سورية ما بعد الأسد و الخلافة القادمة

الكاتب : سلوى الوفائي
التاريخ : ١٨ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 11087


سورية ما بعد الأسد و الخلافة القادمة

أعظم تعبير عن الثورة هي أنّها مانحة الحياة للناس، باعثة على التجدد و النماء، و دحض البالي و الرخيص، و ليس ألصق بمفهوم الثورة بهذا المعنى من الثورة السورية المجيدة، فهي برؤياها لا تقف عند حدود تغيير حاكم أو نظام فاسد فحسب بل تتعداها إلى شفافية دفع الظلم بكلّ أشكاله السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و النفسية.

 


لقد نقلت بوح القلب و ترانيم الخاطر و حوّلتها إلى كلمات مدادها دمّ الشهداء و حروفها أجسادهم الطاهرة وهدفها ترجمة الذات السورية إلى واقع حضاري يفخر صنّاعه به و يصدحون بأصواتهم صرخة إنسانية ضدّ كلّ ما هو غير إنساني وكما قال بودلير الإنسان المنصف لا يكتفي بالتألم مما هو لا إنساني بل يعمل على إزالته أيضاً.
و أكبر جور تشهده سورية اليوم هو العدوان الثلاثي الإيراني- الأسدي – الشيطاني (حسن نصر الله) و من ورائهم صراعات أممية تسعى إلى نهش ما تستطيع من جسد الفريسة بعد أن ساندت القناص على اصطيادها.
و لاشكّ أن الشعب السوري اليوم لا يقاتل عدوّاً واحداً وقف له بالمرصاد على جبهة واحدة بل يقاتل العالم أجمع وكلّ طرف من أطراف الحرب يراهن على النصر معولاً على أسلحته الخاصة، و قدرته على إحداث التغيرات الجيوبوليتكية و الجيوسياسية، و لا شكّ أنّ حرباً ضروساً كهذه تجرّ الكثير من النزاعات و النعرات داخل سورية و خارجها لا سيّما أنّها طالت و من المرجّح أن تطول أكثر و أكثر.
وثمة حقيقة واحدة ثابتة هي أنّ ثورة الشعب السوري منتصرة إن عاجلاً أو آجلاً و أنّ نظام الأسد إلى زوال، إذ لم يعد يذكر اسمه على الخارطة السياسية إلا في عبارة واحدة فقط (سورية ما بعد الأسد) فما هو شكل سورية بعد الأسد؟
سؤال يؤرق الجميع و يحثّهم على رسم مستقبل الحكم في سورية بعد الأسد بالدرجة الأولى ومن ثمّ مستقبل سورية الحضاري الاجتماعي ككلّ.
صراع مرير تدور رحاه سرّاً و علانية بين وجهاء السياسة السورية المعارضة منها و المؤيدة، و قد تباينت الدعوات تباين الفكر الداع لها بدءاً من أنصار العلمانية و الداعين إلى إقامة دولة مواطنة مدنية مروراً بدعوات الداعين إلى تشكيل حكومة ائتلافية تضمّ أطياف المجتمع السوري بكافة خلفياته القومية و الدينية، و دعوات تنصيب فاروق الشرع التي تبنتها روسيا و أعلنت عن استعداد الأسد للتنحي وتسليم السلطة لنائبه الصوري الشرع الذي مازال الشعب السوري يرفضه كونه من فلول نظام بائد رغم انخفاض وتيرة ممثلي المجلس الوطني في رفضه و إعرابهم عن قبوله على استحياء، و من ثمّ محاولات المجلس الوطني تشكيل حكومة انتقالية مرضية لجميع أطراف المعارضة بما فيهم جماعة الإخوان المسلمين الذين يسعون إلى إحياء التجربة المصرية لكن مع إعطاء وعود و ضمانات للأقليات بعدم المساس بحقوق المواطنة والمشاركة في الحكم و لعلّ هناك فئة صامتة تخطط إلى استنساخ الحالة الأردوغانية بإقامة دولة إسلامية على الطريقة المدنية الفضفاضة.
وبين كلّ هذه الأصوات الداعية إلى أشكال متباينة من الحكم يبرز صوت المنادين بالخلافة الإسلامية القادمة وقد تضافرت هذه الأصوات ليس على المستوى السوري فحسب بل ربما على مستوى العالم الإسلامي.
ولعلّ الفئة الداعية إلى إحياء عهد الخلافة هي أكثر الفئات رفضاً للتدخل الأجنبي في سورية لإنهاء حالة الحرب و إسقاط النظام الأسدي و يرون في ذلك ضرباً من الشرك و ينذرون بالاحتلال الغربي الذي يتنظر فرصة انهيار النظام الأسدي لاستغلال حالة الفراغ الدستوري و فرض هيمنته ووصايته و حكامه المختارين وفق أجنداته الخاصة و يخشون من سايكس بيكو جديدة في سورية و لذا فهم يصرّون على تحقيق النصر بجهودهم في الوقت الذي يدينون فيه تقاعس الدول الإسلامية عن نصرة الشعب السوري و مدّ يد العون له في حربه المقدسة وتتردّد بين الحين و الآخر دعوات للجهاد الإسلامي مما حدا ببعض الأشقاء العرب إلى دخول سورية بدافع الجهاد والدفاع عن الأعراض و الأنفس مما فسح المجال أمام نظام الأسد بالتبجح والادعاء أنّ عناصر القاعدة بدأت تتسلل إلى سورية لتنفيذ عمليات إرهابية استشهادية تستهدف أمن الدولة و كانت دعواه ذريعة له ليضرب بيد من حديد و يمعن بقمع الثورة و دمار البشر والحجر وقد منحه العالم المتآمر غطاء دولياً سياسياً و أطلق يده ليستمر في مسلسل إنهاك الثورة و الشعب واستنفاذ مقدرات سورية وخيراتها و ضرب بنيتها التحتية، و أيّ هدية يقدّمها المجتمع الدولي لإسرائيل أعظم من تدمير سورية و استنزاف جيشها الوطني و شعبها الثائر العظيم؟
و السؤال: ما هي ملامح دولة الخلافة الإسلامية القادمة و ما هي سمات الخليفة المنتظر؟
و هل ستضمّ هذه الخلافة كافة الدول الإسلامية في العالم و ينطوي تحت لوائها ملايين المسلمين في الشرق و الغرب؟
وكيف سينظر العالم الغربي اللاإسلامي إلى هذه الخلافة و هو يشعر بالخطر المحدق من قيامها و يحاربها بشتى الوسائل، سواء على مستوى القيادات و الحكام أو على مستوى الشعوب الذين أصابهم فيروس الإسلاموفوبيا بسبب سوء ما يبثّه الإعلام الغربي عن المفاهيم الإسلامية وبسبب قصور العالم الإسلامي عن تقديم الصورة الحقيقية للإسلام و إنصافه من العبث و الإجحاف؟
فمشكلة العالم الإسلامي كانت وما تزال تنبع من ضعف الإعلام وندرة العاملين في مجال الدعوة و افتقارهم إن وجدوا إلى الثقافة الغربية وإلى اللغات الأجنبية التي هي وسيلتنا للخطاب العالمي و لإيصال الدعوة لغير الناطقين باللغة العربية.
وقد كثر الحديث عن عهد الخلافة القادمة في الخطاب العالمي و تناولها البعض بالتهكم مثل بريجنسكي الذي قال أنّ الإسلاميين لا يعنيهم وحتى إشعار آخر قد يكون بعيداً جداً، أو مأسوياً جداً، سوى السلطة.
إنّها جاذبية الخلافة التي يفترض ألا يكون لها مكان في العصر، ولكن من يقول أنّ الإسلاميين يؤمنون بمثالية القيم الراهنة، بما فيها القيم التكنولوجية، حتى أن الكثير من الأبحاث تتحدث عن "اللعنة التكنولوجية".
و تساءل البعض هل سيشهد العصر الراهن خروج فتوى بتحريم الكهرباء على اعتبارها بدعة عصرية؟ و ما إلى هناك من سخافات لا تمتّ إلى جوهر القضية بصلة.
و عموماً يرى الكثيرون أن فكرة الخلافة هي فكرة مبعثرة في رؤوس الداعين إليها المتبنّنين لأفكار حزب التحرير وهم متفرقون في أنحاء المعمورة ولا يملكون أيّة كتلة صلبة مستقرة في موقع راسخ ما قد تمكّنهم من طرح رؤيتهم طرح جدي لذلك تبقى أفكارهم أشبه بالطوباوية منها للواقعية، لذا فإن الدخول في عمق هذه الفكرة يستوجب الانخراط في علاقة مستقبلية مع الدول الإسلامية ومحاولة استقطابها لجاذبية الخلافة مما قد يشكّل ضرراً على العلاقات الدبلوماسية بين هذه البلدان وترفع الكثيرون منها عن قبول الفكرة لاسيما أنها تغلي نفوذ الحكام و تربطهم بحكم مركزي نابع من الخليفة المنتخب و هذا من شأنه أن يعطي أعداء الفكرة مبرراً للهجوم عليها ومحاولة الوقوف في وجهها لمنع تبلورها وتطورها مع إنّها عامل مهم لتشكيل كتلة إسلامية ذات نفوذ و سيادة و استقلالية.

لذا تبقى الفكرة إجمالاً غارقة بالغموض و مغرقة بالأحلام إذا ما أسقطت على واقع العصر الراهن و تشابك العلاقات السياسية و تقاطع أو تنافر المصالح الاستراتيجية للبلدان الإسلامية المعنية.
و لا يمنع ذلك من قيام تحالف إسلامي سنّي بطريقة تنسجم مع روح العصر.
لعلّ تركيا تبرز هنا كأحد أهم محاور التحالف السنّي المنشود إن لم تكن محورها الأول و عمودها الفقري، و قد تشدّق الكثيرون بالتخويف من احتلال عثماني جديد قادم وحذّروا من إحياء الإمبراطورية العثمانية بعد أن أصبحت رميماً و قالوا أنّ الامبراطوريات كالبشر إذا ماتت لا شيء يحي عظامها وهي رميم إلّا قدرة الخلاق.
لكن كلّ المؤشرات تدلّ أنّ ثمة تصاعد واضح يبشّر بقيام حلف إسلامي سنّي نواته تركيا و سورية و العراق السنّي و لبنان السنّي و قد تحدثّ الكاتب مجاهد مأمون ديرانية عن بذور هذا التحالف و رأى كلّ الحكمة في تحفّظ أردوغان عن الردّ على قذائف القوات الأسدية وانتهاكاتها للحدود التركية مراراً، و لاسيما بعد زيارة الرئيس المصري مرسي إلى تركيا و تكاتف حزب العدالة و التنمية مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر متمثلة بمرسي، في محاولة لجرّها إلى حرب إقليمية قد أنذر بوقوعها أوباماما وغيره وتحدث عنها صالح القلاب في مقالة مطولة محذّراً من تبعاتها على المنطقة.
و الصمت التركي لم يكن ضعفاً ولا خوفاً و إنما حكمة لها رؤية بعيدة المدى، على خلاف الرؤية الشعبية التي تدين أردوغان وتتناول صمته بالسخرية و الشتائم كونها تركّز التفكير فقط على واقع اليوم و تفاقم الأزمة في سورية واستنزاف الشعب في القتل والدمار والحصار حتى أصبحوا يطالبون بتدخل المريخ و عطارد لإنقاذهم من رحى الحرب الدائرة.
وبات من الواضح أنّ أمريكا لها إرادة في مدّ عمر الثورة و الحرب الدائرة بدليل امتناعها عن تزويد الجيش الحرّ بأسلحة نوعية ومضادات طيران و رفضها لإقامة حظر جوي من شأنه أن يقلب موازين المعركة و يحسمها لصالح الثورة الشعبية والجيش الحرّ وهذا ما لا تريده أمريكا في الوقت الراهن.
إذْ أنّ استمرار الحرب يحقق مصالح استراتيجية لجميع أطراف الصراع الحالي، فالدبّ الروسي الذي استنكر استئثار أمريكا و قوات الناتو بنصيب الأسد في ليبيا، و إخراجه من المولد بلا حمّص، وجد فرصته في التعنت في موقفه الداعم للأسد ليحصد نصيب الأسد ويثبت أن روسيا قوة، على العالم أن لا يستهين بها، فمنحته أمريكا هذه الفرصة ليشبع نهمه في الاستغلال و النفوذ و قد جنت روسيا إلى الآن أرباحاً طائلة من مجرد بيعها الأسلحة الفاسدة القديمة وخردّتها الحربية إلى النظام الأسدي، ناهيك عن العقود و الاتفاقات الاقتصادية السرية و العلنية و عن عمليات تبييض الأموال و إيداع ودائع مالية ضخمة في البنوك الروسية و إقامة مشاريع واستثمارات مشتركة بين قادة النظام الأسدي والزعامات الروسية المتكالبة.
كلّ ذلك أدى إلى اضطراب دراماتيكي في المشهد.
تدهور مبرمج في العلاقات بين الدول، وبين الطوائف، وبين المذاهب، واذا كانت إدارة الرئيس رونالد ريغان قد أطلقت نظرية «حرائق الغابات» لتسويق الاستراتيجية الخاصة بافتعال حروب تحت السيطرة ولأغراض محددة، فإن النظرية الشائعة الآن هي حرائق الشعوب.
يرى هنري كينغستون، الخبير الأمريكي، أنّ الحرب الباردة في الشرق الأوسط تتجه نحو الذروة. فذاك الغرام الروسي بنظام الرئيس بشار الأسد لا يمكن أن يكون، على المستوى الاستراتيجي، من قبيل العشق العذري. فقادة موسكو يشعرون بأن الدرع الصاروخية الأمريكية وضعت في غرف نومهم.
شيء ما يشبه الاحتلال الاستراتيجي لروسيا التي لا يمكن أن تتصور خسارة صواريخها العابرة للقارات مفعولها السياسي والاستراتيجي، ليضيف أنّ سوريا مكان مثالي لإقامة منشآت تفضي إلى موت الدرع الصاروخية في تركيا.
و تأتي مصلحة أمريكا في استمرار الحرب في سورية أيضاً في استنزاف إيران و قوتها العسكرية و الاقتصادية في دعمها للأسد و في ذلك خير لأمريكا من توجيه ضربة مباشرة لإيران تستنزف قواتها و اقتصادها كما استنزفتها في حربها في العراق.
و كلّ المؤشرات تدلّ إلى تراجع العملة الإيرانية بشكل ملحوظ وإلى بدء انهيار اقتصادها و قوتها العسكرية و هذا بحدّ ذاتها ما تريده أمريكا. و على قمة الهرم تقف اسرائيل متفرجة سعيدة فليس هناك خدمة أكبر يقدمها لها المجتمع الدولي من تدمير سورية و إنهاكها لخمسين سنة قادمة.
لذا كان من الحكمة ترفّع أردوغان عن الانجرار إلى حرب إقليمية و التريث في الردّ لتحقيق الهدف المنشود في إنشاء تحالف سنّي، و لن تخسر سورية في انضمامها تحت اللواء التركي أكثر مما خسرت في عهد الطغمة الأسدية الباغية و لن تخسر أكثر مما ستخسر لو عادت لعهد الانتداب الغربي اللاإسلامي ومن الحكمة أن لا ننظر إلى التحالف التركي السوري القادم بعين الخوف والرفض و وصفه بالاحتلال أو العدوان، فليس في الإسلام ما يدعو إلى رفض التحالف مع الشعوب الإسلامية و القومية الوحيدة التي يؤمن بها الإسلام هي القومية الإسلامية. أفكار كثيرة و تصورات متباينة عن سورية ما بعد الأسد و يبقى الحكم الفصل في ذلك لصناديق الاقتراع، و ستبقى سورية موضع اهتمام أمريكا كغيرها من دول النفط. ربّما يكون زبغينو بريجنسكي الأكثر دقة، والأكثر واقعية، حين قال "ما دام النفط هناك فستبقى أمريكا هناك، ولو استدعت المسألة حرباً نووية.
من يعترض فإما أن يلقى في قاع الماء أو في قاع الأرض، فمن يعبأ به…
صدّق المفكر نعوم تشومسكي حين تساءل لماذا تصرّ أمريكا أن تلعب دور يهوذا في الشرق الأوسط؟
و لماذا تريد صلب الربيع العربي بعد أن دقّت مساميرها في رقبته؟
و يفضي إلى خلاصة هامة هي أنّ الربيع العربي و إن صُلب، فإنّ ثمة هزة قد حدثت في الشرق الأوسط، تنذر بزلزال قادم و لن يقف يهوذا في وجه الزلزال.

المصادر: