومتبنيها من الدخول فيها، والتزامها وتنفيذها.

فالديمقراطية لها طرقها وأنظمتها الخاصة والمتباينة كل التباين عن هدي الإسلام؛ فهي طريقة خاصة في الحياة، وفي التعامل والتعايش، وفي علاقة الجنسين بعضهما مع بعض، وفي الحكم والسياسة، وفي القانون والقضاء، وفي الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وفي التربية والتعليم، حتى ممارسة الشعائر التعبدية لها نظرتها الخاصة بذلك... وهذا هو الدين، وإذا لم يكن هذا دين فأي شيء يُسمى دين؟!

وعليه فإننا نقول : الديمقراطية تدخل في معنى الدين لغة واصطلاحاً، ومن يتدين بدين الديمقراطية مثله مثل من يتدين باليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية أو غيرها من النحل والأديان، ولا فرق بينها حيث كلها تجتمع على تقرير عبادة العباد للعباد – وإن اختلفت الصور والأشكال – وعلى دخول العباد في دين العباد وجور الأديان، وليس في دين الله تعالى"([3]).

ويصرح أبو قتادة الفلسطيني بأن الديمقراطية نظام شركي ظاهر , ويقول :" ونحن نصر ونؤكد أن هذا المسار شركي كفري لأن البرلمان هو مالك السيادة التشريعية في النظم العلمانية وهو عندنا في دين الله تعالى لله رب العالمين، ومن لم يفقه هذا لم يفقه شيئا من الواقع أو الوحي"([4]), ويحكم على كل من اشترك فيها أو دعا إليها بأنه واقع في الشرك الأكبر المخرج من الملة .

وفي مناقشة حكم الدعوة إلى الديمقراطية يصرح سيد إمام بأن :" الديمقراطية تخلع صفة الألوهية على الإنسان بمنحها إياه الحق المطلق في التشريع، فجعلته بذلك إلها مع الله وشريكا له في حق التشريع للخلق، وهذا كفر أكبر لا ريب فيه"([5]).

والأساس المنهجي الكلي الذي يقوم عليه هذا الموقف يرجع إلى أن الديمقراطية نظام ملازم للشرك بالله لا يمكن أن ينفك عنه في كل صوره أبدا , فكل من دعى إليه فهو في الحقيقة يدعو إلى الإشراك بالله .

ومقتضى هذا الأساس أن الديمقراطية ليس لها إلا صورة واحد , ولا تحتمل إلا شكلا واحدا هو الشكل الذي لا ينفك عن التشريع من دون الله , فكل صورها في الواقع متلبسة بذلك الانحراف الشرعي , فكل من تبناها أو دعا إليها فهو يتبنى التشريع من دون الله أو يدعو إليه .

وقبل الدخول في مناقشة هذا الموقف وبيان ما في أساسه المنهجي من غلط لا بد من التأكيد على أن البحث ليس في حكم الديمقراطية في صورتها في العالم الغربي ولا في حكمها في صورتها التي يتبناها العلمانية في العالم الإسلامي , فلا شك أن هذا النوع من الديمقراطية كفر أكبر مخرج من الملة لأنه يتضمن صراحة إعطاء التشريع من دون الله الناس .

ولا شك أن النظام الديمقراطي ليس نظاما نابعا من الإسلام , ومصطلح الديمقراطية ليس مصطلحا شرعيا ولا لفظا معروفا في العربية, وإنما هو نظام غربي ومصطلح منقول من الحضارة الغربية العلمانية الكافرة .

فالبحث ليس في هذه الأمور , وإنما هو في صورة واحد محددة هي : هل توجد صورة من الديمقراطية في الفكر العربي تنفك عن المضامين العلمانية في دعوتها وتصوراتها ؟ وهل يوجد استعمال لمصطلح الديمقراطية لا يراد به معنى من المعاني المناقضة لأصل الإسلام ؟ وهل يوجد أحد من علماء المسلمين أو مفكريهم دعى إلى الديمقراطية وهو يريد بها تقرير المعاني التي لا تناقض الشريعة في أصولها ؟

فإن وجد ذلك كله , فما حكمه ؟ هل يطلق عليه التكفير وأنه واقع في الكفر كما هو الحال في صورة الديمقراطية عند الغرببين والعلمانيين أم ماذا ؟

والجواب الرشيد على هذه القضية يقوم على أساسين :

الأساس الأول: أن مصطلح الديمقراطية مصطلح مركب من مكونات مختلفة في حقيقتها وطبيعتها , وأصول مكونتها تتفرع إلى ما يلي :

المكون الأول : ما يعد في ميزان الوحي كفرا مخرجا من الإسلام , وهو المكون العلماني الذي يجعل حق التشريع لغير الله ويلغي اعتبار الدين في الأحكام الاجتماعية وغيرها.

المكون الثاني : ما يعد في ميزان الوحي محرما , مثل إطلاق المساواة السياسية , وأن كل عضو يملك مقدار ما يملكه غير من الفرص القانونية والفعلية .

المكون الثالث : ما يعد في ميزان الوحي مباحا في الجملة , كالفصل بين السلطات وتحديد مدة الحكم والآليات الإجرائية في اختيار الحكام وغيرها .

المكون الرابع : ما يعد في ميزان الوحي واجبا شرعيا , كالرقابة على السلطة ومحاسبة المسؤولين وسن القوانين الإجرائية والإدارية الضابطة للحياة([6]).

واستعمالات مصطلح الديمقراطية تتردد كثيرا بين تلك المكونات الأربع , فبعض المستعملين يطلقه وهو يريد كل تلك المكونات وبعضهم يستعمله وهوى يريد واحد من تلك المكونات أو أكثر , فمصطلح الديمقراطية أضحى متداولا بكثرة واسعة في الأجواء الإسلامية , ويستعمل أطياف مختلفة في توجهاتها ومنطلقاتها ومقاصدها , بل يصح أن يقال : إنه بات من المصطلحات الشعبية التي يستخدمها عموم المسلمين وعوامهم , فاشترك في استعماله العلماني والإسلامي والسلفي والإخواني والسني والشيعي والعوام وطلاب المدارس والجامعات والسياسي والمثقف والمعلم وغيرهم , وليسوا كلهم يريدون به الدلالة على تلك المكونات الأربع كلها , وإنما مراداتهم تتفاوت في ذلك تفاوتا كبيرا .

الأساس الثاني: أن جمهور علماء المسلمين ومفكريهم الذين تبنوا الدعوة إلى النظام الديمقراطية لا يريدون به المعنى الشركي التي يتضمنه , وإنما هو يريدون بها معاني أخرى قد تكون مباحة في حكم الوحي وقد تكون محرمة وقد تكون واجبة .

وهم قد ذكروا مرادهم بالنظام الديمقراطي وفسروا مقصودهم به , يقول يوسف القرضاوي- هو من أشهر المنادي بالدعوة إلى الديمقراطية وكلامه فيها معتمد عند كثير من المعاصرين- :" إن جوهر الديمقراطية ـ بعيدًا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية ـ أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها.. فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل.

هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية التي وجدت البشرية لها صيغًا وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة، واستقلال القضاء .. إلخ.
فهل الديمقراطية ـ في جوهرها الذي ذكرناه ـ تنافي الإسلام ؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة ؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذا الدعوى ؟"([7]).

فالقرضاوي يبين في هذا النص مقصوده بالديمقراطية التي يدعو إليها , ولا يهمنا الآن هل مقصوده صحيح أم لا وهل هو مباح أم محرم , وإنما الذي يهمنا هنا تحديد المضمون الذي يدعو إليه في الديمقراطية هل يتضمن معنا يوجب الخروج من الإسلام أم لا ؟
ولا شك أنه لا يتضمن ذلك , فهو لا يعطي حق التشريع لأحد من البشر , ولا يلغي اعتبار الدين في الأحكام الاجتماعية وغيرها كما سيأتي النقل عنه .

ويقول مؤكدا ذلك ومبينا مقصود كثير من المعاصرين بالديمقراطية :" وقول القائل: إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل: "إن الحاكمية لله قول غير مسلم؛ فمبدأ "الحكم للشعب" - الذي هو أساس الديمقراطية - ليس مضادا لمبدأ (الحكم لله) - الذي هو أساس التشريع الإسلامي - إنما هو مضاد لمبدأ (الحكم للفرد)، الذي هو (أساس الدكتاتورية).

فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم ، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو: رفض الدكتاتورية المتسلطة، ورفض حكم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور والجبروت.

أجل، كل ما يعني هؤلاء من الديمقراطية أن يختار الشعب حكامه كما يريد، وأن يحاسبهم على تصرفاتهم، وأن يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة، وبعبارة إسلامية: إذا أمروا بمعصية، وأن يكون له الحق في عزلهم إذا انحرفوا وجاروا، ولم يستجيبوا لنصح أو تحذير ... والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلا للحكم , يجسد مبادئ الإسلامي السياسية في اختيار الحاكم , وإقرار الشورى والنصيحة , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ومقاومة الجور ورفض المعصية"([8]).

ويقول محمد المبارك :"إذا نظرنا إلى الديمقراطية على أنها اتجاه يحارب الفردية والاستبداد والاستئثار والتميز , ويسعى في سبيل مصلحة جمهرة الشعب , ويشركه في الحكم وفي مراقبة الحكام وسؤالهم عن أعمالهم ومحاسنهم , فالإسلام ذو نزعة ديمقراطية بهذا المعنى بلا جدال , وأن أن للإسلام ديمقراطيته الخاصة به , أي نظامه الذي يمنع استبداد الحكام واستئثارهم , ويمكن الشعب من مراقبتهم ومحاسبتهم".

ويقول محمد الغزالي :" الديمقراطية ليست دينا يوضع في صف الإسلام، وإنما هي تنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ننظر إليه لنطالع كيف توافرت الكرامة الفردية للمؤيد والمعارض على السواء، وكيف شيدت أسوار قانونية لمنع الفرد أن يطغى، ولتشجيع المخالف أن يقول بملء فمه: لا، إن الاستبداد كان الغول الذي أكل ديننا ودنيانا، فهل يحرم على ناشدي الخير للمسلمين أن يقتبسوا بعض الإجراءات التي فعلتها الأمم الأخرى لمّا بليت بمثل ما ابتلينا به"([9]).

ويقول فهمي هويدي :"نعتبر أن الديمقراطية هي أفضل صيغة ابتكرها العقل الإنساني حتى الآن للإدارة السياسية للمجتمع , والديمقراطية التي نقبلها ونعتبرها مقابلا للشورية أو ترجمة معاصرة لها , هي تلك التي لا تحل حراما ولا تحرما حلال"([10]).

ويقول راشد الغنوشي :"النظام الديمقراطي هو وصف للنظام السياسي الذي يقوم على اختيار الحاكم من طرف الشعب بطريقة الانتخاب الحر , السري والمباشر , وتتوزع السلطة فيه على مؤسسة تنفيذية وأخرى تشريعية وثالثة قضائية , ورابعة إعلامية رقابية , إذا دققت النظر ترى أن الإسلام سبق ونادى بالمبادئ المشار إليها سابق"([11]) .

وتفسير الديمقراطية بهذا المعنى منتشر جدا في خطابات جمهور الداعين إليها من الإسلاميين , كتوفيق الواعي....([12]), وليس المقصود من نقل تلك الأقوال تصحيح ما فيها من أفكار أو تأييدها , وإنما المقصود تحرير مقصود أصحابها بالديمقراطية حين ينادون بها , وظاهر جدا أن مرادهم بها النظام السياسي الذي يحارب الاستدلال ويتيح للشعب المشاركة في السياسية ومراقبة الحكام ومحاسبتهم.

وهذا المعنى لا يتضمن المعاني الشركية التي يتضمنها مفهوم الديمقراطية في العالم الغربي أو عند الاتجاه العلماني .

وانتشار هذا المفهوم في خطاب العلماء والمفكرين المسلمين في العصر الحديث يكشف عن أن لفظ الديمقراطية أضحى لفظا متعدد المعاني ومختلف الدلالات .

وبناء على ذينك الأساسين – أعني أن لفظ الديمقراطية مركب من مكونات متعددة وأن مفهومه في الخطاب الإسلامي أضحى متعددا – فإن يجب علينا أن نتعامل معه بالمنهج الاستفصالي الذي يُعتمد عليه في التعامل مع الألفاظ المجملة , فلا يطلق عليه حكم بالتكفير ولا بعدم التكفير حتى يحدد المعنى المراد منه بدقه .

فيقال : من دعا إلى الديمقراطية وهو يقصد بها المعنى الغربي أو المعنى الذي يعنيه العلمانيون العرب فقد وقع فيما هو شرك أكبر , وإن دعا إليها وهو يقصد بها آلية اختيار الحاكم أو النظام الذي يناقض حكم استبداد الفرد , أو معنى الشورى , فهو غير واقع في الشرك الأكبر , ثم يبقى البحث بعد ذلك في حكم دعوته إليها من جهة الإباحة والتحريم والمصلحة والمفسدة .

وهناك طريق أخرى في البيان لا تختلف عن الطريق السابقة في المعنى , وهو أن يقال : الأصل أن الدعوة إلى الديمقراطية شرك أكبر مخرج من الملة إلا أنه لا يصح أن يطلق هذا الحكم لدخول الاحتمال والإجمال في استعماله عند كثير من العلماء والمفكرين المعاصرين .

وأما إطلاق القول بالتكفير بالدعوة إلى الديمقراطية من غير تفصيل , فهو خطأ ظاهر مخالف لمنهج العلماء المحققين في التعامل مع المصطلحات التي يطرأ عليها الإجمال بسبب تنوع استعمالها وكثرته .

والقاعدة التي يقوم عليها هذا التقرير ترجع إلى قاعدة التعامل مع المصطلحات المحتملة  , فإن المقرر عند المحققين من العلماء أن المصطلح المجمل والمحتمل لا يطلق فيه الحكم بالنفي ولا بالإثبات حتى يستفصل في معناه ويفرق بين المرادات منه , وهذه القاعدة لا فرق فيها بين المصطلح الذي يكون مجملا من أصله وبين المصطلح الذي يطرأ عليه الإجمال مع الاستعمال , فلو وُجد مصطلح له معنى معروف في أصل وضعه , ثم طرأ عليه الاحتمال والإجمال مع مرور الوقت , فإن قاعدة الاستفصال منطبقة عليه .

وفي بيان هذه القاعدة يقول ابن تيمية :" الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين، مثل لفظ الجسم و الجوهر  و المتحيز والجهة , ونحو ذلك فلا تطلق نفيا ولا إثباتا حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحا موافقا لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه، ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص، لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها"([13]).

فهذا التقرير من ابن تيمية تضمن أمورا مهمة : الأول : أن قاعدة الاستفصال شاملة للألفاظ المبتدعة والمنقولة عن الغير , والثاني : أن وجوب الاستفصال يتعلق بحال استعمال اللفظ لا بحال أصله , فقد يكون أصل معنى اللفظ ظاهرا في البطلان , ولكن طرأت عليه استعمالات أخرى أدخلت عليه الإجمال والاحتمال , كلفظ الجسم , فإنه يعني في لغة العرب البدن المكون من اللحم والعظم والعصب , وقد نقل ابن تيمية عن عدد من علماء العربية ما يدل على ذلك([14]), وهذا معنى باطل لا يليق بالله تعالى , ومع ذلك حكم عليه بأنه أصبح لفظا مجملا , ولم يطلق التكفير في من استعمله في حق الله من الكرامية وغيرهم .

فكذلك الحال في كل مصطلح حادث تنازع مبتدعوه في معناه , سواء في باب الصفات أو غيره , فإنه لا يصح أن يطلق فيه الحكم , وإنما يجب فيه الاستفصال والتقسيم , حتى ولو كان أصله يستلزم الكفر الأكبر ؛ لأن العبرة في الحكم بحاله الاستعمالي وليس بأصله ومنبعه.

ولو قمنا بموازنة بين مصطلح الجسم ومصطلح الديمقراطية لوجدنا حالهما متطابق تمام المطابقة , فلفظ الجسم يدل في أصل معناه في اللغة على البدن المكون من العظم واللحم والعصب , وإطلاق هذا المعنى في حق الله كفر أكبر , ومع ذلك لم يكفر العلماء طائفة الكرامية الذين أطلقوا لفظ الجسم على الله , لأنهم لم يكونوا يقصدون المعنى اللغوي منه , وإنما قصدوا بالجسم القائم بنفسه([15]) .

فلدينا إذن لفظ يدل إطلاقه على الله في أصل وضعه على معنى موجب للكفر الأكبر , ومع ذلك أطلقه طائفة على الله فلم يكفروا لأنهم جعلوا له معنى آخر غير المعنى الموجب للكفر , فحاكمهم العلماء في باب التكفير إلى مقصودهم وليس إلى أصل وضع اللفظ .

فكذلك الحال في لفظ الديمقراطية , فهو يدل في أصل وضعه على معنى موجب للشرك الأكبر , وهو إعطاء حق التشريع لغير الله , ومع ذلك استعمله طائفة من العلماء والمفكرين في معنى آخر مختلف عن أصله , وهو مواجهة الاستبداد أو معنى الشورى , فالاطراد مع القواعد يوجب عدم إطلاق التكفير على الدعوة إليه , والواجب أن تطبق عليه الطريقة التي طبقها العلماء في التعامل مع لفظ الجسم ؛ لأنهما متفقان في الحال والوصف .


والغريب حقا أن أبا محمد المقدسي أقر بأن لفظ الديمقراطية لفط مجمل وأقر بأن بعض المسلمين يستعمله في معنى صحيح , ولكنه جعل ذلك مانعا من تكفير الأعيان , ولم يجعله مسوغا في وجوب التفريق والتفصيل في حكم الفعل نفسه , حيث يقول :" فالديمقراطية لفظة أعجمية لا يعرف معناها الحقيقي الذي نعده معنى مكفرا كثير من الناس ، بل ينزلون هذه اللفظة ويريدون بها بعض المعاني التي لا تعارض الشرع أو بعض المعاني غير المكفرة صراحة ، فكم من الناس يثني على الديمقراطية بل منهم من يعدها ـ جهلا  ـ من الإسلام أومن المناهج الحسنة والعادلة ووو .. فيمدحها ويدعو إليها ، وعند التحقق من مراده بالديمقراطية التي يمتدحها أو يطالب بها ويدعو إليها ؛ تجده يعني بذلك كل ما يقابل الدكتاتورية والظلم وانتهاك حقوق الإنسان ، فيعرفها بالحرية أو العدالة أو حفظ حقوق الإنسان ، أو كما يعرّف بعض الناس عمل النواب المشاركين بمجلسها بأنه رقابي محاسب للحكومات على ظلمها وانتهاكاتها وتجاوزاتها جاهلا أو ذاهلا عن الآلية الكفرية التي تمارس بها هذه المراقبة والمحاسبة المزعومة .. بل بعض عوام الناس وعوام العلماء في معرفة الواقع ؛ يظنون أن وظيفة المجلس التشريعي (البرلمان ) هي كوظيفة المجلس البلدي من تقديم الخدمات العامة والمطالبة بها ويتعامل أكثرهم ويدعو إلى هذا المجلس وإلى انتخاباته على أساس هذا المعني" .

وصنيعه هذا مخالف لطريقة المحققين من أهل العلم , فالمحققون إذا وقفوا على فعل محتمل لا يطلق الحكم عليه بالتكفير وإنما يفرق ويفصلون , وأما المقدسي , فإنه مع إقراره بالاحتمال والإجمال في لفظ الديمقراطية إلا أنه أطلق القول بأن الدعوة إليه كفر من غير تفصيل ولا تفريق .

اعتراضات المخالفين على التقرير السابق:

اعترض الذاهبون على إطلاق التكفير بالدعوة إلى الديمقراطية على التقرير السابق بعدد من الاعتراضات , ترجع أصولها إلى خمس اعتراضات أساسية :

الاعتراض الأول: أن أصل نشأة الديمقراطية قائمة على الشرك والوثنية , فأصل معناها في الفكر اليوناني جعل الحكم للشعب من دون الله تعالى([16]).

ولكن الاعتراض بها المعنى غير صحيح , ويتبين عدمه صحته بالأمور التالية :

الأمر الأول: أن عددا من الدارسين ذهب إلى أن أصل نشأة الديمقراطية لا تستلزم الإشراك بالله والوثنية , وإنما هي آلة تختلف مضامينها باختلاف معتقدات من يطبقها , فقد ذكر الأستاذ عباس محمود العقاد معنى كلمة الديمقراطية في اللغة اليونانية , وأن مرادهم بها حكم الشعب , وفسره بأنهم يقصدون بها الحكومة التي يطمئن إليها الشعب وتأتي باختياره , ثم ذكر عددا من الاختلافات بينهم , وختم تحليله بقوله :"نرى أن الديمقراطية كانت في الفكر اليوناني من قبيل الإجراءات أو التدابير السياسية التي تتقي بها الفتنة ويستفاد بها من جهود العامة في أوقات الحرب على الخصوص , ولم تكن هذه الديمقراطية مذهبا قائما على الحقوق الإنسانية أو منظورا فيه إلى حالة غير حالة الحكومة الوطنية , فهي على الجملة إجراء مفيد وتدبر لا محيد عنه لاستقرار الأمن في الدولة"([17]).

وقد قرر عدد من العلماء الغربيين بأن جوهر الديمقراطية يرجع إلى محاربة الاستبداد والمشاركة في السلطة , يقول مكايفر :"إن الذي يميز الديمقراطية عن غيرها من الأنظمة هو مشاركة المواطنين في اختيار قادتهم , فالديمقراطية ليست طريقة في الحكم بقدر ما هي طريقة لتحديد من سيحكم"([18]), ويقول روبرت دول :"الديمقراطية هي النظام الذي يتمكم من خلاله الموطنون من ممارسة درجة عالية من السيطرة على الحكم , والذي يظهر فيه التنافس السياسي عن طريق إقرار حق المعارضة وحق المشاركة السياسية"([19]).

وليس المقصود من نقل هذه المقالات تصويب ما فيها وتأييده , وإنما المقصود إثبات أن ثمة اتجاها آخر لا يربط نشأة النظام الديمقراطي بالشرك والوثنية ولا يجعل ذلك جزءًا من مفهومها , ووجود هذا الاتجاه يجعل القول بأن أصل نشأة الديمقراطية متضمن للوثنية غير قاطع , ويدخل في الاحتمال والتردد , فلا يحق للمسلم أن يحكم على أخيه المسلم بالوقوع في الكفر الأكبر بناء على معنى محتمل لا يمكن عليه دليلا قاطعا او ما في حكمه .

الأمر الثاني : أنه على التسليم بأن أصل فكرة الديمقراطية متضمنة للشرك والوثنية وأن هذه المعاني ملازمة لها في الفكر الغربي , فإنه لا يصح الاعتماد على ذلك في إطلاق التكفير بها في العالم الإسلامي , لأننا لا نتحدث عن حكمها من حيث الأصل والنشأة , وإنما نتحدث عن حكمها من حيث صورها وأشكالها في العالم الإسلامي , ونحن لا نبحث في حكم من أطلقها من الكفار والعلمانيين , وإنما في حكم من أطلقها من المسلمين , فلا بد من اعتبار المقصود بالمصطلح في خطاب المسلمين وليس في خطاب الكفار والعلمانيين .

ومن أطلقها من العلماء والمفكرين الإسلاميين يؤكدون كثيرا بأنهم يرون أن الديمقراطية مجرد آلية من الآليات وتنظيم من التنظيمات , وأن معاني الشرك والكفر ليست ملازمة لها في كل صورها وأشكالها , وفي هذا المعنى يقول رشد الغنوشي - وهو من أشهر الدعاة المسلمين إلى الديمقراطية – بعد أن قدم نقدا مطولا للديمقراطية الغربية :" مكن للآليات الديمقراطية، مثلما هو الأمر مع الآليات الصناعية باعتبارها إرثاً إنسانياً أن تعمل في مناخات ثقافية، وعلى أرضيات فكرية مختلفة , فليست العلمانية مثلا والقومية العنصرية وأولية قيم الربح واللذة والسيطرة والقوة النفعية وفصل الدين عن الدولة وتأليه الإنسان- وهي من القيم التي نشا النظام الديمقراطي فيه إطارها- حتميات لازمة له"([20]).

ويقول يوسف القرضاوي :"نأخذ من الديمقراطية أساليبها وآلياتها وضماناتها التي تلائمنا , ولنا حق التحوير والتعديل فيها , ولا نأخذ فلسفتها , التي يمكن أن تحلل الحرام , أو تحريم الحلال , أو تسقط الفرائض"([21]) .

فكما أن العلماء لم يحاكموا الكرامية حين أطلقوا لفظ الجسم على الله إلى معناه الأصلي في اللغة العربية وإنما اعتبروا مقصودهم ومرادهم في الحكم عليهم , فلم يحكموا عليهم بالوقوع في الكفر بأنهم قصدوا به معنى القائم بالنفس , فكذلك يجب أن نفعل فيمن دعا إلى الديمقراطية وأطلقها , فلا يصح أن نحاكمهم إلى أصل معنى الكلمة ونشأتها , وإنما يجب أن نحاكمهم في باب التكفير إلى مرادهم ومقصودهم , فإنه لا فرق بين البابين .

ففي هذه الحالة لنا مسلكان في بيان حكم الدعوة إلى الديمقراطية , أما المسلك الأول : فهو أن يقال : إن لفظ الديمقراطية لفظ مجمل فلا يطلق الحكم بكفر الدعوة إليه ولا عدمه كفره حتى نعلم المقصود منه , والمسلك الثاني : أن يقال : إن أصل مفهوم الديمقراطية يوجب الكفر الأكبر , ولكن شاع استعماله في العالم الإسلامي بمعاني لا توجب ذلك , فلا بد من الاستفصال والتقسيم , كما سبق بيانه .

الاعتراض الثاني: أنه لا توجد ديمقراطية في الواقع بدون الأسس الكفرية التي قامت عليها ونمت في إطارها , فكل أشكالها في الواقع متلبسة بما يوجب الخروج من الإسلام([22]).

ولا يصح الاعتماد على هذا المعنى في إطلاق التكفير بالدعوة إلى الديمقراطية لأن البحث ليس في حكم واقع النظام الديمقراطي المطبق في العالم الإسلامي , وإنما البحث في حكم التقريرات النظرية والعلمية التي يدعو إليه عدد من علماء المسلمين ومفكريهم , فصورة المسألة : أن بعض علماء المسلمين يرى أن الديمقراطية لا تعارض الإسلام ولا تناقضه بل توافقه , لأنه يرى أن جوهر معناها الاعتماد على الشورى ومحاربة الاستبداد والقهر وإتاحة الفرص لمشاركة الأمة في السياسة ومحاسبة الحكام والأمراء , فما حكم الديمقراطية بهذا المعنى ؟

والحكم عليهم بناء على الواقع التطبيقي للنظام الديمقراطي غير صحيح ؛ لأن الواقع ليس قولا لهم ولا فعلا صادرا عنهم , بل قد أظهروا مخالفتهم له وعارضوه وبينوا مناقضته للشريعة , وإن بعضهم دخل فيه من باب تقدير المصلحة والمفسدة وليس من باب أنه مواقف لما يدعو إليه من أفكار نظرية .

وقد صرح يوسف القرضاوي بأنه لا يجوز للمسلم أن يشارك في حكم غير إسلامي , وذكر أنه "لا ريب أن الأصل في هذه القضية: ألا يشارك المسلم إلا في حكم يستطيع فيه أن ينفذ شرع الله فيما يوكل إليه من مهام الولاية أو الوزارة وألا يخالف أمر الله تعالى ورسوله، الذي يجب أن يخضع لهما بمقتضى إيمانه"([23]).

ثم ذكر أنه يجوز الخروج عن ذلك الأصل في بعض الحالات , وذكر لذلك شروطا قال فيها :" ثالثها: أن يكون له حق معارضة كل ما يخالف الإسلام مخالفة بينة، أو على الأقل: التحفظ عليه. فالوزير قد يقيم العدل الممكن في وزارته، ولكنه يطلب منه في مجلس الوزراء باعتباره واحدًا منهم: أن يوافق على قوانين أو اتفاقيات أو مشروعات، مخالفة لقواطع الإسلام، فهنا يجب عليه أن يعترض أو يتحفظ، بقدر نوع المخالفة وحجمها"([24]).

فإن قيل : حتى ولو استلم الإسلاميون الحكم وطبقوا الديمقراطية فإنهم لن يخلصوها من المضامين العلمانية الشركية .

قيل : إن هذا الحكم لا يعدو أن يكون رجما بالغيب , وحكما على الناس بما يتوقع حصوله منهم لا بما فعلوه , ولا شك أن ذلك ضلال مبين في الحكم والاستدلال .

وأما نموذج الإسلاميين المعاصرين الذين لم يتخلصوا من المضامين العلمانية , فلا يصح اعتباره ؛ لأنهم ليس في اختيار من أمرهم , وإنما هم مغلبون مقهورون , وبعضهم تحقق الانقلاب عليه وإخراجه من السلطة بالكلية , فالمقصود أن حال الإسلاميين حتى الآن ما زال في ضعف وإكراه .

وليس المقصود من ذلك تصحيح ما هم عليه من أفعال , وإنما المقصود الكشف عن أنه لا يصح الحكم على الدعوة إلى الديمقراطية بالتكفير بناء ما يقومون به في حالهم المعاصر .

الاعتراض الثالث: أن بعض الدعاة إلى الديمقراطية من الإسلاميين يصرح يتبني المضامين العلمانية الشركية في الديمقراطية([25]).
وهذا الاعتراض ليس مسوغا لإطلاق القول بتكفير الدعوة إلى الديمقراطية ؛ لأنا لا ننكر أن بعض الإسلاميين يفعل ذلك , ولكن ذلك لا يعني أن كل من دعا إلى الديمقراطية من الإسلاميين يتبنى المضامين المكفرة , ولا يجوز الحكم على الجميع بفعل البعض , فإن ذلك جرم عظيم وانحراف كبير .

ثم إن كثيرا من الإسلاميين الذي تبنوا الديمقراطية صرحوا بأنهم ينكرون المضامين الشركية فيها , يقول يوسف القرضاوي :"نأخذ من الديمقراطية أساليبها وآلياتها وضماناتها التي تلائمنا , ولنا حق التحوير والتعديل فيها , ولا نأخذ فلسفتها , التي يمكن أن تحلل الحرام , أو تحريم الحلال , أو تسقط الفرائض"([26]), , ويقول :" لا مجال للتصويت في قطعيات الشرع وأساسيات الدين وما علم منه بالضرورة، وإنما يكون التصويت في الأمور الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها مثل اختيار أحد المرشحين لمنصبٍ ما"([27]).

ويقول محمد عمارة :" الدولة الإسلامية دولة مدنية تقوم على المؤسسات، والشورى هي آلية اتخاذ القرارات في جميع مؤسساتها، والأمة فيها هي مصدر السلطات، شريطة أن لا تحل حراماً أو تحرم حلالاً جاءت به النصوص الدينية قطعية الدلالة والثبوت"([28]), ويقول مؤكدا المعنى السابق ومبينا الفرق بين الإسلام والديمقراطية :" أما الجزئية التي تفترق فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية فهي خاصة بمصدر السيادة في التشريع الابتدائي، فالديمقراطية تجعل السيادة في التشريع ابتداء للشعب والأمة، إما صراحة وإما في صورة ما أسماه بعض مفكريها بالقانون الطبيعي الذي يمثل بنظرهم أصول الفطرة الإنسانية، ومن ثم فإن السيادة وكذلك السلطة في الديمقراطية هما للإنسان الشعب والأمة، أما في الشورى الإسلامية فإن السيادة في التشريع ابتداء هي لله سبحانه وتعالى، تجسدت في الشريعة التي هي وضع إلهي، وليست إفرازاً بشرياً ولا طبيعياً، وما للإنسان في التشريع هي سلطة البناء على هذه الشريعة"([29]).

ويقول فهمي هويدي :" الديمقراطية التي نقبلها ونعتبرها مقابلا للشورية أو ترجمة معاصرة لها , هي تلك التي لا تحل حراما ولا تحرما حلال"([30]).

ويقول راشد الغنوشي :"إن الإسلام يملك القدرة على استيعاب الصيغة الديمقراطية , وترشيدها في اتجاه أن يكون حكم الشعب مستضيئا بالقانون الإلهي ... فإذا كان في الديمقراطية الغربية ورجعية عليها هي القانون الطبيعي , كما يقول محمد عمارة , فنحن المسلمين نضع الشريعة الإسلامية مكانه , الديمقراطية الإسلامي تعطي كل السلطة للأمة بشرط إلا تحل حراما ولا تحرم حلالا"([31])

ويقول مشير المصري :" سلطة الأمة في الديمقراطية المعاصرة مطلقة، فالأمة هي صاحبة السيادة المطلقة وهي أو المجلس الذي تنتخبه التي تضع القانون أو تلغيه ولكن في الشورى ليست سلطة الأمة مطلقة هكذا، وإنما هي مقيدة بالشريعة ولا تستطيع أن تتصرف إلا في حدود هذا القانون"([32]).

وتقرير هذا المعنى مشهور جدا عند جمهور من تبنى الديمقراطية من علماء المسلمين ومفكريهم , فهم يتبنون نموذجا لها مختلفا عن النموذج الغربي الشركي , فلا بد أن يحاكموا إلا إلى ما تبنوه , وليس إلى ما يتبناه غيرهم .

وليس المقصود من نقل المقالات السابقة تأييد ما فيه ولا تصحيحه , وإنما بيان المنهج الصحيح في الحكم عليها بالتكفير .

نقض الأدلة التي اعتمد عليها من أطلق القول بتكفير الدعوة إلى الديمقراطية :

استدل الذاهبون إلى إطلاق التكفير بالدعوة إلى الديمقراطية على تصحيح موقفهم بعدد من الأدلة ترجع أصولها إلى أربعة أدلة أساسية , هي :

الدليل الأول: أن أصل معنى الديمقراطية تحكيم الناس وجعل التشريع موكلا إليهم من دون الله تعالى , وهذا المعنى مناقض لأصل الإيمان بالإسلام والخضوع له .

يقول المقدسي في بيان هذا الدليل في أثناء استدلاله على قوله : "أولاً: لأنها تشريعُ الجماهير أو حكمُ الطاغوت وليست حُكمَ الله تعالى... فالله جل ذكره يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بما أنزل الله عليه، وينهاه عن أتباع أهواء الأمة أو الجماهير أو الشعب...

أما في دين الديمقراطية وملَّةِ الشرك فيقول عبيدها: (وأنِ احكم بينهم بما ارتضى الشعب واتبع أهواءهم واحذر أن تُفتن عن بعض ما يُريدون ويشتهون ويُشرِّعون)...هكذا يقولون... وهكذا تقرر الديمقراطية، وهو كفرٌ بواحٌ وشركٌ صراحٌ لو طبقوه"([33]).

وهذا الدليل لا يسوغ إطلاق القول بأن الدعوة إلى الديمقراطية كفر أكبر ؛ لأننا لا ننكر أن أصل فكرة الديمقراطية في العالم الوثني العلماني مناقضة لشريعة الله لكونها تجعل التشريع موكلا إلى الناس , ولا شك أن هذا شركا أكبر , ولكن هذا ليس هو محل البحث , فبحثنا ليس في حكمها من حيث أصلها , وإنما حكمها من حيث صورتها في العالم الإسلامي , وبمعناها الذي يقرره عدد من علماء المسلمين .

فهذا الدليل قائم على اختزال شديد لحقيقة الديمقراطية وصورها المختلفة في الواقع الإسلامي , فالمستدل اختزل مكونات الديمقراطية في مكون واحد فقط , واختزل صورها وأشكالها النظرية في صورة واحدة , والحقيقة – كما سبق التنبيه عليه- أن الديمقراطية نظام مركب من مكونات متعددة , وبعض المسلمين يدعو إليها ويقصد بعض تلك المكونات لا كلها , بل ينكر المكون الكفري منها إنكارا صريحا .

فليس صحيحا مع ذلك كله أن يطلق القول بتكفير الديمقراطية من غير تفصيل , وإنما الموقف الصحيح الدقيق المواقف لمنهج المحققين من العلماء أن يسلك مسلك التفصيل والتفريق كما سبق بيانه .

الدليل الثاني: أن الديمقراطية تلغي إلزام الشريعة وتجعل وجوب تطبيقها متعلق على رغبات الناس وأهوائهم , يقول أبو بصير الطرطوسي في بيان حقيقة هذا الدليل :"في الديمقراطية كل شيء – مهما سمت قداسته بما في ذلك دين الله – حتى ينال القبول عند القوم يجب أن يخضع للاختيار والتصويت ، ورفع الأيدي وخفضها، والاختيار يقع دائماً – كما تقدم – على ما تجتمع عليه الأكثرية،وإن كان المختار باطلاً! وهذا مبدأ - بصورته هذه - باطل شرعاً، الرضى به يفضي إلى الكفر والارتداد عن الدين"([34]).

والاعتماد على هذا الدليل في إطلاق التكفير على الديمقراطية غير صحيح , وذلك يتبين بالأمور التالية :

الأمر الأول : أنه ليس كل من تبنى الديمقراطية من علماء المسلمين المعاصرين يقول بأن الشريعة تخضع للتصويت , بل صرح كثير منهم بأن الأحكام الشريعة المنصوص عليها لا تدخل ضمن ما يصوت عليه , وقد سبق نقل كلام يوسف القرضاوي وغيره قبل قليل .

الأمر الثاني : أن بعض من يقر بالتصويت على الشريعة ويدعو إلى ذلك لا يقول : إن الشريعة غير ملزمة , ولا يقول : إن أحكامها لا تثبت في نفس الأمر إلا بالتصويت عليها , ولا يقول : إن الشريعة مرفوضة حتى يقبلها الناس , ولا يقول : إن وجوب العمل بها على مستوى الأفراد وعلى مستوى الشعب لا يكون إلا بالتصويت , وإنما غاية ما يقول : أنا مؤمن بأن الشريعة ملزمة لا مثنوية في لزوم العمل بها وأدعو إلي ذلك وأسعى إليه , ولكن أحسن طريق للبلوغ إلى جعل الشريعة نظاما ملزما للناس في البلاد بكل أصناف من يعيش فيه هو اعتبار صوت الأكثرية فلا يمكن أن يقام حكم مستقر في الواقع تتحقق فيه ضمانات الاستمرار والنزهة إلا بذلك .

فمحل البحث معه إذن ليس في الإيمان بالأحكام الشرعية ولا في التسليم بها ولا في وجوب الأخذ بها ولا في لزوم تطبيقها في الواقع , وإنما محله في شيء واحد محدد , هو كيف نجعل ذلك نظاما شاملا ولازما في المجتمع , فمحل الإشكال عنده ليس في تطبيق الشريعة وإنما في منهجية تطبيقها , فهو يريد أن يجيب على الأسئلة التالية : كيف نطبق الشريعة في الواقع ؟ وكيف نجعله نظاما عاما في المجتمع؟ ومَن الأولى بفعل ذلك هل هو الفرد المستبد أم المجتمع؟ وكل هذه الأسئلة لا تتعلق بأصل الإيمان بالحكم الشرعي ولا بأصل التسليم به , وإنما يتعلق بطرق تطبيقه وتنفيذه في الواقع([35]).

فهذا القول – أعني أن تطبيق الشريعة لا بد أن يمر عبر التصويت- في حد ذاته ليس كفرا ؛ لأنه لم تتحقق فيه مناطات الكفر المعتبر , فهو لا يستلزم إنكار التسليم بالإحكام الشرعية ولا وجوب تطبيقها في الواقع , وإنما يتعلق بطريقة جعلها نظاما فقط .
والتوضيح السابق لا يعني الإقرار بصحة ذلك القول وإباحته , وإنما غاية ما يعني تحرير مناطات الحكم عليه بالكفر الأكبر , ثم يبقى بعد ذلك الحكم عليه بالإباحة والتحريم أو بالصلاح والفساد , وهو محل آخر .

الدليل الثالث: أن النظام الديمقراطي يقوم على حرية التدين والاعتقاد , فللمرء في ظل الأنظمة الديمقراطية أن يعتقد ما يشاء , ويتدين بالدين الذي يريد , ويرتد إلى أي دين وقت ما يشاء , وإن كان هذا الارتداد يؤدي إلى الخروج من الإسلام إلى الإلحاد والأديان الوثنية([36]).

ويقوم أيضا على حرية الرأي والتعبير عنه أيان هذا أن التعبير , ولو كان طعنا في الدين والذات الإلهية , فلا يوجد في الديمقراطية شيء مقدس يحرم الطعن فيه , ويصح أن تتشكل فيه الأحزاب العلمانية الكافرة وأن تدعوا إلى أفكارها في بلاد المسلمين .
يقول أبو قتادة الفلسطيني في هذا المعنى :"يسألونهم عن الديمقراطية والتعددية الحزبية: ومهما يحاول مشايخنا فإنهم ولا شك أمام خيارين: أولاهما: الخروج من الإسلام، وذلك بالفتوى أن الدولة الإسلامية تجيز التعددية الحزبية، لأن التعددية الحزبية تعني جواز الأحزاب الكافرة والمرتدة، هذه الأحزاب التي سيسمح لها أن تمارس نشاطات الدعوة إلى الكفر والشرك، وهي التي سيسمح لها كذلك بالبلوغ إلى الحكم، وحيث أجاز الشيخ هذا الفعل فإنه جدير بلفظ: كافر ومرتد"([37]).

وانتهى أبو بصير الطرطوسي بناء على ذلك إلى أن الديمقراطية ترادف الإباحية في كل معانيها , حيث يقول :" لو أردنا أن نبحث في طيات القواميس والمعاجم العربية عن الكلمة العربية المرادفة التي تعطي المعنى الحقيقي لمضمون كلمة الديمقراطية لوجدناها لا تعدو أن تكون كلمة الإباحية بكل ما تعني الإباحية من معنى ومفهوم ... وعليه فإننا نقول: الديمقراطية هي الإباحية بعينها، والإباحية هي الديمقراطية، والديمقراطيون هم الإباحيون، والعكس كذلك فلا فرق , ومن رأيتموه يتغنى بالديمقراطية ويدعو إليها فارموه بالإباحية، وأسيئوا الظن به مهما رأيتموه يتزي بزي الإسلام أو يتظاهر به"([38]).

وقبل الدخول في نقض هذا الدليل لا بد من التأكيد بأنا لا ننكر أن النظام الديمقراطي الغربي يناقض الإسلام في مبدأ حرية التدين والرأي والتعبير عنه , ولكن الاعتماد على هذا الدليل في إطلاق القول بتكفير الدعوة إلى الديمقراطية من غير تفصيل خطأ , ويتبين ذلك بما يلي :

الأمر الأول : أنه لا أحد من علماء المسلمين المعتبرين ممن دعا إلى الديمقراطية يقول بالإباحية المطلقة , ولا أحد منهم يقول إن الأديان كلها سواء , وأنه يجوز  شرعا أن ينتقل الإنسان بينها , وأنه يباح للمسلم أن يرتد عن دين الإسلام , ولا أحد منهم يقول إنه يباح شرعا الطعن في دين الإسلام أو في الذات الإلهية .

فكل هذه الأمور لا يقول بها أحد من أولئك العلماء ألبتة , ولا يجوز شرعا التساهل في نسبة هذه الأقوال الشنيعة إلى أحد منهم .
إن غاية ما وقع فيه بعضهم أنه أنكر وجود عقوبة محددة على تلك الأفعال في الشريعة , فصرح بعضهم بإنكار حد الردة أو يجعله عقوبة تعزيرية فقط , وهذا الإنكار متعلق بالعقوبة على الفعل ولا بحكم الفعل ذاته , فلا يصح أن ينسب إليهم إنكار حكم الفعل بناء على ذلك .

وإذا أطلق بعضهم حرية التدين فإنه لا يقصد بها أن الإنسان يباح له ترك الإسلام والتنقل بين الأديان , ولا يقصد بها أن الأديان كلها سواء , وإنما غاية ما يعني أنه لا عقوبة عليه مقررة في الشريعة .

وما سبق من توضيح ليس إقرارا لما يقولونه من أقوال , وإنما هو توضيح وتدقيق في تحديد المناطات التي توجب الكفر من غيرها , ثم يبقى بعد ذلك البحث في حكم قولهم([39]).

الأمر الثاني : أما الموقف من الأحزاب العلمانية فإنه ليس كل من تبنى الدعوة إلى الديمقراطية من علماء المسلمين يقر بوجودها أو يمسح بها , بل قد نص عدد منهم على إنكار ذلك وتحريمه , ونصوا على أنه لا يصح ان يقوم في بلاد المسلمين أحزاب كافرة , وممن نص على ذلك : يوسف القرضاوي ومصطفى مشهور وأحمد الفنجري ومشير المصري وصلاح الصاوي وغيرهم([40]) , وفي بيان ذلك يقول القرضاوي :" " لا يجوز أن ينشأ حزب يدعو إلى الإلحاد أو الإباحية أو اللادينية أو يطعن في الأديان السماوية عامة أو في الإسلام خاصة , أو يستخف بمقدسات الإسلام : عقيدته أو شريعته أو قرآنه أو نبيه عليه الصلاة والسلام"([41]).
وهذه المعاني وغيرها تؤكد على أن جمهور العلماء والمفكرين الإسلاميين الذين تبنوا الدعوة إلى الديمقراطية لم يتبنوها بالصورة المطابقة لما هي عليه في الفكر الغربي , وإنما تبنوا صورة أخرى سعوا فيها إلى التخلص من المناطات الموجبة للتكفير .

الدليل الرابع : أن الديمقراطية تقوم على مبدأ المساواة , وهو مبدأ يغلب اعتبار الدين وتأثيره في كل شؤون الحياة , فجميع مجالات الحياة في ذلك النظام تبنى على العقد الاجتماعي وليس على الدين , فلا فرق بين المسلم واليهودي والوثني في بناء الأحكام , وفي هذا المعنى يقول الطرطوسي :" تقوم الديمقراطية على مبدأ المساواة – في الحقوق والواجبات – بين جميع شرائح وأفراد المجتمع، بغض النظر عن انتماءاتهم العقدية، والدينية، والسيرة الذاتية لأخلاق الناس؛فيستوي في نظر الديمقراطية أكفر، وأفجر، وأجهل الناس، مع أتقى، وأصلح، وأعلم الناس، في تحديد من يحكم البلاد والعباد، وغيرها من الحقوق والواجبات!، وهذا النوع من المساواة لا شك في بطلانه وفساده؛ لمساواته بين الحق والباطل، وبين المتضادين المتناقضين، ومغايرته ومخالفته لكثير من النصوص الشرعية المحكمة ...ومن يقول بخلاف ذلك لزمه تكذيب القرآن الكريم، وهذا عين الكفر البواح"([42]).

ولكن الاعتماد على هذا الدليل في إطلاق القول بأن الديمقراطية كفر في كل صورها وأحوالها غلط , وذلك لأمور :

الأول : لا شك أن الديمقراطية الغربية تلغي اعتبار الدين في الحياة , ولا ريب أن مبدأ المساواة فيها يلغي تأثير الدين في المجتمع , ولكن بحثا ليس في هذه المعاني , فمن يدعو إلى الديمقراطية من علماء المسلمين ليس كلهم يقول ذلك , بل كثير منهم ينص نصا صريحا على أنه لا يقبل بما يخالف أحكام الشرعية القطعية .

وقد سبق قول القرضاوي الذي قال فيه :"نأخذ من الديمقراطية أساليبها وآلياتها وضماناتها التي تلائمنا , ولنا حق التحوير والتعديل فيها , ولا نأخذ فلسفتها , التي يمكن أن تحلل الحرام , أو تحريم الحلال , أو تسقط الفرائض"([43]), , ويقول :" لا مجال للتصويت في قطعيات الشرع وأساسيات الدين وما علم منه بالضرورة، وإنما يكون التصويت في الأمور الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها مثل اختيار أحد المرشحين لمنصبٍ ما"([44]).

وأكد فهمي هويدي على أن الديمقراطية الذي يدعو إليها هي الديمقراطية التي لا تحل حراما ولا تحرما حلالا([45]).

ومما يدل على ذلك أيضا نص كثير منهم على عدم القبول بوجود الأحزاب غير الدينية في الدولة الإسلامية .

ومما يدل على ذلك نص بعض منهم على أن الوظائف ذات الطابع الديني لا يصح أن تعطى لغير المسلم , كالإمامة والخطابة والأذان وخدمة المسجد وغيرها([46]), وكذلك نص بعضهم على أن رئاسة الدولة الإسلامية لا يصح أن تكون إلا للمسلم فقط , يقول القرضاوي :" والواقع أن الدولة في الإسلام: دولة عقائدية، دولة فكرة ورسالة، وهي موصولة بالدِّين، غير منفصلة عنه. ومن أول مسؤولياتها: التمكين لدين الله، والذود عنه، ورئاسة الدولة في الإسلام لها اختصاصات ذات علاقة بالشأن الدِّيني، وبعضها لا يجوز أن يقوم به إلا مسلم، مثل إمامة الناس في الصلاة، فالإمام أو الحاكم المسلم هو إمام الناس في الصلاة، وقائدهم في المواجهة، وقاضيهم في الخصومات، والنائب عن رسول الله في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به"([47]).

الأمر الثاني : أنه لا شك أن عددا من الدعاة إلى الديمقراطية أنكر بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بإحكام المواطنة , مثل إنكار بعضهم لدفع الجزية في عصرنا الحاضر.

ولكن هذا الإنكار – مع خطئه - ليس من موجبات الكفر الأكبر , لأنه لا يتعلق بأصل مشروعية تلك الأحكام و وإنما يتعلق بتحرير مناطاتها وتطبيقاتها , فهم لا يقولون : إن دفع الجزية ليس مشروعا في الشريعة وإنما يقولون : إن مناطاتها ليست متوفرة في عصرنا ؛ لأن طبيعة المجتمعات قد تغيرت .

فلدينا في هذه الأحكام موقفان : الأول : من ينكر أصل مشروعيتها ويرى أن فيها ظلما للأقليات في بلاد المسلمين , وهذا الموقف لا شك في كونه كفرا أكبر لأنه يتضمن تذيب النصوص الشرعية القطعية .

والثاني : من يقر بأصل مشروعيتها ويرى أنها تمثل العدل والحكمة , ويرد على العلمانية الذين ينكرونها , ولكنه يقول : إن مناط تطبيقها في عصرنا لم يعد موجودا , فلا نطبقها لا لأنها مشروعة ولا لأنها لا مثل العدل والحكمة , وإنما لأن مناط تطبيقها غير موجود .

وهذا الموقف ليس كفرا ؛ لأنه لا يتضمن إنكار الحكم الشرعي , وإنما يتعلق بتطبيقه وتنفيذه في الواقع , ولو تغيرت تلك المناطات ورجعت المناطات السابقة لطبق الحكم من جديد , فلو كانت مشكلة هذا الموقف مع أصل الحكم الشرعي لما قال أتباعه بإمكان رجوع الحكم مرة أخرى عند تغير المناطات .

ولا بد من التنبيه مرة أخرى أن التقرير السابق ليس المراد منه تصحيح تلك المواقف ولا تسويغا لها , وإنما غاية ما فيه تحرير المناطات الموجبة للكفر الأكبر وعدم الموجبة له .

وفي ختام البحث في حكم التكفير بالديمقراطية لا بد من التأكيد على عدد من الأمور :

الأمر الأول : أن القول بان الدعوة إلى الديمقراطية ليس كفرا بإطلاق لا يعني إباحة استعمال ذلك اللفظ وتسويغ اعتماده في بيان الحقائق الشرعية , بل الواجب على المسلمين عموما وعلى المصلحين خصوصا الابتعاد عن المصطلحات المجملة والمصطلحات التي لها حمولات مناقضة للشريعة , ويعتمدوا على المصطلحات الشرعية أو الواضحة البينة .

الأمر الثاني : أن الوصول إلى أن كثيرا من المقالات التي يتبناها دعاة الديمقراطية من المسلمين لا تصل إلى الكفر الأكبر لا يعني التقليل من شناعة الأخطاء في تلك المقالات ولا التهوين من الأغلاط التي وقعوا فيها , فضلا عن أن يعني ذلك تسوغها أو الدعوة إليها .

الأمر الثالث : أننا لا نبرئ كل من دعى إلى الديمقراطية من المفكرين والعلماء من الوقوع في بعض المقالات الموجبة للكفر الأكبر , ولكن بحثنا ليس في إثبات هذا الحكم , وإنما هو في إثبات وقوع كل من دعى إلى الديمقراطية أو أكثرهم في المكفرات الموجبة للخروج من الإسلام .

الأمر الرابع : أننا لا ننكر وجود من اختزل الديمقراطية في بعض مكوناتها التي لا تخالف الإسلام , ورتب على ذلك إطلاق القول بأنها لا تخالف الإسلام في كل الأحوال , ولا شك أن هذا الموقف خطأ , , ولكن البحث ليس في هذا الصنف , وإنما في الصنف الأخر الذي يقرر البراءة من كل ما يناقض الشريعة .


________________________________________
([1]) الديمقراطية دين (11)
([2]) المرجع السابق (14) .
([3]) حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية (37) .
([4]) الجهاد والاجتهاد تأملات في المنهج (79) نسخة وورد مأخوذة من النت .
([5]) الجامع في طلب العلم الشرعي (139) نسخة وورد مأخوذة من النت .
([6]) انظر في هذه المكونات : واقع المسلمين بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين , أحمد سالم (42-44) .
([7]) من فقه الدولة في الإسلام (132) , وانظر : الدين والسياسة تأصيل ورد شبهات , يوسف القرضاوي(171) .
([8]) المرجع السابق (139) .
([9]) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين (110) .
([10]) الإسلام والديمقراطية (8) .
([11]) تجربة نضال , حوار مع الشيخ راشد الغنوشي (74) .
([12]) انظر : الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية (174) .
([13]) منهاج السنة النبوية (2/554) , ومجموع الفتاوى (17/304) .
([14]) انظر : مجموع الفتاوى (17/314) , ومنهاج السنة النبوية (2/530) .
([15]) انظر : منهاج السنة النبوية (2/548) .
([16]) انظر : حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية , أبو بصير الطرطوسي () , والديمقراطية دين , أبو محمد المقدسي (11) .
([17]) الديمقراطية والإسلام (10) .
([18]) الإسلاميون والديمقراطية , هشام مصطفى عبدالعزيز (92) .
([19]) المرجع السابق (90) .
([20]) الحريات العامة في الدولة الإسلامية (88) .
([21]) من فقه الدولة في الإسلام (138) .
([22]) انظر : حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية , أبو بصير الطرطوسي (39) .
([23]) من فقه الدولة في الإسلام (178) .
([24]) المرجع السابق ( 185) .
([25]) انظر : حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية , أبو بصير الطرطوسي (40) .
([26]) من فقه الدولة في الإسلام (138) .
([27]) المرجع السابق (142) .
([28]) في النظام السياسي في الإسلام (45) .
([29]) المرجع السابق (75) .
([30]) الإسلام والديمقراطية (8) .
([31]) الحريات العامة في الدولة الإسلامية (316) .
([32]) المشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصر (85) .
([33]) الديمقراطية دين (12) .
([34]) حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية (27) .
([35]) انظر في تفصيل : الإلزام بالشريعة وتحرير محل النزاع , فهد العجلان .
([36]) انظر : حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية , أبو بصير الطرطوسي (15 , 17 , 23) .
([37]) الجهاد والاجتهاد تأملات في المنهج (76) , نسخة وورد منقولة من الانترنت .
([38]) حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية  (48) .
([39]) وقد كتبت في نقض أقوالهم كتابا خاصا بعنوان : فضاءات الحرية , وهو منشور في النت .
([40]) انظر في بحث هذه القضية : التعددية في الدولة الإسلامية , صلاح الصاوي (91-132) , ودراسات حول التعددية الحزبية , هشام آل برغش (155-271) , والمشاركة في الحياة السياسية , مشير المصري (181-190) , والأحكام الشرعية للنوازل السياسية , عطية عدلان (224-300) .
([41]) من فقه الدولة في الإسلام , يوسف القرضاوي (147) .
([42]) حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية (29) .
([43]) من فقه الدولة في الإسلام (138) .
([44]) المرجع السابق (142) .
([45]) انظر : الإسلام والديمقراطية (9) .
([46]) انظر : الدين والدولة , يوسف القرضاوي (186) .
([47]) الدين والدولة (186) .
 

 

 

 

حساب الكاتب على تويتر

المصادر: