ليست مفاجأة .... إنها حقيقة

الكاتب : محمد غريبو
التاريخ : ١٤ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 9752


ليست مفاجأة .... إنها حقيقة

لم يكن تشبيه الثورات العربية بفصل الربيع تشبيها عبثيا ولا صورة اعتباطية.
فقد أقبل هذا الربيع بعد طول انتظار... بعد شتاء طويل.. أسود.. مظلم.
امتلأت أيامه بأحداث مرعبة تفننت الدكتاتوريات العربية في إذاقة مرارتها للشعوب..
جاء هذا الربيع ليطوي صفحات سوداء..... وليمحو من حياتنا صورا وعبارات وهتافات أجبرنا على ترديدها ليل نهار "عاش القائد – بالروح بالدم – إلى الأبد"....


جاء هذا الربيع ليحطم تماثيل نصبت في وجوهنا في كل زاوية من زوايا بلادنا ليس للذكرى بل لتذكرنا بمن سيسحقنا إذا فكرنا يوما بعصيانه أو التمرد عليه.
ولكنه وعلى الرغم من كل أحداثه، وبكل ما حمله لنا من تغيير وخير وخلاص، فإن الكثيرين منا لم يضعوا في حسبانهم قدومه... ولم يتوقعوا مجيئه أبدا، ولم يجهزوا له عدته اللازمة.
ولعل الربيع السوري من أكثر أحداث الربيع العربي الذي لم يتوقع قيامه أحد في هذا البلد.
فمن كان يتوقع أن شعبنا سيتحدى ذلك الفرعون الذي امتلأ تاريخه بأفظع الجرائم.
ومن سيقف في وجه ذلك النمرود الذي أشغل الناس بالسعي وراء لقمة العيش ليل نهار دون الوصول إليها أو تأمينها طيلة 40 سنة.
ومن سيواجه تلك الأجهزة الأمنية التي بمجرد أن يمر أحقر وأصغر عناصرها في شارع ما، أخلى له الناس الشارع فزعا ورعبا...
مع بداية انطلاقة الربيع العربي ومع بداية أحداثه كنت سجينا في الفرع / 216/ فرع الدوريات الملاصق لفرع فلسطين.
لم نسمع بسقوط زين العابدين إلا بعد أيام، لحرص النظام على عدم تسرب أخبار هذه الأحداث إلينا في الداخل، وقص الأخبار المتعلقة بتلك الأحداث من صفحات الجرائد التي باتت تدخل إلى السجون في الفترة الأخيرة ثم سمعنا بعدها بسقوط مبارك وأحداث مصر...
كنا نتحدث ونتناقش طويلا:
هل تتوقعون أن يحدث شيء في بلادنا ؟!!!
لم أتوقع شخصيا أن يحصل شيء في بلدي سورية فمن هذا الذي سيتخلى عن راتبه ليضحي بسقف طموحاته وحلم حياته (الوظيفة)... لم نتوقع امتداد هذا الربيع إلى بلادنا لما عرفناه وعايشناه في سجون البعث من شدة القبضة الأمنية الحديدية.. وربما كان هذا أيضا رأي الكثيرين ممن كانوا خارج السجون لعلمنا جميعا بحقيقة هذا النظام وطبيعته.
لكن هل كان النظام البعثي الأمني الذي لم يُعرف عنه إلا بناء المؤسسات الأمنية و الأجهزة الاستخباراتية هذا النظام المعروف بذكائه الأمني هل كان يجهل قيام مثل هذا الربيع ؟
وهل كان امتداده إليه مفاجأة لم يكن قد أعد نفسه لها ؟
حقيقة كان النظام على علم مسبق بقيام مثل هذا الربيع قبل الثورة بما يقارب السنة!
فقبل هذا الربيع بسنة بدأ النظام ينتهج نهجا جديدا معنا كسجناء سياسيين في تعاملاته داخل السجون تمثل ذلك النهج بـــ:
أولا: تغيير معاملته مع السجناء السياسيين وتحسين ظروف السجون من الناحية الخدمية وزيادة كميات الطعام و السماح بشرائه من خارج الفروع الأمنية وزيادة الاهتمام بالناحية الصحية وتأمين العلاج على حساب الفرع وذلك بعد أن كانت سياسته قبل ذلك قائمة على التجويع و الإهانات المتكررة و السب و الشتائم للأعراض والإله والنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وإهمال الجانب الصحي تماما.
ثانيا: فتح باب الزيارات والبدء بتحويل السجناء إلى المحاكم والتخفيف من الأحكام بعد أن كانت الزيارات ممنوعة بشكل قطعي مع جهل معظم السجناء مدة حكمهم أو زمن تحويلهم إلى المحاكم.
ثالثا: منع الضرب داخل السجون وتحسين معاملة السجناء فقد قمنا بأكثر من استعصاء داخل فرع فلسطين وذلك بالضرب على الأبواب أو إضرابات عن الطعام وكان الضباط ينزلون إلى القبو للاستماع إلى مطالبنا ومنهم العميد المجرم منير أحمد شليبي الذي أسره الجيش الحر منذ أشهر والذي طالـبـَنا وبكل أدب ورجاء عدم الضرب على الأبواب مع تنفيذ كافة وعوده..
وقد قال له مرة عمر بدر الدين اليوسف: أنا موجود هنا منذ سنتين ونصف لم تسألني سؤالا واحدا فرعون ما سواها فقال له العميد وهل تشبهنا بفرعون فأجابه عمر بدر الدين:
"فرعون أفضل منكم فرعون سمع موسى للأخر" ولم يتحدث معه العميد أبدا.
وقد قام في فرع فلسطين الأخ/ محمود درويش. من مدينة الباب بضرب السجان أبو سليم الذي شتم الله سبحانه فضربه محمود درويش بلكمة على وجهه ونزل ضابط الأمن إلى القبو وتمت معاقبته فقط 3 أيام ثم إعادته إلى الغرفة علما أنه كان سابقا مجرد النظر في وجه السجان يعاقب عليه السجين 4 أشهر في المنفردات كما حصل مع الأخ محمد أبو كنور الذي رفع صوته في وجه السجان رمضان.
كما تمت معاقبة السجان الظالم سليمان الذي كان من أوفى السجانين لضباطه والذي قام بأخذ رشاوى من السجناء وبعد أن قام بعض السجناء بتقديم شكوى ضده قام الفرع بتسريحه من الخدمة ووضعه 6 أشهر في السجن و إعادة كافة الأموال التي أخذها إلى السجناء.
حتى عندما سقط نظام زين العابدين في تونس استنفر فرع الدوريات من حينها ولم يعد أحد من العناصر يغادر الفرع بسبب إعلان حالة الاستنفار
كلما حصلت مشكلة لم نكن نرى منهم إلا التنازلات:
السماح بالمصاحف والصلاة وخطبة الجمعة .... وعدم إجبارنا على النوم في الساعة 10 ونصف ...... التخفيف من عدد السجناء داخل الغرفة الواحدة ..... تزويدنا بالماء الساخن و أدوات الطبخ وسخانات الماء والسماح لنا بالخروج إلى ساحة الفرع للمشي و التشميس وكان رئيس فرع الدوريات يمشي معنا ويتودد إلينا بالحديث وكأننا في باريس وليس سورية البعث.
وقد يسأل سائل بعد كل هذا: إذا كان النظام قد قدم كل هذه التنازلات لعلم مسبق بتغييرات وثورات ستطاله فلماذا استعمل الحل الأمني منذ البداية ؟؟؟
لماذا لم يهرب كما فعل بعض أسلافه ؟؟؟
ولماذا لم يقدم إصلاحات حقيقية كما فعلت بعض الحكومات ليتدارك خطر السقوط؟؟؟
جواب هذه الأسئلة من عدة نقاط:
النقطة الأولى:
من حسن حظ النظام ولحكمة أرادها الله أن دور النظام في هذا الربيع جاء متأخرا نوعا ما فقد أخذ حذره و أعد الترتيبات اللازمة و لو انطلق فتيل الثورات من سوريا لانتهى النظام من اللحظة الأولى ولكن قدر الله و ما شاء فعل.
النقطة الثانية :
جميع الدكتاتوريات التي أسقطها الربيع العربي قبل الأسد كانت موجودة طيلة هذه الفترة السابقة كعملاء للغرب وخونة هذا أولا .. ثم لنهب خيرات البلاد ثانيا أي لصوص.
أما نظام الأسد الأب و الابن فتميزه خاصية ثالثة بالإضافة إلى الميزتين السابقتين وهي: وجوده على أساس طائفي ينظر إلى أهل السنة أنهم هم الذين كانوا سبب البؤس العلوي طيلة القرون السابقة وزوال حكمه يعني زوال الطائفة بأكملها وانقراضها في سورية وحرمانها من كافة مزايا السيادة التي تمتعت بها طيلة الفترة السابقة وأنا هنا لا أتحدث بطائفية ولا أحمل الطائفة العلوية وزر عائلة الأسد.
لذلك ونتيجة لهذه الحقيقة الطائفية التي يعمل على أساسها النظام طيلة هذه الفترة كانت هذه هي طريقته في التعامل مع الثورة
النقطة الثالثة:
ولأن النظام لم ينظر لهذا الشعب يوما إلا أنهم دواب في مزرعة آل الأسد فقد آثر استعمال القوة التي عامل بها الشعب طيلة هذه السنوات ولأنه ومن وجهة نظره الأمنية الغبية رأى أن الأنظمة الساقطة التي سبقته قصرت في استعمال القوة منذ البداية لذلك بادر إلى الحل الأمني مع تغطية إعلامية وتبريرات كاذبة لهذا القمع المفرط و اختراع عدة مصطلحات تخيف الغرب ليستر إرهابه فاخترع الإمارات السلفية وأخيرا الجماعات الإرهابية المسلحة.
النقطة الرابعة:
وصاية إسرائيل وأصدقائها وحمايتهم هي التي أبقت النظام طيلة هذه الفترة في الحكم فالأسد و أبوه وُجدوا أصلا لما قدموه من خيانات وتنازلات وتآمرات ولن يرحل أسد إلا بعد استكمال هذا الدور الخياني في تدمير البلاد وبنيته التحتية و تمزيق شمل أهله ولن يرحل إلا بعد استكمال هذا الدور لآخر مرحلة.
وإذا كانت كل هذه النقاط كانت سببا لاستعمال الأسد هذا العنف منذ اليوم الأول للثورة لا بد لنا من نقطة أخيرة.
النقطة الأخيرة:
لقد أعمت الأحقاد عيون طبيب العيون و أغرت به توجيهات إيران الطائفية فأخفقت كل حساباته ومحاولاته لقمع الثورة وإنقاذ مُلك طائفته على الرغم من معرفته بالثورة مسبقا.
لم تأت هذه الثورة مفاجأة للأسد كما بينَتْها بعض التسريبات الأمنية من أجهزة الأمن التي وضعت خططا مسبقة لقمع الثورة..
لكن هناك حقيقة أخرى يجهز الأسد نفسه لها بعد انتصارات الثورة على الأرض ...
هذه الحقيقة التي بات الأسد على علم بتفاصيلها رسم أحداثها هذه المرة ثوارنا الأبطال وليست الأجهزة القمعية.
المفاجأة بل الحقيقة التي جهزها الثوار للأسد و التي بات الأسد على علم تام بها هي تلك المشنقة التي ستنصب له في ساحة المرجة وذلك الحبل الذي سيزين رقبته حقيقة وواقعا لا خيالا....

 

المصادر: