..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مرصد الثورة

القصة المثيرة لتهريب الصحفيَّين الفرنسيين من بابا عمرو

مجاهد مأمون ديرانية

٥ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 10088

القصة المثيرة لتهريب الصحفيَّين الفرنسيين من بابا عمرو
111.jpg

شـــــارك المادة

القصة المثيرة

لتهريب الصحفيَّين الفرنسيين من بابا عمرو

ترجمَتها عن الفرنسية: جنان أسامي العوف

نُشرت المقالة الأصلية في جريدة “لافيغارو” بتاريخ 2/3/2012

 

تمكنت أخيراً إديت بوفييه وزميلها ويليام دانييلز، آخر الصحفيين الذين احتُجزوا لمدة تسعة أيام في حي بابا عمر بحمص، تمكنا من العودة إلى فرنسا يوم الجمعة. إليكم قصة تلك المغامرة المجنونة.
في غرفة في مشفى بيروت الكبير بدت إديت بوفييه ودانييل ويليامز مبتسمَين مرتاحين. بعد خمسة أيام مليئة بالمزالق والمخاطر وصل الصحافيان إلى بيروت مساء الخميس، بعد عدة ساعات من اجتيازهما الحدود اللبنانية. بانتظار عودتهما إلى فرنسا قصّا علينا حكاية الرحلة. إن هذه الرواية جديرة بأن تكون قصة من قصص المغامرات، وهي أيضاً شهادة بشجاعة المنشقين في الجيش السوري الحر الذين عالجوهما وحموهما ونقلوهما تحت القذائف وعبر خطوط الجيش النظامي التي تحاصر المدينة، وكان ذلك على حساب حياتهم نفسها في كثير من الأحيان.

أبدت إديت -بالرغم من إصاباتها- رباطة جأش كبيرة، وتكاد تبدو كالمعتذرة عن كل القلق الذي سبّبته. قالت والدتها على الهاتف: “حالياً نحن سعداء جداً جداً، أما بالنسبة للباقي فسنناقش ذلك فيما بعد”. تتوق إديت لشيء واحد، هو أن تستطيع المشي والجري ثانية، أما دانييلز فقد لاحظ أنه لم يلتقط صوراً تُذكر بسبب انشغاله بتهريب زميلته.

دخل الصحفيان سوريا سراً بفضل الجيش السوري الحر الثائر على الديكتاتور بشار الأسد، وصلا إلى حي بابا عمرو، المحاط بقوات الجيش النظامي، مساء 21 شباط، وكانا قد اجتمعا في الطريق بالمصور ريمي أوشليك، صديق دانييلز الذي كان قد غطى معه الثورة الليبية في الربيع الماضي.

بمجرد وصولهم اجتمعوا بمجموعة صغيرة جداً من مراسلي الحرب التي كانت موجودة في المدينة المحاصرة. كانوا ينزلون في بيت من ثلاثة طوابق سماه المنشقون “المركز الإعلامي”. كان الثوار يرحبون بأذرع مفتوحة بالصحفيين الذين سيساعدون في نقل معاناة المدينة المحاصرة إلى العالم الخارجي، المدينة التي تقصفها المدفعية السورية منذ شهر. كانت قد سبقتهم إلى هناك مراسلة الصنداي تايمز، ماري كولفن، إحدى أشهر الشخصيات في المجتمع الخاص بمراسلي الحرب.

كانت ماري دائماً أول الواصلين إلى الخط الأمامي وآخرهم مغادَرة، بشجاعتها المنقطعة النظير وعينها التي تغطيها برقعة سوداء نتيجة إصابة لحقت بها في سريلانكا، وكانت قد قررت البقاء في حمص بالرغم من بوادر الاقتحام الوشيك للمدينة من قِبَل الجيش السوري. بول كونروي، مصوّرها، كان أيضاً أحد قدماء المهنة، شأنه في ذلك شأن خافيير إسبينوزا، مراسل الشرق الأوسط في الجريدة اليومية الإسبانية الشهيرة “إل موندو”، والذي يجول منذ أكثر من عشر سنوات كل المناطق الساخنة في أفريقيا والشرق الأوسط.

صباح اليوم التالي، وككل يوم، بدأت حمم المدفعية تنهال على الحي، ولكن هذه المرة كانت قذائف الكاتيوشا الرهيبة -122 مم- التي كان يطلقها الجيش السوري. كانت تسقط قريباً جداً من المنزل. حسب شهادة إديت ووليام: “كان هناك على الأقل خمسة انفجارات متتابعة قريبة جداً، كان لدينا الانطباع فعلاً بأننا مستهدَفون مباشرة. الناشطون السوريون الذين كانوا معنا والذين اعتادوا على ذلك القصف أدركوا مباشرة الخطر المحدق، قالوا لنا: يجب المغادرة فوراً”. بمجرد التقاط الجميع لمعداتهم أسرعوا جميعا باتجاه الباب. ماري كولفن وريمي أوشليك كانا أول الخارجين إلى الشارع الضيق، وسمع شاب سوري صوت قذيفة فأمسك في اللحظة الأخيرة بإديت وويليام عند عتبة الغرفة ومنعهما من الخروج. استقرت القذيفة أمام المبنى الصغير تماماً، كان الانفجار رهيباً، وكان كل من ماري كولفن وريمي أوشليك في الموقع الذي انفجرت فيه القذيفة فقُتلا على الفور.

في المشفى الميداني

في المنزل قذفت قوة الانفجار باب الغرفة باتجاه الداخل. وسط الغبار والركام الذي سبّبه الانفجار أدركت إديت أنها لم تعد قادرة على تحريك رجلها، فصرخت، وتلمس ويليام طريقه إليها وسط دخان كثيف واستطاع سحبها إلى زاوية في الغرفة خلف الثلاجة، ثم لجآ إلى الحمام بانتظار أن تهدأ حمم القصف في الخارج. بمجرد أن هدأ القصف هرع الشاب الذي منع إديت وويليام من الخروج في اللحظة الأخيرة (والذي أنقذ حياتهما بدون شك) هرع لطلب النجدة، ثم عاد بسيارة للجيش السوري الحر نقلتهما إلى مشفى ميداني جهّزه الثوار في شقة صغيرة. إحدى الغرف هُيّئت لتكون غرفة عمليات، وثلاث غرف أخرى هُيئت لتكون غرفاً للعيادة، حيث يعمل ممرضون وأطباء متطوعون ليلاً ونهاراً لتقديم الإسعافات الأولية لعشرات المدنيين الذين يصابون كل يوم: نساء وأطفال ورجال من ضحايا قصف المدفعية السورية الذي لا يتوقف.

مع استمرار القصف من حول البناء حُقنت إديت بالمخدّر لتهدئة الألم وفُحصت إصابتها، تقول: “عملوا صورة شعاعية فاكتشفوا كسراً في عظم الفخذ. قالوا لي: تحتاجين إلى عملية جراحية سريعة، يجب إخراجك من هنا. ومن ثم ابتدأت رحلة الهروب الكبير”.

استقر الصحفيون الأربعة في أكثر المنازل أمناً في بابا عمرو بملاصقة المشفى، وهي مجموعة من المنازل المتلاصقة التي تحيط بفناء ضيق والتي كانت غرفها الداخلية في مأمن نسبي من القصف المنهمر بشكل متواصل. خافيير إسبينوزا و ويليام دانييلز لم يُصابا، أما بول كونروي فكان قد أصيب ولكنه كان قادراً على المشي. إصابة إديث كانت الأكثر خطورة، فبالإضافة إلى عدم تمكنها من الحركة كان الأطباء يخشون من تشكل جلطة في الساق المصابة قد تصل إلى القلب، وعندها سيكون موتها محققاً.

كان حي بابا عمرو محاصراً؛ الشوارع مقطعة والمرتزقة والجيش السوري يفتحون النار على كل شيء يتحرك. الصلة الوحيدة للحي مع العالم الخارجي كانت قناة بطول ثلاثة كيلومترات كانت ما تزال بعض الإمدادات الشحيحة والأدوية تمر من خلالها. كانت تلك القناة هي ممر دخول الصحافيين إلى بابا عمرو، إلا أن إصابة اديت جعلت من المستحيل إدخالها في القناة التي لأن الدخول إليها كان من خلال سلم في فتحة صغيرة (كفتحة المجاري).

انقطاع شبه تام عن العالم الخارجي

كان الأمل يتمثل أولاً في سيارات الإسعاف. طواقم الصليب الأحمر في دمشق وجنيف استنفرت طواقمها واتصلت بالهلال الأحمر السوري وحاولت الحصول على هدنة من قبل القوات التي تحاصر المدينة لإجلاء الجرحى السوريين والأجانب المحاصرين في بابا عمرو. في الداخل لم يكن للصحافيين الأربعة اتصال بالعالم الخارجي إلا بشكل عرضي ومحدود، عدة اتصالات عبر سكايب عن طريق الخط الوحيد للإنترنت الذي استطاع الثوار وصله، ولكنه لم يكن كافياً لأي نوع من أنواع الاتصال المجدي. وكان عليهم فوق ذلك اجتياز الشوارع التي يتربص في أنحائها القناصة للوصول إلى ذلك البناء الذي يوجد فيه خط الاتصال. في بابا عمرو التي تُقصف طوال اليوم- باستثناء ساعة الظهيرة في بعض الأحيان- يبقى الناس مختبئين في بيوتهم طوال اليوم, ثم يخرجون مساء، حيث تعج الشوارع حينها بالناس. تتذكر إيديت: حين تسقط القذائف كانوا يقولون لنا: ها هو بشار يلقي عليكم التحية!

يوم 24 شباط توقف القصف المتواصل فجأة. يقول ويليام: “كانت أول مرة يحدث هذا”. وقد استغل الفرصة، هو وخافيير إسبينوزا، للذهاب لإلقاء نظرة على جثمانَي ماري كولفن وريمي أوشليك اللذين كانا ملفوفَين في قماش وموضوعَين في غرفة مبرّدة نسبيا. قدم لهم السوريون تعازيهم وكانوا قد جمعوا أغراض الصحفيين. كتب هو وخافيير أسماء الفقيدَين على القماش الذي يلفهما ،فقال الثوار: “لا تقلقوا، سنعمل على إخراج الجثمانين معكم”. استعاد ويليام آلة التصوير الخاصة بصديقه ريمي. علبتها الصلبة كانت فارغة تماماً وقد انشطرت نصفين بسبب الانفجار الهائل. عاد الصحفيان بعدها أدراجهما إلى الملجأ.

الصليب الأحمر محتجز على بعد 500 متر

يتذكر ويليام: “في طريق العودة رأينا عدة سيارات إسعاف للهلال الأحمر السوري، ولا أحد من الصليب الأحمر. لمحَنا الطبيبُ السوري الذي يقود القافلة الصغيرة وقال لنا: مرحباً، لا بد أنكما الصحفيان؟ لم نأتِ من أجلكما بل أتينا من أجل الجرحى السوريين، لكني أستطيع توصيلكم بممثل الصليب الأحمر الذي يوجد على بعد500 مترمن هنا. الجيش السوري لا يريد أن يسمح للصليب الأحمر بالتقدم، ولكن إن صعدتم معنا نستطيع أن ننقلكم إليهم في مستشفى حمص”. ثم أردف قائلاً: “عليكم أيضاً أن تشرحوا للسلطات السورية سبب وجودكم هنا”.

من خلال جهاز الراديو الموجود في إحدى سيارات الإسعاف استطاع ويليام أن يتصل بمسؤولة الصليب الأحمر في سوريا ماريان غاسيه، وأن يسألها عن سبب عدم قدرتها على اجتياز الخمسمئة متر التي تفصلها عنهم. قالت إنها تتفهم تماماً مشكلتهم وإنها تتفاوض وعندها أمل كبير في الحصول على تصريح يمكّنها من الوصول إليهم.

“اجتمعنا نحن الأربعة واتفقنا على طلب وجود سيارة على الأقل من الصليب الأحمر في القافلة قبل مغادرتنا. كنا نخاف أن يحدث شيء مشابه لما حدث لجيل جاكييه قبل أن يُقتل في القصف المزعوم للثوار والذي أتى من حيث لا يدري أحد. قلنا لأنفسنا: ستُطلَق علينا النار، وستقول السلطات: إن الإرهابيين قتلوهم”!

مسعف الهلال الأحمر ألمح إلى هجوم متوقع قد يقوم به الجيش السوري الحر أثناء المغادرة، كما أن تصرفات المسعفين السوريين أقلقت الصحفيين أيضاً. يقول ويليام: “بدا وكأنهم يبحثون عن شيء ما، كانوا ينظرون في كل اتجاه”. عندما اكتشفوا غرفة إديت دخل حوالي ثلاثين شخصاً إليها. الجميع يذكر في بابا عمرو أن الجرحى الذين تم إجلاؤهم بواسطة الهلال الأحمر انقطعت أخبارهم ولا أحد يعلم عنهم شيئاً من ذلك الوقت.

الشيء الوحيد الذي ترددنا في فعله هو تسجيل الفيديو

عندما حل الليل كان الصليب الأحمر ما زال ممنوعاً من الدخول وغادرت سيارات الإسعاف (للهلال الأحمر) المكان. يروي إديت وويليام: “قالوا: سنعود لأخذكم خلال عشرين دقيقة، ولكننا لم نرهم بعد ذلك. إلا أنهم بالمقابل كانوا قد حددوا مكاننا بالضبط، وفي المساء سقطت القذائف بجوار مبنانا تماماً. يقول ويليام: “عنّفَنا سفير فرنسا لأننا لم نصعد في سيارات الإسعاف. قالوا لنا أن ننتظر وأن سيارات الإسعاف ستعود في الغد”.

خشي الصحفيون أن تقبض السلطات السورية عليهم، ولكنهم مع ذلك قرروا المغادرة عندما تصل سيارات الإسعاف. تقول إديت: “استعددنا لذلك بتمزيق صفحات كراريسنا وإتلاف شرائح الهاتف المحمول اللبناني الذي كان بحوزنتا لما يحتويه من أرقام، تجنّباً لتوريط أي أحد”. ولكنها تؤكد أن الثوار السوريين لم يطلبوا منهما أي شيء من ذلك ولا هم منعوهم من الصعود في سيارات الإسعاف كما ادّعت روايات النظام.

تقول إديت: “لم يكن لدينا انطباع بأن الجيش الحر يمنع سيارات الإسعاف من الدخول. لقد قبلوا كل طلبات وقف إطلاق النار، ولم يكونوا هم من يقصف المدينة على كل حال. الشيء الوحيد الذي ترددنا بفعله هو تسجيل الفيديو. كان التسجيل فكرتهم، وفي البداية لم نتشجع له، ولكننا لاحظنا خشيتهم الشديدة من أن يدّعي النظام أننا محتجَزون عندهم كرهائن ويُظهرهم على أنهم إرهابيون”.

لكن سيارات الإسعاف لم تعد، أو على الأقل لم تقترب بشكل يمكننا من الوصول إليها. الأحد مساء أُنذر الحي الثائر بأن دبابات الفرقة الرابعة المرعبة الخاصة بماهر الأسد قد وصلت للدعم، لقد بات الهجوم النهائي وشيكاً في صباح اليوم التالي بلا شك. تتذكر إديت: “قال لنا السوريون إنهم سيحاولون إجلاء كل الجرحى وعرضوا علينا أن نكون من بينهم”. قرر الصحفيون عدم ترك تلك الفرصة الأخيرة تفلت من بين أيديهم.

قام ويليام والممرضون بوضع إديت على نقّالة وثبتوها بلفها بشريط لاصق. “من حسن حظي -نظراً لما سيحدث لاحقاً- أنني كنت ملصقة تماماً على النقّالة”. حُمل الجرحى في السيارات وتم نقلهم ليلاً حتى مدخل النفق. تقول إديت: “كان هناك العشرات من الجرحى، ووقتها فقط استطعت أن أرى الإصابات الفظيعة لبعضهم لأدرك أن إصابتي كانت أقل بكثير من أن تكون أسوأ الإصابات”.

عبور النفق: محاولة لم تنجح

حالة إديت كانت من أصعب الحالات نقلاً، لذلك كانت من أواخر من دخل النفق. أدخلها المسعفون ملصَقة على نقالتها بشكل عمودي في الفتحة الضيقة، الممر الضيق يبلغ ارتفاعه160 سموكنا نتقدم منحنين تماماً. كنا نتجاوز بعضنا بعضاً بصعوبة، فالنفق كان مليئاً بالناس الهاربين من الحي. كانت قافلة الجرحى تتقدم ببطء، وكان النفق منهاراً في بعض الأماكن. الظلام كان تاماً وكنا نتقدم على ضوء المصابيح التي تثبّت على الجبين. خافيير إسبينوزا وبول كونروي كانا في المقدمة. أربعة متطوعين كانوا يتناوبون فيما بينهم على حمل إديت كل ثلاثين متراً، وما إن شارفوا على الوصول إلى الطرف الآخر من النفق حتى ابتدأت موجة من الفزع تحت الأرض. الجيش السوري كان قد أطلق للتو قذيفة مدفعية على مدخل النفق! بول كونروي، الذي كان قد وصل إلى الخارج، انفصل هو ومجموعته عن الآخرين واختفوا في الظلام تحت المطر. خافيير إسبينوزا الذي حَمل جريحاً إلى المأمن وجد نفسه هو الآخر معزولاً مع مجموعة صغيرة أخرى.

إديت وويليام بقيا محبوسَين تحت الأرض. كانت الفوضى تعم النفق؛ أصوات الانفجارات تدوي في النفق الذي امتلأ بالغبار ورائحة المتفجرات النفّاذة. انتهى الأمر بالمسعفين بترك إديت على الأرض ليبحثوا عن النجدة. تقول إديت: “أحدهم وضع سلاحه الكلاشنيكوف عليّ ثم وضع يده على جبيني وردد دعاء، ثم ذهب. لم أكن مطمئنة”.

وجد ويليام وإديت نفسيهما وحيدَين في الظلام وسط الظلام والدخان، ودوّت أصوات طلقات نارية. نقول إديت: “لم نكن نعلم شيئاً، لم نكن نفهم شيئاً مما يجري، هل كان المخرج مسدوداً؟ هل سينزل الجنود السوريون؟ كانت لديّ رغبة قوية للهرب، ثم تذكرت أني مقعَدة”. حاول ويليام سحب النقالة ولكنه أدرك سريعاً أنه من المستحيل على رجل واحد أن يسحب الحمل الثقيل لمسافة تزيد على الكيلومترين، كما أن النفق أضيق من أن يتمكن من حملها على ظهره. فجأة علا صوتُ محرك في النفق، دراجة نارية، راكب وحيد متهوّر على دراجته المتهالكة كان قد جاء ليرى إن كان قد بقي أحدٌ من الجرحى، ووصل ناحيتهما. دراجتان أو ثلاث كهذه كانت مهمتها نقل الأشخاص وبعض الإمدادات داخل النفق، وكانوا يجدون صعوبة في الدوران للعودة على أعقابهم داخل النفق حتى في الأماكن التي يتسع فيها النفق قليلاً.

يروي ويليام: “دُهش لرؤيتنا هناك”. بمساعدة راكب الدراجة المعجزة انتزع إديت من “شرنقتها” من الأشرطة اللاصقة ووضعها على مقعد الدراجة، وطوى ركبتها وقدمها بأكثر حذر ممكن حتى تستطيع الثبات على الدراجة بقدر الإمكان، ليبدأ من هنا سباق العودة المحموم. الدراجة المثقلة تندفع في القناة وعليها ثلاثة ركاب منحنين تحت السقف الذي كان يحتك برؤوسهم، وتتوجه بهم نحو مدخل النفق. تقول إديت: “كانت الدراجة تصطدم بجدران النفق، وكدنا نقع. اصطدمت عدة مرات، ثم لاحظت أني أنزف من الرأس. وبعكس كل التوقعات استطاعوا العودة إلى المدخل، ورُفعت إديت إلى فتحة المخرج.

عملية جراحية طارئة

على السطح رأى الناشطون السوريون بذهول إديت تظهر من فتحة النفق بالسروال الداخلي والجوارب، حيث إنها فقدت غطاءها الذي كان يلفّها، وبرجلها المجبرة ووجهها الذي يغطيه الدم، وتطلب منهم لفافة سجائر! حملها أحد الثوار على ظهره وتوجه بها إلى سيارة. عندما وصلت ثانية إلى المشفى دُهش الأطباء بدورهم لرؤيتها. “قال لي أحدهم: ماذا تفعلين هنا؟ أتريدين أن تنتهي حياتك هنا؟ رددت عليه: إن كان بعد عمر طويل فلا مانع، ولكن ليس الآن”.

بدا الأطباء قلقين من عواقب تلك المغامرة على ساقها، وقرروا إخضاعها لعملية جراحية مستعجَلة. بعد السباق المجنون تحت الأرض وليلة الرعب حُقنت بمادة الكيتامين، وهو مسكن قوي ومعروف بتأثيره المخدر، وأخضعت لجراحة عاجلة. عندما استفاقت في الصباح الباكر عرض عليها الثوار السوريون الحل الأخير المتبقي، وهو الحل الأكثر خطراً: الخروج من حمص بالسيارة عن طريق مسالك سرية. تقول إديت: “وافقنا لأننا شعرنا بأننا على حافة الانهيار جسدياً ونفسياً، كان لا بد من الخروج”.

ليس من الممكن الكشف عن تفاصيل ذلك الطريق حتى لا تتعرض إلى الخطر حياةُ الكثير من الأشخاص الذين ساعدوهم في ذلك الجزء من الرحلة، لكن الصعوبات كانت جلية والعملية تتضمن مخاطر جمّة؛ لا بد لهم أولاً اجتياز الطوق الذي يضربه الجيش حول المدينة بشكل شبه تام، ومن ثم الالتفاف حول العديد من الحواجز قبل اجتياز حقول الألغام المزروعة على طول الحدود اللبنانية، علاوة على أن وجودهم في المدينة صار معروفاً تماماً وأن نظام دمشق وضع رجاله في حالة تأهب قصوى. ومما زاد من تعقيد الأمر أنهم أثناء التنقل كانوا يتصورون إمكانية تجاوز حواجز التفتيش بعد التخفي بغطاء رأس، وهو ما لم يعد ممكناً، فوجوههم صارت معروفة بعد بثّ صورهم على جميع وسائل الإعلام. بالإضافة إلى أن أنباء وصول بول كونروي ثم خافيير إسبينوزا كان قد وضع السوريين في حالة تأهب قصوى. إنهم مطارَدون الآن على أوسع نطاق. مع ذلك سيحاول الجيش الحر المستحيل. سيسخّر المنشقون كل شبكاتهم وقنوات التهريب لإخراجهما، واستمروا يقولون للعالم بأنهما ما يزالان في حمص للتمويه وخلط الأوراق.

أربعة أيام لقطع أربعين كيلومتراً

في الريف المحيط بحمص، وفي قلب عاصفة الثلج والبرَد التي كانت تهبّ على المنطقة، انتقل الهاربون من مخبأ إلى مخبأ. استُقبلوا -بالرغم من المخاطر- في بيوت كان أصحابها يحيّونهم بأسمائهم. كان طريقهم في كل مرة يُستكشَف بدقة بواسطة كشافة يعرفون كل الطرق الفرعية. احتاجوا إلى أربعة أيام لقطع الأربعين كيلومتراً التي تفصلهم عن الحدود اللبنانية، تروي إديت: “لقد عرّضوا حياتهم حقاً إلى الخطر من أجلنا، عملوا كل شيء من أجلنا”.

شيئاً فشيئاً وبالانتقال من سيارة لأخرى، مرة في مؤخرة سيارة بيك أب ومرة في مخزن شاحنة تهتز فوق الطرقات الحجرية الجبلية، تقدّموا ببطء نحو الحدود اللبنانية، ووصلوا إليها أخيراً بحلول مساء الخميس. بعد عبور الحدود بعدة أمتار كلّمت إديت والديها لطمأنتهم؛ “لم اقل لهما أين أنا، قلت لهما فقط إني سليمة معافاة”.

الرابط الأصلي للمقالة:

ترجمة: جنان أسامي العوف

 

المصدر: مدونة الزلزال السوري

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع